نجاح القاري لصحيح البخاري

حديث: إني أريت دار هجرتكم ذات نخل بين لابتين

          3905- 3906- (حَدَّثَنَا يَحْيَى ابْنُ بُكَيْرٍ) قال: (حَدَّثَنَا اللَّيْثُ) هو: ابنُ سعد (عَنْ عُقَيْلٍ) بفتح العين أنَّه قال: (قَالَ ابْنُ شِهَابٍ) الزُّهري (وَأَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ أَنَّ عَائِشَةَ) ♦ (زَوْجَ النَّبِيِّ صلعم ، قَالَتْ: لَمْ أَعْقِلْ أَبَوَيَّ) هما أبو بكر وأم رومان ☻ ، ولفظ: «أبويَّ»، تثنية مضافة إلى ياء المتكلم منصوب على المفعولية.
          (قَطُّ إِلاَّ وَهُمَا يَدِينَانِ الدِّينَ) أي: دين الإسلام، وهو منصوبٌ بنزع الخافض؛ أي: بالدين، قال الحافظ العسقلانيُّ: أو هو مفعول به على التجوُّز. وتعقَّبه / العيني فقال: إذا قلنا معنى «يدينان»: يُطيعان من الدين بمعنى الطِّاعة لا يحتاج إلى تقدير؛ لأنَّ المعنى حينئذٍ إلَّا وهما يطيعان الدين؛ أي: الإسلام، وكلُّ من يطيع الإسلام فهو مسلم، فقوله: على التَّجوز فيه نظرٌ لا يخفى، انتهى، وأنت خبير بأنَّ كلامه لا محصِّل له.
          (وَلَمْ يَمُرَّ عَلَيْنَا يَوْمٌ إِلاَّ يَأْتِينَا فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صلعم طَرَفَيِ النَّهَارِ، بُكْرَةً وَعَشِيَّةً، فَلَمَّا ابْتُلِيَ الْمُسْلِمُونُ) أي: بأذى المشركين من قريش وغيرهم لمَّا حصروا بني هاشم والمطلب في شِعْب أبي طالب، وأذن النَّبي صلعم لأصحابه في الهجرة إلى الحبشة، كما تقدَّم بيانه [خ¦2297].
          (خَرَجَ أَبُو بَكْرٍ مُهَاجِراً نَحْوَ أَرْضِ الْحَبَشَةِ) أي: ليلحق بمن سبقه إليها من المسلمين، وقد تقدَّم أنَّ الذين هاجروا إلى الحبشة أوَّلاً ساروا إلى جدَّة وهي ساحلُ مكة، فركبوا منها البحر إلى الحبشة.
          (حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَرْكَ الْغِمَادِ) البرك: بفتح الموحدة وسكون الراء بعدها وبالكاف، وحكى الجوهريُّ: كسر أوَّله، مثل: القرد موضع بناحية اليمن، وأمَّا الغِماد، بكسر الغين المعجمة. وقال ابنُ فارس: بضم الغين المعجمة وتخفيف الميم وبالدال المهملة، وهي موضعٌ على خمس ليال من مكَّة إلى جهة اليمن ممَّا يلي ساحل البحر. وفي «التوضيح»: بَرْك الغِماد: موضع في أقاصي هجر.
          (لَقِيَهُ ابْنُ الدُّغُنَّةِ) بضم الدال المهملة والغين المعجمة وتشديد النون، عند أهل اللُّغة، وعند المحدِّثين: بفتح أوله وكسر ثانيه وفتح النون المخففة. قال الأَصيلي: وقرأه لنا المروزيُّ بفتح الغين، وقيل: إنَّ ذلك كان لاسترخاء في لسانه، والصَّواب فيه الكسر، وثبت فيه التخفيف والتشديد. وقال الجيانيُّ: روِّيناه بهما؛ أي: بما عند أهل اللُّغة، وبما عند المحدِّثين، وهي اسم أمِّه، وقيل: أم أبيه. ومعنى الدغنة: المسترخية وأصلها الغَمامة الكثيرة المطر.
          واختلف في اسمه فعند البلاذُري من طريق الواقدي عن مَعْمر عن الزُّهري أنَّه الحارث بن يزيد، وحكى السُّهيلي أنَّ اسمه مالك. وقال الكرماني: قال ابنُ إسحاق: اسمه رَبيعة _بفتح الراء_، وأما الدُّغنة فهو اسم أمه.
          وقال الحافظ العسقلاني: وهو وهمٌ من الكرماني، فإنَّ ربيعة المذكور آخر، يُقال له: ابن الدُّغنة أيضاً / لكنَّه سلمي، والمذكور هنا من القارة فاختلفا. وأيضاً السلمي إنما ذكره ابنُ إسحاق في غزوة حُنين وأنَّه صحابي قَتَل دُرَيد بن الصِّمَّة لم يذكره ابن إسحاق في قصَّة الهجرة.
          وفي الصَّحابة ثالث يُقال له: ابن الدغنة، لكن اسمه: حابس، وهو كلبي له قصَّة في سبب إسلامه، وأنَّه رأى شخصاً من الجنِّ فقال له:
يَا حَابِسُ بْنَ دَغِنَةَ يَا حَابِسُ
          في أبيات وهو مما يرجِّح رواية التخفيف في الدغنة، انتهى.
          وقال العينيُّ: لا ينسب الكرماني إلى الوهم؛ لأنه نقل عن ابنِ إسحاق أنَّه قال: ابن الدغنة اسمه: ربيعة بن رفيع، ولم يذكر أنه سلميٌّ أو من القارة، فالوهم من غيره، وأمَّا السلمي فذكره أبو عمر وقال: ربيعة بن رُفَيع بن أُهْبان بن ثعلبة السلمي، كان يقال له: ابن الدُّغنة، وهي أمه، فغلبت على اسمه، شهد حُنيناً، ثم قدم على رسول الله صلعم في بني تميم، وهو الذي قتل دريد بن الصمَّة يوم حنين، وآخر يقال له: ابنُ الدغنة يسمَّى حابس، ذكره أبو عمر، وذكره الذَّهبي عنه وقال: حابس بن دغنة الكلبي له قصة في أعلام النُّبوة، وله صحبة ورؤية.
          (وَهْوَ سَيِّدُ الْقَارَةِ) بالقاف وتخفيف الراء، وهي قبيلةٌ مشهورةٌ من بني الهُون _بالضم والتخفيف_ ابن خُزيمة بن مُدركة بن إلياس بن مضر، وكانوا حلفاء بني زهرة من قريش، وكانوا يضرب بهم المثل في قوَّة الرَّمي.
          قال الشاعر:
قَدْ أَنْصَفَ القَارَةَ مَنْ رَامَاهَا
          (فَقَالَ: أَيْنَ تُرِيدُ يَا أَبَا بَكْرٍ؟ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَخْرَجَنِي قَوْمِي) لم يخرجوه حقيقة، ولكنهم تسبَّبوا في خروجه (فَأُرِيدُ أَنْ أَسِيحَ) بالسين والحاء المهملتين، من السِّياحة (فِي الأَرْضِ) يقال: ساح في الأرض يسيحُ سياحة إذا ذهب فيها. وأصله من السَّيح، وهو الماء الجاري المنبسط على وجه الأرض. ومعناه هنا: إرادة مفارقة الأمصار، وسُكنى البراري.
          وإنَّما قال أبو بكر ☺: أريد أن أسيحَ ولم يذكر جهةَ مقصده مع أنَّه قصد التوجُّه إلى أرض الحبشة؛ لأنَّ ابن الدغنة كان كافراً، ومن المعلوم أنَّه لا يصل إليها من الطَّريق التي قصدها حتَّى يسيرَ في الأرض / وحدَه زماناً فيقصد أنَّه سائح، لكن حقيقة السِّياحة: أن لا يقصد موضعاً بعينه يستقر فيه.
          (وَأَعْبُدَ رَبِّي. قَالَ ابْنُ الدُّغُنَّةِ: فَإِنَّ مِثْلَكَ يَا أَبَا بَكْرٍ لاَ يَخْرُجُ) بفتح حرف المضارعة وضم الراء (وَلاَ يُخْرَجُ) بضم حرف المضارعة وفتح الراء (إِنَّكَ تَكْسِبُ الْمَعْدُومَ) وفي رواية الكشميهني: <المُعْدَم> ومعنى «تكسب المعدوم»: تعطيه المال، وتملكه إيَّاه، يُقال: كسبت الرَّجل مالاً وأكسبتُه. وقال الخطَّابي: وأوضح اللُّغتين حذف الألف، ومنع القزَّار إثباتها، وجوزها ابنُ الأعرابي.
