نجاح القاري لصحيح البخاري

حديث: إن أباك والله خير من أبي

          3915- (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بِشْرٍ) بكسر الموحدة وسكون المعجمة، أبو زكريا البلخي، وكان من عباد الله الصَّالحين، وقد مرَّ في «الحجِّ» [خ¦1523]، قال: (حَدَّثَنَا رَوْحٌ) بفتح الراء وبالمهملة، ابن عُبادة، بضم المهملة، قال: (حَدَّثَنَا عَوْفٌ) بالفاء هو الأعرابي (عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ قُرَّةَ) بضم القاف وتشديد الراء، أنَّه (قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو بُرْدَةَ) بضم الموحدة، واسمه: عامر (ابْنُ أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيُّ) عبدُ الله بن قيس ☺ (قَالَ: قَالَ لِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ ☻ : هَلْ تَدْرِي مَا قَالَ أَبِي لأَبِيكَ) وقعت في هذا الحديث زيادة من رواية سعيدِ بن أبي بُرْدة عن أبيه قال: صلَّيت إلى جنبِ ابن عمر ☻ ، فسمعتُه حين سجدَ يقول، فذكر ذِكْراً، وفيه: «ما صلَّيت صلاةً منذ أسلمت إلَّا وأنا أرجو أن تكون كفَّارة» وقال لأبي بُرْدة: علمت أنَّ أبي، فذكر حديث الباب.
          قال الحافظُ العسقلاني: روِّيناه في الجزء السادس من «فوائد أبي محمد بن صاعد».
          (قَالَ: قُلْتُ: لاَ، قَالَ: فَإِنَّ أَبِي قَالَ لأَبِيكَ: يَا أَبَا مُوسَى، هَلْ يَسُرُّكَ إِسْلاَمُنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلعم ، وَهِجْرَتُنَا مَعَهُ، وَجِهَادُنَا مَعَهُ، وَعَمَلُنَا كُلُّهُ مَعَهُ) ويروى: <وعملنا كلنا معه> (بَرَدَ لَنَا) بفتح الموحدة والراء بلفظ الماضي؛ أي: ثبتَ لنا وسَلِمَ ودام، يقال: بَرَد لي على الغريم حقٌّ؛ أي: ثبت، وفي رواية سعيد بن أبي بردة: «خلص» بدل: «بَرَدَ» (وَأَنَّ كُلَّ عَمَلٍ عَمِلْنَاهُ بَعْدَهُ نَجَوْنَا مِنْهُ كَفَافاً) أي: سواء بسواء لا موجباً ثواباً ولا عقاباً، كذا فسَّره الكرماني والعسقلاني. وفي رواية سعيد بن أبي بردة: «لا لك ولا عليك». /
          وقال العيني: التحقيق فيه: هو أنَّ الكفاف هو الذي لا يفضل عن الشَّيء، ويكون بقدر الحاجةِ، وهو نصب على الحال. وقيل: أرادَ به مكفوفاً عنِّي شرها. وقيل: معناه: أن لا ينالَ منِّي ولا أن أنالَ منه؛ أي: يكفُّ عني وأكفُّ عنه.
          (رَأْساً بِرَأْسٍ) الظَّاهر أنَّه تفسير لقوله: «كفافاً» (فَقَالَ أَبِي: لاَ وَاللَّهِ) كذا وقع، والصَّواب: قال أبوك؛ لأنَّ ابن عمر ☻ هو الذي يحكي لأبي بردة ما دارَ بين عمر وأبي موسى ☻ . وقد وقعَ في رواية النَّسفي على الصَّواب، ولفظه: «فقال أبوك: لا والله».
          (قَدْ جَاهَدْنَا بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلعم وَصَلَّيْنَا، وَصُمْنَا، وَعَمِلْنَا خَيْراً كَثِيراً، وَأَسْلَمَ عَلَى أَيْدِينَا بَشَرٌ كَثِيرٌ، وَإِنَّا لَنَرْجُو ذَلِكَ. فَقَالَ أَبِي: لَكِنِّي أَنَا) هذا إلى آخره كلام عمر ☺ (وَالَّذِي نَفْسُ عُمَرَ بِيَدِهِ، لَوَدِدْتُ أَنَّ ذَلِكَ بَرَدَ لَنَا، وَأَنَّ كُلَّ شَيْءٍ عَمِلْنَاهُ بَعْدُ نَجَوْنَا مِنْهُ كَفَافاً رَأْساً بِرَأْسٍ. فَقُلْتُ) القائل: هو أبو بردة خاطب بذلك ابن عمر ☻ .
          (إِنَّ أَبَاكَ وَاللَّهِ خَيْرٌ مِنْ أَبِي) أراد أنَّ عمر ☺ خيرٌ من أبي موسى من الحيثية المذكورة أيضاً، إذ من المقرَّر أنَّ عمر ☺ أفضلُ من أبي موسى ☺ عند جميع الطَّوائف، لكن لا يمتنع أن يفوقَ بعض المفضولين بخصلة لا تستلزم الأفضليَّة المطلقة. ومع هذا فعمر ☺ في هذه الخصلة المذكورة أيضاً أفضلُ من أبي موسى ☺؛ لأنَّ مَقام الخوف أفضل من مَقام الرَّجاء.
          وإنَّما قال عمر ☺ ما قال هضماً لنفسه، أو لِمَا رأى أنَّ الإنسان لا يخلو عن تقصيرٍ ما في كلِّ خيرٍ يعمله، أراد أن يقعَ التَّقاص بينهما، ويبقى هو في الدِّين سالماً، وإلَّا فمقامُ عمر ☺ في الفضائل والكمالات أشهرُ من أن يُذكر. وفي رواية سعيد بن بردة: «إنَّ أباك والله أفقَه من أبي».
          ومطابقة الحديث للترجمة في قوله: «وهجرتنا معه».