نجاح القاري لصحيح البخاري

حديث: لا هجرة بعد الفتح

          3899- (حَدَّثَنِي) بالإفراد (إِسْحَاقُا بْنُ يَزِيدَ الدِّمَشْقِيُّ) هو: إسحاق بن إبراهيم بن يزيد الفراديسي أبو النضر الدِّمشقي، نسبه هنا إلى جدِّه، وقد مرَّ في «الزكاة» [خ¦1405] و«الجهاد» [خ¦2924] بأنه الفراديسي الكلاباذيُّ، وكذا ذكره آخرون، وتفرَّد الباجي فقال: خراساني، ولم يَعْرِفْ من حاله زيادة على ذلك، وقول الجماعة أولى وهو من أفراد البخاري قال: (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ حَمْزَةَ) الحضرمي الشَّامي أبو عبد الرَّحمن قاضي دمشق. وقال ابنُ سعد: كان منكر الحديث، وقد مرَّ في «الصوم» [خ¦1945] قال: (حَدَّثَنِي) بالإفراد (أَبُو عَمْرٍو الأَوْزَاعِيُّ) واسمه: عبدُ الرحمن (عَن عَبْدَةَ) ضد الحرة (ابْنِ أَبِي لُبَابَةَ) بضم اللام وتخفيف الموحدة الأولى، الأسدي الكوفي سكن الشام، وكنيته أبو القاسم ولا يعرف اسم أبيه. قال الأوزاعيُّ: لم يقدم علينا من العراق أفضل منه.
          (عَنْ مُجَاهِدِ بْنِ جَبْرٍ) ضد الكسر (الْمَكِّيِّ) القارئ المفسر (أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ ☻ كَانَ يَقُولُ: لاَ هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ) والحديث موقوف، وسيأتي الكلام فيه في الحديث الذي بعده [خ¦3900].
          (قال يَحْيَى بْنُ حَمْزَةَ) هو: يحيى بن حمزة المذكور فيما قبله، وهو متَّصل بما قبله، وقد أفردهما في أواخر «غزوة الفتح» [خ¦4311] [خ¦4312]، وأورد كل واحدٍ منهما عن إسحاق بن يزيد المذكور بإسناده.
          3900- (وَحَدَّثَنِي الأَوْزَاعِيُّ عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ) وفي رواية ابن حبَّان: حدَّثنا عطاء أنَّه (قَالَ: زُرْتُ عَائِشَةَ ♦ مَعَ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ) بصيغة التصغير فيهما (اللَّيْثِيِّ) وقد تقدَّم في أبواب الطَّواف من «الحجِّ» [خ¦1618] أنها كانت حينئذٍ مجاورة في جبل ثبير (فَسَأَلْنَاهَا عَنِ الْهِجْرَةِ) أي: التي كانت قبل الفتح واجبة إلى المدينة، ثمَّ نسخت / بعد الفتح (فَقَالَتْ: لاَ هِجْرَةَ الْيَوْمَ) أي: بعد الفتح، ووقع عند الأموي في «المغازي» من وجه آخر عن عطاء فقالت: إنما كانت الهجرة قبل فتح مكَّة والنَّبي صلعم بالمدينة.
          (كَانَ الْمُؤْمِنُونَ يَفِرُّ أَحَدُهُمْ بِدِينِهِ إِلَى اللَّهِ وَإِلَى رَسُولِهِ مَخَافَةَ أَنْ يُفْتَنَ عَلَيْهِ، فَأَمَّا الْيَوْمَ فَقَدْ أَظْهَرَ اللَّهُ الإِسْلاَمَ، وَالْيَوْمَ يَعْبُدُ رَبَّهُ حَيْثُ شَاءَ) فإن مكَّة صارت بعد الفتح دار إيمان ودخل الناس في الإسلام من جميع القبائل، فارتفعت الهجرة الواجبة وبقي الاستحباب (وَلَكِنْ جِهَادٌ) أي: بقي جهاد (وَنِيَّةٌ) أي: ثواب النِّية في الهجرة، أو في الجهاد.
          قال الحافظُ العسقلاني: أشارت عائشة ♦ بقولها: كان المؤمنون...إلى آخره إلى بيان مشروعيِّة الهجرة وأنَّ سببها خوف الفتنة، والحكم يدورُ مع علَّته فمقتضاه أن من قَدِرَ على عبادة الله تعالى في أيِّ موضع اتَّفق لم تجب عليه الهجرة منه وإلَّا وجبت.
          ومن ثمَّة قال الماوردي: إذا قدر على إظهار الدين في بلد من بلاد الكفر فقد صارت البلدة دار إسلام فالإقامة فيها أفضل من الرِّحلة عنها لما يترجَّى من دخول غيره في الإسلام.
          وقد تقدَّمت الإشارة إلى ذلك في أوائل «الجهاد»، في باب «وجوب النَّفير» [خ¦2825] في الجمع بين حديث ابن عبَّاس ☻ : «لا هجرة بعد الفتح» [خ¦2825]، وحديث عبد الله بن السَّعدي: لا تنقطع الهجرة.
          وقال الخطَّابي: كانت؛ أي: الهجرة إلى النَّبي صلعم في أول الإسلام مطلوبة، ثم افتُرِضَتْ لمَّا هاجر إلى المدينة إلى حضرته للقتال معه وتعلم شرائع الدِّين وقد أكَّد الله تعالى ذلك في عدة آيات حتى قطع الموالاة بين من هاجر ولم يهاجر فقال: {وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا} [الأنفال:72] فلما فتحت مكَّة ودخل النَّاس في الإسلام من جميع القبائل انقطعت الهجرة الواجبة وبقي الاستحباب.
          وقال البغوي في «شرح السُّنة»: يحتمل الجمع بينهما / بطريق أخرى فقوله: «لا هجرةَ بعد الفتح»؛ أي: من مكَّة إلى المدينة، وقوله: «لا تنقطع»؛ أي: من دار الكفر في حقِّ من أسلم إلى دار الإسلام قال: ويحتمل وجهاً آخر وهو أن قوله: «لا هجرة»؛ أي: إلى النَّبي صلعم حيث كان بنية عدم الرُّجوع إلى الوطن المهاجَر منه إلَّا بإذن.
          وقوله: «لا تنقطع»؛ أي: هجرة من هاجر على غير هذا الوصف من الأعراب ونحوهم.
          وقال الحافظُ العسقلاني: والذي يظهر أنَّ المراد بالشِّق الأوَّل وهو المنفي ما ذكره في الاحتمال الذي قبله. وقد أفصحَ ابن عمر ☻ بالمراد فيما أخرجه الإسماعيليُّ بلفظ: «انقطعتْ الهجرة بعد الفتح إلى رسول الله صلعم ولا تنقطعُ الهجرة ما قُوتل الكفَّار»؛ أي: ما دام في الدنيا دار كُفْر، فالهجرةُ واجبة منها على من أسلم وخشي أن يفتنَ عن دينه.
          ومفهومه أن لو قُدِّر أنْ لا يبقى في الدُّنيا دار كفر أنَّ الهجرة تنقطع لانقطاع موجبها، والله تعالى أعلم.
          وأطلق ابن التِّين أنَّ الهجرة من مكَّة إلى المدينة كانت واجبة، وأنَّ من أقام بمكَّة بعد هجرة النَّبي صلعم إلى المدينة بغير عذرٍ كان كافراً، وهو إطلاقٌ مردودٌ.