          (وَتَصِلُ الرَّحِمَ، وَتَحْمِلُ الْكَلَّ) بفتح الكاف وتشديد اللام، وهو ما يثقُلُ حمله من القيام بالعيالِ ونحوه ممَّا لا يقوم بأمر نفسه (وَتَقْرِي الضَّيْفَ، وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ) جمع نائبة، ومعناه: تُعين بما تقدر عليه مَنْ أصابته نوائب؛ أي: ينزل به من المهمَّات والحوادث.
          وفي موافقة وصف ابنِ الدُّغنة لأبي بكر ☺ بمثل ما وصفت به خديجة ♦ النَّبيَّ صلعم ما يدلُّ على عِظَمِ فضل أبي بكر ☺، واتِّصافه بالصَّفات البالغة في أنواع الكمال.
          (فَأَنَا) ويروى: <وأنا> بالواو (لَكَ جَارٌ) أي: مجير أمنع من يُؤذيك، والجار: النَّاصر الحامِي المانع المدافع (ارْجِعْ وَاعْبُدْ رَبَّكَ بِبَلَدِكَ، فَرَجَعَ) أي: أبو بكر ☺ (وَارْتَحَلَ مَعَهُ) أي: مع أبي بكر ☺ (ابْنُ الدُّغُنَّةِ) وقد تقدَّم في «الكفالة» [خ¦2297]: «وارتحل ابنُ الدُّغنة، فرجع مع أبي بكر ☺» والمراد في الرِّوايتين مطلق المصاحبة، وإلَّا فالتَّحقيق ما في هذا الباب.
          (فَطَافَ ابْنُ الدُّغُنَّةِ عَشِيَّةً فِي أَشْرَافِ قُرَيْشٍ فَقَالَ لَهُمْ: إِنَّ أَبَا بَكْرٍ لاَ يَخْرُجُ مِثْلُهُ وَلاَ يُخْرَجُ، أَتُخْرِجُونَ رَجُلاً يَكْسِبُ الْمَعْدُومَ، وَيَصِلُ الرَّحِمَ، وَيَحْمِلُ الْكَلَّ، وَيَقْرِي الضَّيْفَ، وَيُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ) والمعنى: لا يَخْرُج مثله من وطنهِ باختياره على نيَّة الإقامة في غيره مع ما فيه من النَّفع المتعدِّي لأهل بلده. «ولا يُخرَج» أي: لا يخرجه أُحد غيرُه بغير اختياره؛ / للمعنى المذكور.
          واستنبط بعضُ المالكيَّة من هذا أنَّ من كانت فيه منفعة متعدِّية لا يُمكَّن من الانتقال عن بلدهِ إلى غيره بغير ضرورة راجحة.
          (فَلَمْ تُكَذِّبْ) من التَّكذيب (قُرَيْشٌ بِجِوَارِ) بكسر الجيم وضمها (ابْنِ الدُّغُنَّةِ) أراد أنَّ أحداً منهم لم يَرُدَّ قوله في أمان أبي بكر ☺، ولم يمنع أحدٌ جواره، وكلُّ من كذَّب بشيءٍ فقد ردَّه، فأطلق التَّكذيب وأراد لازمه.
          وتقدَّم في «الكفالة» بلفظ: «فأنفذت قريش جوار ابن الدغنة، وأمَّنت أبا بكر ☺» [خ¦2297].
          (وَقَالُوا لاِبْنِ الدُّغُنَّةِ: مُرْ أَبَا بَكْرٍ فَلْيَعْبُدْ رَبَّهُ فِي دَارِهِ) عطف على محذوفٍ تقديره: مر أبا بكر لا يتعرَّض إلى شيء، وليقعد في حاله، فليعبد ربَّه في داره (فَلْيُصَلِّ فِيهَا وَلْيَقْرَأْ مَا شَاءَ، وَلاَ يُؤْذِينَا بِذَلِكَ) أي: بما يصدرُ منه من صلاته وقراءته (وَلاَ يَسْتَعْلِنْ بِهِ، فَإِنَّا نَخْشَى أَنْ يَفْتِنَ نِسَاءَنَا وَأَبْنَاءَنَا) بالنصب على المفعولية، وفاعله أبو بكر ☺ كذا لأبي ذرٍّ، وللباقين: <أن يُفتَن> بضم أوله <نساؤنا> بالرفع على البناء للمفعول.
          (فَقَالَ ذَلِكَ ابْنُ الدُّغُنَّةِ لأَبِي بَكْرٍ، فَلَبِثَ أَبُو بَكْرٍ) أي: مكث على ما شرطوا عليه، ولم يبيِّن فيه مدة المكث، وتقدم في «الكفالة» بلفظ: «فطفق» [خ¦2297] أي: جعل (يَعْبُدُ رَبَّهُ فِي دَارِهِ، وَلاَ يَسْتَعْلِنُ بِصَلاَتِهِ وَلاَ يَقْرَأُ فِي غَيْرِ دَارِهِ، ثُمَّ بَدَا لأَبِي بَكْرٍ) أي: ظهر له رأي غير الرأي الأول (فَابْتَنَى مَسْجِداً بِفِنَاءِ دَارِهِ) بكسر الفاء وتخفيف النون وبالمد، وهي سعة أمام الدار. وقيل: ما امتدَّ من جوانب البيت.
          (وَكَانَ يُصَلِّي فِيهِ، وَيَقْرَأُ الْقُرْآنَ، فَيَتَقَذَّفُ) على وزن يتفعَّل _بالمثناه والقاف والذال المعجمة_ الثَّقيلة من القذف (عَلَيْهِ نِسَاءُ الْمُشْرِكِينَ وَأَبْنَاؤُهُمْ) أي: يتدافعون، فيقذف بعضُهم بعضاً فيتساقطون عليه. ويروى: <فيتقصَّف> بالصاد المهملة؛ أي: يزدحمون عليه حتى يسقطَ بعضهم على بعض، وينكسرَ، وأطلق «يتقصف» مبالغة.
          وقال الخطَّابي: هذا هو المحفوظُ، وأمَّا «يتقذَّف» فلا معنى له إلَّا أن يكون من القذف، فيرجع إلى معنى «يتقصَّف». وفي رواية الكُشميهني: بنون وقاف مفتوحة وصاد مهملة مكسورة، كذا قال العيني. وقال الحافظ العسقلانيُّ: بنون وسكون القاف وكسر الصاد؛ أي: يسقط.
          (يَعْجَبونَ مِنْهُ وَيَنْظِرونَ إِلَيْهِ وَكانَ أَبو بَكْرٍ رَجُلاً بَكَّاءً) بالتشديد على وزن فعَّال / صيغة المبالغة؛ أي: كثير البكاء.
          (لاَ يَمْلِكُ عَيْنَيْهِ) أي: لا يُطيق إمساكها عن البكاء من رقَّة قلبه (إِذَا قَرَأَ الْقُرْآنَ) «إذا» ظرفية، والعامل فيه «لا يملك»، أو شرطيَّة والجزاء مقدَّر؛ أي: إذا قرأ القرآن لا يملك عينيه ونحو ذلك (فَأَفْزَعَ ذَلِكَ) أي: أخاف ما فعله أبو بكر ☺ من صلاته وقراءته وتعبُّده لله تعالى (أَشْرَافَ قُرَيْشٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) لما يعلمون من رقَّة قلوب النِّساء والشَّباب، خافوا أن يميلوا إلى دين الإسلام.
          (فَأَرْسَلُوا إِلَى ابْنِ الدُّغُنَّةِ فَقَدِمَ عَلَيْهِمْ) أي: على أشراف قريش من المشركين، وفي رواية الكشميهني: <فقدم عليه> أي: على أبي بكر ☺ (فَقَالُوا: إِنَّا كُنَّا أَجَرْنَا) بقصر الهمزة وبالجيم والراء في رواية الأكثرين، وفي رواية القابسي: بالزاي؛ أي: أبحنا، والأول أوجه.
          (أَبَا بَكْرٍ بِجِوَارِكَ) أي: بسبب جوارك؛ أي: ذمتك وعهدك (عَلَى أَنْ يَعْبُدَ رَبَّهُ في دارِهِ فَقَدْ جَاوَزَ ذَلِكَ، فَابْتَنَى مَسْجِداً بِفِنَاءِ دَارِهِ، فَأَعْلَنَ بِالصَّلاَةِ وَالْقِرَاءَةِ فِيهِ، وَإِنَّا قَدْ خَشِينَا أَنْ يَفْتِنَ نِسَاءَنَا وَأَبْنَاءَنَا) على الوجهين المذكورين آنفاً (فَانْهَهُ، فَإِنْ أَحَبَّ أَنْ يَقْتَصِرَ عَلَى أَنْ يَعْبُدَ رَبَّهُ فِي دَارِهِ فَعَلَ، وَإِنْ أَبَى إِلاَّ أَنْ يُعْلِنَ بِذَلِكَ) أي: امتنع إلَّا أنْ يُعلن بما ذُكِرَ من الصَّلاة والقراءة في المسجد (فَسَلْهُ) أصله: <فاسأله>، وكذا هو في رواية الكُشميهني من سأل، ولمَّا نقلت حركة الهمزة إلى السين وحذفت للتَّخفيف استغني عن همزة الوصل فحذفت فصار: سَلْه.
          (أَنْ يَرُدَّ إِلَيْكَ ذِمَّتَكَ) أي: أمانك له وعهدك (فَإِنَّا قَدْ كَرِهْنَا أَنْ نُخْفِرَكَ) بضم النون وسكون الخاء المعجمة وكسر الفاء، من الإخفار، يقال: خفرت الرَّجل: إذا أجرته وحفظتُه، وأخفرته: إذا نقضت عهده وغدرت به.
          (وَلَسْنَا مُقِرِّينَ) ويروى: <بمقرِّين> (لأَبِي بَكْرٍ الاِسْتِعْلاَنَ) أي: لا نسكت عن الإنكار عليه للمعنى الذي ذكروه من الخشية على نسائهم وأبنائهم أن يدخلوا في دينه.
          (قَالَتْ عَائِشَةُ ♦: / فَأَتَى ابْنُ الدُّغُنَّةِ إِلَى أَبِي بَكْرٍ فَقَالَ: قَدْ عَلِمْتَ الَّذِي عَاقَدْتُ) بضم التاء للمتكلم (لَكَ عَلَيْهِ، فَإِمَّا أَنْ تَقْتَصِرَ عَلَى ذَلِكَ) أي: على الذي عاقدت عليه (وَإِمَّا أَنْ تَرْجِعَ إِلَيَّ ذِمَّتِي، فَإِنِّي لاَ أُحِبُّ أَنْ تَسْمَعَ الْعَرَبُ أَنِّي قَدْ أُخْفِرْتُ) بضم الهمزة على البناء للمفعول (فِي رَجُلٍ عَقَدْتُ لَهُ. فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: فَإِنِّي أَرُدُّ إِلَيْكَ جِوَارَكَ، وَأَرْضَى بِجِوَارِ اللَّهِ ╡) أي: أمانه وحمايته، وفيه جواز الأخذ بالأشدِّ في الدِّين، وقوَّة يقين أبي بكر ☺ (وَالنَّبِيُّ صلعم يَوْمَئِذٍ بِمَكَّةَ) الواو فيه للحال (فَقَالَ النَّبِيُّ صلعم لِلْمُسْلِمِيْنَ: إِنِّي أُرِيتُ) بضم الهمزة على البناء للمفعول (دَارَ هِجْرَتِكُمْ، ذَاتَ نَخْلٍ بَيْنَ لاَبَتَيْنِ) بتخفيف الموحدة تثنية لابة (وَهُمَا الْحَرَّتَانِ) تثنية حرَّة، هذا مدرجٌ في الخبر، وهو من تفسير الزُّهري.
          والحرَّة _بفتح المهملة وتشديد الراء_: شبه جبل من حجارةٍ سود، يريدُ المدينة، وهي بين الحرَّتين.
          قال الحافظ العسقلاني: وهذه الرُّؤيا غير الرؤيا السابقة في حديث أبي موسى ☺ الذي تردد فيها النبي صلعم كما سبق [خ¦3897].
          قال ابن التين: كان صلعم أُرِيَ دار الهجرة بصفة تجمع المدينة وغيرها، ثم أُرِيَ بصفة مختصَّة بالمدينة، فتعيَّنت.
          (فَهَاجَرَ مَنْ هَاجَرَ قِبَلَ) بكسر القاف وفتح الموحدة؛ أي: جانب (الْمَدِينَةِ، وَرَجَعَ عَامَّةُ مَنْ كَانَ هَاجَرَ بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ قِبَلَ الْمَدِينَةِ) ويروى: <إلى المدينة> أي: رجع معظم الذين هاجروا إلى الحبشة إلى المدينة لمَّا سمعوا باستبطان المسلمين المدينة، ولم يرجع جميعهم؛ لأنَّ جعفراً ومن معه ♥ تخلفوا بالحبشة.
          وهذا هو السَّبب في مجيء مهاجرة الحبشة، وأمَّا السَّبب في مجيءِ من رجع منهم أيضاً في الهجرة الأولى فهو سُجود المشركين مع النَّبي صلعم والمسلمين في سورة النَّجم، فشاع أنَّ المشركين أسلموا وسجدوا، فرجع من رجع من الحبشة فوجدوهم أشدَّ ما كانوا، كما سيأتي بيانه في «تفسير سورة النَّجم» [خ¦4863] إن شاء الله تعالى.
          (وَتَجَهَّزَ أَبُو بَكْرٍ قِبَلَ) أي: جهة (الْمَدِينَةِ) وتقدم في «الكفالة» بلفظ: «وخرج أبو بكر / مهاجراً» [خ¦2297]. وهو منصوب على الحال المقدَّرة، والمعنى: أراد الخروج طالباً الهجرة. وفي رواية هشام بن عروة عن أبيه عند ابن حبَّان: «استأذن أبو بكر ☺ النَّبي صلعم في الخروج من مكة». ويروى: «وتجهَّز أبو بكر إلى المدينة» أي: إلى الخروج إلى المدينة.
          (فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلعم : عَلَى رِسْلِكَ) بكسر الراء وسكون السين المهملة؛ أي: على مهلك وهينتك؛ أي: لا تستعجل. والرَّسْلُ: السَّير الرَّفيق، وفي رواية ابن حبان: «فقال: اصبر» (فَإِنِّي أَرْجُو أَنْ يُؤْذَنَ لِي) على البناء للمفعول.
          (فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَهَلْ تَرْجُو ذَلِكَ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي) لفظ «أنت» مبتدأ وخبره «بأبي»؛ أي: مفدَّى بأبي، ويحتمل أن يكون «أنت» تأكيداً لفاعل «ترجو» و«بأبي» قسم وذلك إشارة إلى الإذن الذي يدلُّ عليه أن يُؤذن لي (قَالَ: نَعَمْ فَحَبَسَ أَبُو بَكْرٍ نَفْسَهُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلعم ) أي: منعها من الهجرة، وفي رواية ابن حبَّان: «فانتظره أبو بكر ☺» وكلمة «على» في قوله: «على رسول الله صلعم »؛ للتعليل؛ أي: لأجل رسول الله صلعم كما في قوله تعالى: {وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} [البقرة:185].
          (لِيَصْحَبَهُ) أي: لأن يصحب رسول الله صلعم في الهجرة (وَعَلَفَ) أي: أبو بكر ☺ (رَاحِلَتَيْنِ) تثنية راحلة، وهي من الإبل البعير القوي على الأسفار والأحمال، والذَّكر والأنثى فيه سواء، والهاء فيه للمبالغة، وهي التي يختارها الرجل لمركبهِ ورحله على النَّجابة وتمام الخلق وحسن المنظر، فإذا كانت في جماعةِ الإبل عرفت.
          (كَانَتَا عِنْدَهُ وَرَقَ السَّمُرِ) بفتح السين المهملة وضم الميم، وهو شجر الطَّلح، وقيل: شجرة أم غيلان، وقيل: كلُّ ما له ظل ثقيل (وَهْوَ الْخَبَطُ) أي: ورق السَّمُر، هو الخَبَط _بفتح الخاء المعجمة والموحدة_، وهو ما يخبط بالعصا فيسقطُ من ورق الشَّجر، قاله ابنُ فارس. ثمَّ قوله: «وهو الخبط» مدرج أيضاً في الخبر، وهو من تفسير الزهري.
          (أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ) فيه بيان المدَّة التي كانت بين ابتداء هجرة الصَّحابة ♥ بين العقبة الأولى والثانية، وبين هجرة النَّبي صلعم ، وقد تقدم في أول الباب: / أن بين العقبة الثانية وبين هجرته صلعم شهرين وبعض شهر على التحرير [خ¦3897].
          (قَالَ ابْنُ شِهَابٍ) هو: محمد بن مسلم بن شهاب الرَّاوي، وهو موصولٌ بالإسناد المذكور أولاً، وقد أفردَه ابن عائذ في «المغازي» من طريق الوليد بن محمد عن الزُّهري. ووقع في رواية هشام بن عروة عند ابن حبَّان مضموماً إلى ما قبله. وعند موسى بن عقبة: وكان رسولُ الله صلعم لا يخطئه يومٌ إلَّا أتى منزل أبي بكر ☺ أوله أو آخره.
          (قَالَ عُرْوَةُ) أي: ابن الزُّبير بن العوَّام ☺ (قَالَتْ عَائِشَةُ) ♦ (فَبَيْنَمَا) ويروى: <فبينا> (نَحْنُ يَوْماً جُلُوسٌ) أي: جالسون (فِي بَيْتِ أَبِي بَكْرٍ) ☺ (فِي نَحْرِ الظَّهِيرَةِ) أي: في أوَّل وقت الحرَّارة، وهو الهاجرة، ويُقال: أوَّل الزوال، وهو أشدُّ ما يكون من حرارة النَّهار، والغالب في أيَّام الحرِّ القيلولة فيها. وفي رواية ابن حبَّان: «فأتاه ذات يوم ظهراً». وفي حديث أسماء بنت أبي بكر ☻ عند الطَّبراني: كان النَّبي صلعم يأتينا بمكَّة كل يوم مرَّتين بكرة وعشية، فلمَّا كان يوم من ذلك جاءنا في الظَّهيرة، فقلت: يا أبه هذا رسول الله صلعم .
          (قَالَ قَائِلٌ لأَبِي بَكْرٍ: هَذَا رَسُولُ اللَّهِ صلعم مُتَقَنِّعاً) أي: مغطِّياً رأسه، وانتصابه على الحال كما في قولك: هذا زيد قائماً؛ أي: أشير إليه، وهو العاملُ فيه. وفي رواية موسى بن عقبة عن ابن شهاب: قالت عائشة ♦: وليس عند أبي بكر إلَّا أنا وأسماء.
          «فِي سَاعَةٍ لَمْ يَكُنْ يَأْتِينَا فِيهَا، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ»: ☺ (فِدَاً لَهُ) بكسر الفاء وبالقصر، وفي رواية الكشميهني: <فداء> بالمد، وهو مرفوع على أنه خبر المبتدأ، وهو قوله: (أَبِي وَأُمِّي) والفداء: مصدر يشمل الواحد وما فوقه، ويجوز انتصابه على تقدير: يكون له أبي وأمي فداء، وهذه كلمة تقولها العرب على الترحيب؛ أي: لو كان لي إلى الفداء سبيل لفديتك بأبويَّ اللَّذين هما عزيزان عندي، والمراد من التَّفدية لازمها، وهو الرضا.
          (وَاللَّهِ مَا جَاءَ بِهِ فِي هَذِهِ السَّاعَةِ إِلاَّ أَمْرٌ) أي: أمرٌ قد حدث، كذا جاء في رواية موسى بن عقبة، ولفظه: «فقال أبو بكر ☺: يا رسول الله ما جاء بك إلا أمر قد حدث». وفي رواية يعقوب بن سفيان: «إن جاء به» و«إن» هي النافية بمعنى: «ما».
          (قَالَتْ: فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صلعم / فَاسْتَأْذَنَ، فَأُذِنَ لَهُ) على البناء للمفعول (فَدَخَلَ فَقَالَ النَّبِيُّ صلعم لأَبِي بَكْرٍ: أَخْرِجْ) بفتح الهمزة، أمرٌ من الإخراج (مَنْ عِنْدَكَ) مفعول «أخرج» (فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: إِنَّمَا هُمْ أَهْلُكَ) أشار بذلك إلى عائشة وأسماء ☻ ، كما فسَّره موسى بن عقبة، ففي روايته: «قال: أخرج من عندك، قال: لا عين عليك، إنما هما ابنتاي»، وكذلك في رواية هشام بن عروة (بِأَبِي أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلعم : فَإِنِّي) وفي رواية الكُشميهني: <فإنَّه> (قَدْ أُذِنَ لِي فِي الْخُرُوجِ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: الصَّحَابَةَ) بالنصب؛ أي: أريد الصَّحابة؛ يعني: المصاحبة؛ أي: أطلبها، ويجوز الرفع على أنَّه خبر مبتدأ محذوف.
          (بِأَبِي أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلعم : نَعَمْ) يعني: نعم الصُّحبة التي تطلبها. زاد ابنُ إسحاق في روايته: «قالتْ عائشة ♦: فرأيتُ أبا بكر ☺ يبكي وما كنتُ أحسب أحداً يَبكي من الفرح». وفي رواية هشام: «قال: الصُّحبة يا رسول الله، قال: الصُّحبة».
          (قَالَ أَبُو بَكْرٍ) ☺: (فَخُذْ بِأَبِي أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِحْدَى رَاحِلَتَيَّ هَاتَيْنِ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلعم : بِالثَّمَنِ) أي: لا آخذ إلَّا بالثَّمن. وفي رواية ابن إسحاق أنَّه قال: «لا أركبُ بعيراً ليس هو لي، قال: فهو لك، قال: لا، ولكن بالثَّمن الذي ابتعتها به، قال: أخذتها بكذا وكذا، قال: أخذتها بذلك، قال: هي لك». وفي حديث أسماء بنت أبي بكر ☻ عند الطَّبراني فقال: «بثمنها يا أبا بكر، فقال: بثمنها إن شئتَ».
          وأفاد الواقديُّ: أنَّ الثَّمن ثمانمائة، وأنَّ الرَّاحلة التي أخذها رسول الله صلعم من أبي بكر ☺ هي القَصواء، وأنها كانت من نَعَمِ بني قُشير، وأنَّها عاشت بعد النَّبي صلعم قليلاً، وماتت في خلافة أبي بكر ☺ وكانت مرسلةً ترعى بالبقيع.
          وذكر ابنُ إسحاق: أنها الجَدْعاء وكانت من إبل بني الجريش، وكذا في رواية أخرجها ابن حبَّان أنها الجدعاء.
          (قَالَتْ عَائِشَةُ ♦: فَجَهَّزنَاهُمَا) أي: النَّبي صلعم /
          وأبا بكر ☺ (أَحَثَّ الْجَهَازِ) لفظ «أحثَّ» _بالحاء المهملة وبالمثلثة_ أفعل تفضيل من الحثِّ، وهو الإسراعُ، والحثيث على وزن فعيل: المسرع الحريص. وفي رواية لأبي ذرٍّ: <أحبَّ> بالموحدة، والأوَّل أصح. والجَهاز: بفتح الجيم وقد يكسر، ومنهم من أنكر الكسر، وهو ما يحتاج إليه في السَّفر ونحوه.
          (وَصَنَعْنَا لَهُمَا) أي: للنَّبي صلعم وأبي بكر ☺ (سُفْرَةً فِي جِرَابٍ) السُّفرة هنا: الزَّاد، وأصل السُّفرة في اللُّغة: الزاد الذي يصنع للمسافر، ثمَّ استعمل في وعاء الزَّاد، ومثله المزادة للماء، وكذلك الرَّاوية، فاستعملت السُّفرة في هذا الخبر على أصل اللغة. وعن الواقدي: أنَّه كان في السفرة شاة مطبوخة. و«الجراب»: بكسر الجيم، وربما فتحت.
          (فَقَطَعَتْ أَسْمَاءُ بِنْتُ أَبِي بَكْرٍ ☻ قِطْعَةً مَنْ نِطَاقِهَا) بكسر النون، وهو إزار فيه تكَّة تلبسه النِّساء، ويُقال: هو ما يشدُّ به الوسط كالمنطق، قاله ابن فارس. وقيل: ثوب تلبسه المرأة، ثمَّ تشدُّ وسطها بحبل، ثم ترسل الأعلى على الأسفل، قاله أبو عبيد الهروي. قال الدَّاودي: هو المئزر.
          (فَرَبَطَتْ بِهِ عَلَى فَمِ الْجِرَابِ، فَبِذَلِكَ سُمِّيَتْ ذَاتَ النِّطَاقَينِ) هذه رواية الكُشميهني، وفي رواية غيره: <ذات النطاق> بالإفراد. قال أبو عبيد الهروي: سمِّيت بذات النِّطاقين؛ لأنَّها كانت تجعل نطاقاً على نطاق. وقيل: كان لها نطاقان تلبس أحدهما، وتجعل في الآخر الزَّاد لرسول الله صلعم ، وهو في الغار. والمحفوظُ كما سيأتي بعد هذا الحديث [خ¦3907] أنَّها شقَّت نطاقها نصفين، فشدَّت بأحدهما الزَّاد، واقتصرتْ على الآخر. فمن ثمة قيل لها: ذات النِّطاق، وذات النِّطاقين. وفي رواية ابنِ سعد: شقَّت نطاقها فأوكت بقطعة منه الجراب، وشدَّت فم القربة بالباقي، فسمِّيت ذات النِّطاقين.
          (قَالَتْ: ثُمَّ لَحِقَ رَسُولُ اللَّهِ صلعم وَأَبُو بَكْرٍ بِغَارٍ فِي جَبَلِ ثَوْرٍ) بالثاء المثلثة على لفظ الحيوان المشهور. وذكر الواقدي: أنَّهما خرجا من خوخة في ظهر بيت أبي بكر ☺.
          وقال الحاكم: تواترتِ الأخبار / أنَّ خروجه يوم الاثنين ودخوله المدينة كان يوم الاثنين، إلَّا أنَّ محمد بن موسى الخوارزمي قال: إنَّه خرج من مكة يوم الخميس.
          وقال الحافظُ العسقلاني: يجمع بينهما بأنَّ خروجه من مكَّة يوم الخميس، وخروجه من الغار كان ليلة الاثنين؛ لأنَّه قام فيه ثلاث ليال فهي ليلة الجمعة، وليلة السبت، وليلة الأحد، وخرج في أثناء ليلة الاثنين. ووقع في رواية هشام بن عروة عند ابن حبَّان: فركبا حتى أتيا الغار، وهو بثورٍ، فتواريا فيه.
          وذكر موسى بن عُقبة عن ابن شهاب قال: فرقد عليٌّ ☺ على فراشِ رسول الله صلعم يُورِّي عنه، وباتت قريش تختلف وتأتمر أيُّهم يهجم على صاحب الفراش فيوثقه حتى أصبحوا، فإذا هم بعليٍّ ☺ فسألوه فقال: لا علم لي، فعلموا أنَّه فرَّ منهم.
          وذكر ابنُ إسحاق نحوه وقال: إنَّ أعيان قريش لما اجتمعوا فيما يفعلون في أمر النَّبي صلعم أشار كلُّ واحدٍ برأي فما أصغوا إليه، فآخر الأمر أشار أبو جهل بقتله، فأتى جبريل ◙ فقال: لا تَبِت هذه اللَّيلة على فراشك الذي كنت تبيت عليه، قال: فلمَّا كانت عتمة اللَّيل اجتمعوا على بابه يرصدونه حتى ينام فيثبون عليه.
          فلما رأى رسول الله صلعم مكانهم دعا عليًّا ☺، فأمره أن يبيتَ على فراشه، ويتسجَّى ببرده الأخضر ففعل، ثم خرج النَّبي صلعم على القوم، فأخذ حفنة من تراب في يده، فجعل ينثره على رؤوسهم، وهو يقرأ يس إلى: {فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ} [يس:9] ولم يبقَ منهم أحدٌ إلا وقد وضع على رأسه تراباً، ثمَّ انصرف رسول الله صلعم .
          وذكر أحمد من حديث ابن عباس ☻ بإسناد حسنٍ في قوله تعالى: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا} [الأنفال:30] الآية قال: تشاورت قريش بمكَّة فقال بعضهم: إذا أصبح فأثبتوه بالوثاق يريدون النَّبي صلعم ، وقال بعضهم: بل اقتلوه، وقال بعضُهم: بل أخرجوه، فأطلع الله / ╡ نبيه صلعم على ذلك، فبات عليٌّ على فراش النَّبي صلعم تلك اللَّيلة، وخرج النَّبي صلعم حتى لحقَ بالغار، وبات المشركون يحرسون عليًّا ☺ يحسبونه النَّبي صلعم ينتظرونه حتى يقومَ فيفعلون به ما اتَّفقوا عليه، فلمَّا أصبحوا ورأوا عليًّا ردَّ الله مكرهم، فقالوا: أين صاحبك هذا؟ قال: لا أدري.
          فاقتصُّوا أثره فلمَّا بلغوا الجبل اختلط عليهم فصعدوا الجبل فمرُّوا بالغار فرأوا على بابه نسج العنكبوت فقالوا: لو دخل هاهنا لم يكن نسج العنكبوت على بابه فمكثَ فيه ثلاث ليال. وذكر نحو ذلك موسى بن عقبة عن الزُّهري قال: مكث رسول الله صلعم بعد الحجِّ بقية ذي الحجَّة والمحرم وصفر، ثم إنَّ مُشركي قريش اجتمعوا، فذكر الحديث.
          وفيه: وبات عليٌّ على فراش النَّبي صلعم يُورِّي عنه، وباتت قريش يختلفون يأتمرون أيُّهم يهجم على صاحب الفراش، فيوثقه فلمَّا أصبحوا إذا هم بعليٍّ ☺، وقال في آخره: فخرجوا في كلِّ وجه يطلبونه.
          وذكر الواقدي: أنَّ قريشاً بعثوا في أثرهما قائفين أحدهما كُرْزُ بن علقمة فرأى كُرْزُ على الغار نسج العنكبوت فقال: هاهنا انقطع الأثر، ولم يسمِّ الآخر.
          وسمَّاه أبو نُعيم في «الدلائل» من حديث زيد بن أرقم ☺ وغيره: سُراقة بن جعشم. وقد تقدَّم في «مناقب أبي بكر ☺» حديث أنس ☺ عن أبي بكر ☺ [خ¦3653].
          (فَكَمَنَا) بفتح الميم ويجوز كسرها، من الكمون ضدُّ البروز؛ أي: اختفيا، ويروى: <فمكثا> من المكث (فِيهِ ثَلاَثَ لَيَالٍ) وفي رواية عروة بن الزبير: «ليلتين» فلعلَّه لم يحسب أول ليلة. وروى أحمد والحاكم من رواية طلحة النضري قال: قال رسول الله صلعم : «لبثتُ مع صاحبي؛ يعني: أبا بكر ☺ في الغار بضعة عشر يوماً ما لنا طعام إلا ثمرُ البرير». قال الحاكم: معناه: فمكثنا مختفين من المشركين في الغار، وفي الطَّريق: بضعة عشر يوماً.
          وقال الحافظ العسقلانيُّ: لم يقع في رواية أحمد ذكر الغار، وهي زيادة / في الخبر من بعض رواته، ولا يصح حمله على حالة الهجرة؛ لما في «الصحيح» كما تراه من أن عامر بن فُهَيرة كان يروح عليهما في الغار باللبن، ولما وقع لهما في الطَّريق من لقي الراعي كما في حديث البراء في هذا الباب [خ¦3908]، ومن النزول بخيمة أم معبد، وغير ذلك، فالذي يظهر أنها قصَّة أخرى، والله تعالى أعلم.
          (يَبِيتُ عِنْدَهُمَا) أي: عند النَّبي صلعم وأبي بكر ☺ (عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ) ☻ ، وفي نسخة: <عبد الرحمن> وهو وهم (وَهْوَ غُلاَمٌ شَابٌّ ثَقِفٌ) بفتح المثلثة وكسر القاف ويجوز إسكانها وفتحها وآخره فاء، وهو الحاذقُ الفطن، تقول: ثقفت الشيء: إذا أقمت عوجه. وقال الخطَّابي: الثقافة: حسن التلقي للأدب، يُقال: غلام ثَقِف. وقال ابنُ فارس: ويقال: رجل ثقف.
          (لَقِنٌ) بفتح اللام وكسر القاف وبالنون، وهو السَّريع الفهم، ويقال: اللَّقن الحسن التَّلقي لما يسمعه ويعمله (فَيُدَّلِجُ) بتشديد الدال وبالجيم؛ أي: يخرج بالسحر منصرفاً إلى مكة، يقال: أدلج الرجل: إذا سار في أول الليل، وقيل: في كله، وادَّلج بتشديد الدال: إذا سار في آخره.
          (مِنْ عِنْدِهِمَا بِسَحَرٍ، فَيُصْبِحُ مَعَ قُرَيْشٍ بِمَكَّةَ كَبَائِتٍ) أي: مثل البائت يظنه من لا يعرف حقيقة أمره لشدَّة رجوعه بغلس (فَلاَ يَسْمَعُ أَمْراً يُكْتَادَانِ بِهِ) وفي رواية الكشميهني: <يكادان> بغير تاء مثناة من فوق، وهو من قولهم: كِدْتُ الرجل إذا طلبت له الغوائل، ومكرت به، وهو من الكيد.
          (إِلاَّ وَعَاهُ) أي: حفظه (حَتَّى يَأْتِيَهُمَا بِخَبَرِ ذَلِكَ حِينَ يَخْتَلِطُ الظَّلاَمُ، وَيَرْعَى عَلَيْهِمَا عَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ) بضم الفاء وفتح الهاء وسكون المثناة التحتية بالراء (مَوْلَى أَبِي بَكْرٍ) ☺، وكان مولَّداً من مولَّدي الأزد أسود اللون مملوكاً للطفيل بن عبد الله بن سَخْبرة فأسلم، وهو مملوكٌ له، فاشتراه أبو بكر ☺ وأعتقه، وكان حسن الإسلام، وكان يرعى الغنم في ثورٍ، ويروح بها على رسول الله صلعم وأبي بكر ☺ في الغار، / وشهد بدراً وأحداً، ثم قتل يوم بئر معونة، وهو ابنُ أربعين سنة، قتله عامر بن الطُّفيل. ويروى عنه أنه قال: رأيتُ أول طعنة طعنتها عامر بن فُهيرة نوراًخرج منها.
          وقال أبو عمر: وروى ابن المبارك عن يونس عن الزُّهري قال: زعم عروة بن الزبير أن عامر بن فهيرة قتل يومئذٍ، فلم يوجد جسده، يرون أنَّ الملائكة دفنته، وكانت بئر معونة سنة أربع من الهجرة.
          (مِنْحَةً) بكسر الميم وسكون النون وبالحاء المهملة، وهي في الأصل الشاة التي يجعل الرجل لبنها لغيره، ثم أطلق على كلِّ شاة. وقال ابنُ فارس: المنحة والمنيحة: منحة اللَّبن، والمنحة النَّاقة أو الشاة تُعطي لبنها، ثم جُعِلت كل عطيَّة منحة.
          (مِنْ غَنَمٍ) وفي رواية موسى بن عقبة عن ابن شهابٍ: أنَّ الغنم كانت لأبي بكر ☺، فكان يروح عليهما الغنم كل ليلة فيحلبان، ثم يسرح بكرة فيصبح في رعيان الناس فلا يُفطن له.
          (فَيُرِيحُهَا عَلَيْهِمَا حِينَ تذْهَبُ سَاعَةٌ مِنَ الْعِشَاءِ، فَيَبِيتَانِ فِي رِسْلٍ) بكسر الراء وسكون السين المهملة، وهو اللَّبن الطَّري (وَهْوَ لَبَنُ مِنْحَتِهِمَا وَرَضِيفِهِمَا) الرَّضِيف: بفتح الراء وكسر المعجمة، بوزن رغيف، وهو اللَّبن الذي جُعِل فيه الرضفة، وهي الحجارة المحمَّاة بالشَّمس لا بالنَّار؛ لينعقد وتزول وخامته وثقله ورخاوته. وقيل: الرضيف: الناقة المحلوبة، وهو بالرفع إن عطفته على «اللَّبن»، وبالجر إن عطفته على «منحتهما»، فافهم.
          وفي «التوضيح»: ويُروى: <وصريفهما> والصريف اللبن ساعة يحلب. وقال ابن الأثير في باب الصاد المهملة: وفي حدث الغار: «ويبيتان في رِسْلها وصريفها» الصَّريف: اللبن ساعة يصرف عن الضرع.
          (حَتَّى يَنْعِقَ بِهَما عَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ بِغَلَسٍ) كلمة «حتى» للغاية، و«ينعق» _بكسر العين المهملة_؛ أي: يصبح بغنمه، والنَّعق والنَّعيق، وهو الأشهر: صوت الراعي إذا زجر الغنم، والضَّمير في بهما يرجع إلى لفظ المنحة، ولفظ الغنم، وهذا هو رواية أبي ذر، أعني: «بهما» بالتثنية، / وفي رواية غيره: <بها> بالإفراد. قال الكرماني: أي: بالمنحة أو بالغنم. و«عامر» مرفوع فاعل «ينعق»، و«الغلس»: ظلام آخر الليل.
          (يَفْعَلُ ذَلِكَ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ مِنْ تِلْكَ اللَّيَالِي الثَّلاَثِ، وَاسْتَأْجَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلعم وَأَبُو بَكْرٍ رَجُلاً مِنْ بَنِي الدِّيلِ) بكسر الدال وسكون التحتية، وقيل: بضم أوله وبالهمزة المكسورة في ثانيه (وَهْوَ) أي: الرجل الذي استأجراه (مِنْ بَنِي عَبْدِ بْنِ عَدِيٍّ) بفتح المهملة وكسر الدال؛ أي: ابن الديل بن عبد مناف بن كنانة، ويُقال: من بني عدي بن عمرو بن خزاعة. ووقع في «سيرة ابن إسحاق تهذيب ابن هشام»: اسمه: عبد الله بن أرقد. وفي رواية الأموي عند ابن إسحاق: ابن أُرَيقد، بالتصغير، كذا رواه في «المغازي» بإسناد مرسل من غير هذه القصة. قال: وهو دليل رسول الله صلعم إلى المدينة في الهجرة.
          وعند موسى بن عقبة: أُريقط، بالتصغير أيضاً لكن بالطاء، وكذا عند ابن سعد، وهو الأشهر، وعنه أيضاً: عبد الله بن أُريقط. وقال ابن التين عن مالك: اسمه: رقيط وكان كافراً.
          (هَادِياً) نصب؛ لأنه صفة «رجلاً»؛ يعني: يهديهما إلى الطريق (خِرِّيتاً) صفة بعد صفة، وهو بكسر الخاء المعجمة وتشديد الراء وبالمثناة التحتية الساكنة وآخره مثناة فوقية الماهر بالهداية، أشار إلى ذلك بقوله: (وَالْخِرِّيتُ: الْمَاهِرُ بِالْهِدَايَةِ) وهو مدرجٌ في الخبر من كلام الزهري، بيَّنه ابن سعد، ولم يقع ذلك في رواية الأموي عند ابن إسحاق. قال ابن سعد: وقال الأصمعيُّ: إنما سُمِّي خرِّيتاً؛ لأنه يهتدي بمثل خِرْتِ الإبرة من الطريق؛ أي: ثقبها. وحكي عن الكسائي: خَرَتْنا الأرض إذا عرفناها ولم يخفَ علينا طرقها. وقال ابن الأثير: الخرِّيت: الماهر الذي يهتدي لأخرات المفازة، وهي طرقها الخفية.
          (قَدْ غَمَسَ) بفتح الغين المعجمة والميم بعدها مهملة (حِلْفاً) بكسر المهملة وسكون اللام؛ أي: كان حليفاً، وكانوا إذا تحالفوا غمسوا أيديهم في دم، أو خَلُوق، أو نحوهما من شيء فيه تلويث وتلوين، فيكون ذلك تأكيداً للحلف، / والمعنى أخذ بنصيب من حلفهم وعقدهم يأمن به
          وقال العينيُّ: كانت عادتهم أن يحضروا في جفنة طيناً، أو دماً، أو رماداً فيدخلون فيه أيديهم عند التحالف؛ ليتمَّ عهدهم وعقدهم عليه باشتراكهم في شيءٍ واحد.
          وهذه الجملة وقعت حالاً من قوله «رجلاً»، والأصل في الجملة الفعلية الماضية إذا وقعت حالاً أن تكون فيه كلمة «قد» إمَّا ظاهرة وإمَّا مقدرة، كما في قوله تعالى: {أَوْ جَاؤُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ} [النساء:90] ؛ أي: قد حصرت.
          (فِي آلِ الْعَاصِ بْنِ وَائِلٍ) بالهمز بعد الألف (السَّهْمِي) بفتح المهملة وسكون الهاء (وَهْوَ عَلَى دِينِ كُفَّارِ قُرَيْشٍ، فَأَمِنَاهُ) بقصر الهمزة وكسر الميم؛ أي: ائتمناه، كما في قوله تعالى: {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً} [البقرة:283] وأمنته على كذا وائتمنته بمعنى.
          (فَدَفَعَا إِلَيْهِ رَاحِلَتَيْهِمَا، وَوَاعَدَاهُ غَارَ ثَوْرٍ بَعْدَ ثَلاَثِ لَيَالٍ، فَأَتاهُما بِرَاحِلَتَيْهِمَا صُبْحَ ثَلاَثٍ، وَانْطَلَقَ مَعَهُمَا عَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ، وَالدَّلِيلُ، فَأَخَذَ بِهِمْ طَرِيقَ السَّوَاحِلِ).
          وزاد موسى بن عقبة عن ابن شهاب: حتى إذا هدأت عنهما الأصوات جاء صاحبهما ببعيرهما، فانطلقا معهما عامر بن فهيرة يخدمهما ويعقبهما، يردفه أبو بكر ☺ وليس معه غيره.
          قوله: «فأخذ بهم طريق الساحل». وفي رواية موسى بن عقبة: فأجاز بهما أسفل مكة، ثم مضى بهما حتى جاء بهما السَّاحل أسفل من عسفان، ثم أجاز بهما حتى عارض الطَّريق.
          وعند الحاكم من طريق ابنِ إسحاق: حدَّثني محمد بن جعفر بن الزبير، عن عروة، عن عائشة ♦ نحوه، وأتم منه، وإسناده صحيحٌ. وأخرجه الزبير بن بكَّار في «أخبار المدينة» مفسَّراً منزلة منزلة إلى قباء. وكذلك ابن عائذ من حديث ابن عبَّاس ☻ .
          وقد تقدَّم في «علامات النُّبوة» [خ¦3615]، وفي «مناقب أبي بكر ☺» [خ¦3652] ما اتَّفق لهما حين خرجا من الغار لقيا راعي الغنم، وشربهما من اللبن.
          -(قَالَ ابْنُ شِهَابٍ) هو: محمد بن مسلم الزُّهري، وهو موصولٌ بإسناد حديث عائشة ♦. وقد أفرده البيهقي / في «الدلائل»، وقبله الحاكم في «الإكليل» من طريق ابنِ إسحاق: حدَّثني محمد بن مسلم هو الزُّهري. وكذلك أورده الإسماعيلي مفرداً من طريق محمد والمعافى في «الجليس» من طريق صالح بن كيسان كلاهما عن الزهري.
          (وَأَخْبَرَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَالِكٍ بْنِ جُعْشُمٍ) بضم الجيم وسكون العين المهملة وضم الشين المعجمة، وحكي فتح الجيم أيضاً (المُدْلِجِيُّ) بضم الميم وسكون الدال المهملة وكسر اللام وبالجيم، من بني مُدْلج بن مرَّة بن عبد مناة بن كنانة.
          ومالك والد عبد الرَّحمن هذا ذكره ابن حبَّان في التابعين، وليس له ولا لأخيه سُراقة ولا لابنه عبد الرَّحمن في البخاري غير هذا الحديث.
          (وَهُوَ ابْنُ أَخِي سُرَاقَةَ بْنِ جُعْشُمٍ) أي: عبد الرَّحمن هو ابن أخي سُراقة، وفي رواية أبي ذرٍّ: <ابن أخي سراقة بن مالك بن جُعشم> ثمَّ قال: إنه سمع سُراقة بن جُعْشم، والأوَّل هو المعتمد. وقال الكرمانيُّ: سراقة بن جعشم، ويروى: <سراقة بن مالك بن جعشم>، والأول هو الموافق؛ لكونه ابن أخيه، لكن المشهور هو الثاني، كما في كتاب «الاستيعاب».
          يعني: ذكر أبو عُمر في كتاب «الاستيعاب»: سُراقة بن مالك بن جُعشم بن مالك... إلى آخره، وذكر أنَّه يُعَدُّ في أهل المدينة، ويُقال: إنَّه سكن مكَّة، وكنية سراقة: أبو سفيان، وكان ينزلُ قديداً، وعاشَ إلى خلافة عثمان ☺. وقال الذَّهبي: سُراقة بن جُعشم الكناني المُدْلِجي أبو سفيان، أسلم بعد الطَّائف. وقال الحافظُ العسقلاني: وحيث جاء في الرِّوايات سُراقة ابن جُعشم يكون نسبه إلى جدِّه.
          (أَنَّ أَبَاهُ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ سَمِعَ سُرَاقَةَ ابْنَ جُعْشُمٍ يَقُولُ: جَاءَنَا رُسُلُ كُفَّارِ قُرَيْشٍ يَجْعَلُونَ فِي رَسُولِ اللَّهِ صلعم وَأَبِي بَكْرٍ) ☺ (دِيَةَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، لمَنْ قَتَلَهُ أَوْ أَسَرَهُ) أي: مائة من الإبل. وصرَّح بذلك موسى بن عقبة وصالح بن كيسان في روايتهما عن الزُّهري. وفي حديث أسماء بنت أبي بكرٍ ☻ عند الطَّبراني: وخرجت قريش حين فقدوهما في.... (1) وجعلوا في النَّبي صلعم مائة ناقة، وطافوا في جبالِ مكَّة حتى انتهوا إلى الجبل الذي فيه رسول الله صلعم ، / فقال أبو بكر ☺: يا رسولَ الله! إنَّ هذا الرجل ليرانا وكان مواجهه، فقال: «كلَّا إنَّ ملائكة تسترنا بأجنحتها» فجلس ذلك الرَّجل يبول مواجهة الغار، فقال النَّبي صلعم : «لو كان يَرانا ما فعل هذا». ثمَّ قوله: «ديةَ» منصوب بقوله: «يجعلون» مضاف إلى «كلِّ واحد»، ويروى: <ديةً في كلِّ واحدٍ> بالتنوين، وزيادة: «في». وفي رواية: <من قتله> بدون اللام، والمعنى على اللام، والضَّمير المنصوب فيه يرجع إلى النَّبي صلعم ، وكذلك في «أو أسره».
          (فَبَيْنَمَا أَنَا جَالِسٌ فِى مَجْلِسٍ مِنْ مَجَالِسِ قَوْمِى بَنِى مُدْلِجٍ) هو من قول سراقة (أَقْبَلَ رَجُلٌ مِنْهُمْ) جواب «بينما»، ويروى: <إذ أقبل> (حَتَّى قَامَ عَلَيْنَا وَنَحْنُ جُلُوسٌ) الواو فيه للحال، و«جلوس» جمع جالس.
          (فَقَالَ) أي: الرجل الذي هو من بني مُدلج (يَا سُرَاقَةُ، إِنِّى قَدْ رَأَيْتُ آنِفًا) أي: في هذه الساعة (أَسْوِدَةً) أي: أشخاصاً (بِالسَّاحِلِ) وفي رواية موسى بن عقبة وابن إسحاق: «لقد رأيت ركبة ثلاثة إني لأظنُّه محمداً وأصحابه» ونحوه في رواية صالح بن كيسان (أُرَاهَا مُحَمَّدًا وَأَصْحَابَهُ، قَالَ سُرَاقَةُ: فَعَرَفْتُ أَنَّهُمْ هُمْ) أي: عرفت أنَّ الأسودة هم محمد وأصحابه (فَقُلْتُ لَهُ: إِنَّهُمْ لَيْسُوا بِهِمْ) أي: قال سراقة: فقلت لذلك الرجل: إنَّ الأسودة التي رأيت ليسوا بمحمِّد وأصحابه.
          ثمَّ استدرك بقوله: (وَلَكِنَّكَ رَأَيْتَ فُلاَنًا وَفُلاَنًا انْطَلَقُوا) بلفظ الماضي (بِأَعْيُنِنَا) أي: في نظرنا معاينة، ويروى: «يبتغون ضالة لهم». وفي رواية موسى بن عقبة وابن إسحاق: «فأومأت إليه أن أسكت، وقلت: إنَّما هم بنو فلان يبتغون ضالَّة لهم، قال: لعلَّ وسكت».
          ونحوه في رواية معمر، وفي حديث أسماء ♦: «فقال سراقة: إنما هما راكبان فمن يغنينا في طلب القوم».
          (ثُمَّ لَبِثْتُ فِى الْمَجْلِسِ سَاعَةً، ثُمَّ قُمْتُ فَدَخَلْتُ فَأَمَرْتُ) ويروى: <وأمرت> بالواو (جَارِيَتِي أَنْ تَخْرُجَ بِفَرَسِي) قال الحافظُ العسقلاني: لم أقف على اسمها. وفي رواية موسى بن عقبة وصالح بن كيسان: «وأمرت فرسي فقُيِّد إلى بطن الوادي» وزاد: «ثمَّ أخذت قِداحي _بكسر القاف؛ أي: الأزلام_ فاستقسمتُ بها / فخرجَ الذي أكره لا تضره، وكنتُ أرجو أن أردَّه وآخذ المائة ناقة».
          (وَهِيَ) أي: الجارية (مِنْ وَرَاءِ أَكَمَةٍ) وهي الرَّابية المرتفعة عن الأرض (فَتَحْبِسَهَا عَلَيَّ، وَأَخَذْتُ رُمْحِي، فَخَرَجْتُ بِهِ مِنْ ظَهْرِ البَيْت فَخَطَطْتُ) بالخاء المعجمة، وفي رواية الكُشميهني والأَصيلي: بالمهملة.
          (بِزُجِّهِ) الزجُّ: بضم الزاي بعدها جيم الحديدة التي في أسفله (الأَرْضَ) والمعنى: أملتُ أسفله، وفي رواية الكُشميهني: <فحططت به>. وزاد موسى بن عقبة وصالح بن كيسان وابن إسحاق: «وأمرت بسلاحي فأُخرِج من درب حجري، ثمَّ انطلقت فلبست لَأْمَتي».
          (وَخَفَضْتُ عَالِيَهُ) أي: عالي الرُّمح؛ يعني: أمسكه بيده وجرَّه على الأرض فخطَّها؛ لئلا يظهر بريقه لمن بَعُدَ منه؛ لأنه كره أن يتبعه أحدٌ فيشركه في الجُعالة. وروى ابنُ أبي شيبة من رواية الحسن عن سُراقة: «وجعلت أجرُّ الرُّمح مخافةَ أن يشركني أهلُ الماء فيها».
          (حَتَّى أَتَيْتُ فَرَسِي فَرَكِبْتُهَا، فَرَفَعْتُهَا) بالراء؛ أي: أسرعت بها السير. قال ابنُ الأثير: أي: كلَّفتها المرفوع من السَّير دون العدوِ وفوق العادة، ويقال: هو فوق الموضُوع ودون العدو، ويقال: ارفع دابَّتك؛ أي: أسرع بها، ويروى: «دفعتها» بالدال، يقال: دفع ناقته: إذا حملها على السَّير.
          (تُقَرِّبُ بِي) من التَّقريب، وهو السَّير دون العدو وفوق العادة. وقال الأصمعي: هو أن ترفعَ الفرس يديها معاً وتضعهما معاً (حَتَّى دَنَوْتُ مِنْهُمْ، فَعَثَرَتْ بِي فَرَسِي، فَخَرَرْتُ عَنْهَا) أي: عن دابَّتي، من الخرور بالخاء المعجمة، وهو السقوط (فَقُمْتُ فَأَهْوَيْتُ بِيَدِي) أي: بسطتها للأخذ (إِلَى كِنَانَتِي) بكسر الكاف، هي الخريطة المستطيلة، من جلود يجعل فيها السهام وهي الجُعبة (فَاسْتَخْرَجْتُ مِنْهَا الأَزْلاَمَ) وهي القِداح؛ أي: السِّهام التي لا ريشَ لها ولا نصل، وكان لهم في الجاهليَّة هذه الأزلام مكتوبٌ عليها لا ونعم، فإذا اتَّفق لهم أمر / من غير قصد كانوا يخرجونها فإنْ خرج ما عليه: «نعم» مضى على عزمه، وإن خرج «لا» انصرف عنه.
          (فَاسْتَقْسَمْتُ بِهَا: أَضُرُّهُمْ أَمْ لاَ) الاستقسام: طلبُ معرفة النَّفع والضُّر بالأزلام؛ أي: التَّفاؤل بها (فَخَرَجَ لِي الَّذِي أَكْرَهُ) أي: الذي لا يضرهم، وصرَّح به الإسماعيليُّ وموسى بن عُقبة وابن إسحاق، وزاد: «وكنتُ أرجو أن أردَّه وآخذ المائة ناقة». وفي حديث ابن عبَّاس ☻ عند ابن عائذٍ: وركبَ سُراقة فلمَّا أبصرَ الآثار على غير الطَّريق، وهو وَجِلٌ أنكر الآثار، فقال: والله ما هذه بآثار نِعَم الشَّام ولا تهامة، فتبعهم حتى أدركَهم.
          (فَرَكِبْتُ فَرَسِي، وَعَصَيْتُ الأَزْلاَمَ) الواو فيه للحال، وأراد أنَّه ما التفتَ إلى الذي خرج ممَّا يكرهه (تُقَرِّبُ بِي) من التَّقريب، ومضى معنى التَّقريب آنفاً والضَّمير في «تقرب» للفرس (حَتَّى إِذَا سَمِعْتُ قِرَاءَةَ رَسُولِ اللَّهِ صلعم ، وَهُوَ لاَ يَلْتَفِتُ) أي: والحال أنَّ النَّبي صلعم وهو لا يلتفت (وَأَبُو بَكْرٍ) ☺ (يُكْثِرُ الِالْتِفَاتَ) وفي حديث البراء عن أبي بكر ☻ الآتي عقب هذا، فدعا عليه النَّبي صلعم [خ¦3908]. وفي حديث ابن عبَّاس ☻ : «اللَّهم اكفناهُ بما شئت» ونحوه في رواية الحسن عن سراقة. وفي حديث أنس ☺، وهو الثَّامن عشر من أحاديث الباب: فالتفت النَّبي صلعم فقال: «اللَّهمَّ اصرعْه فصرعَه فرسه» [خ¦3911].
          (سَاخَتْ) بالخاء المعجمة وبالمهملة في أوَّله يسيخ ويسوخ؛ أي: غاصت، أراد أنه حين سمع النبي صلعم ساخت (يَدَا فَرَسِي فِي الأَرْضِ) وفي حديث أسماء بنتِ أبي بكر ☻ : «فوقعت لمنخريها» (حَتَّى بَلَغَتَا الرُّكْبَتَيْنِ) وفي رواية البراء: «فارتطمت به فرسه إلى بطنها» [خ¦3615] (فَخَرَرْتُ عَنْهَا) بالخاء المعجمة؛ أي: سقطتُ. وزاد ابنُ إسحاق: «فقلت: ما هذا؟ ثمَّ أخرجت قِدَاحي» نحو الأول (ثُمَّ زَجَرْتُهَا) أي: حثثتُها وحملتُها على القيام (فَنَهَضَتْ وَلَمْ تَكَدْ) ويروى: <فلم تكدْ> بالفاء، وهو من أفعال المقاربة؛ أي: لم تقرب (تُخْرِجُ يَدَيْهَا) بضم التاء، من الإخراج، وفي حديث أنس ☺: «ثمَّ قامت تحمحم» [خ¦3911] الحمحمة / _بمهملتين_: صوتُ الفرس وصهيله.
          (فَلَمَّا اسْتَوَتْ قَائِمَةً) أي: بعد تحمُّل شدَّةٍ في القيام (إِذَا) للمفاجأة جواب «لمَّا» (لِأَثَرِ يَدَيْهَا) اللَّتين غاصتا في الأرض وغابتا فيها (عُثَانٌ) بضم العين المهملة وبالثاء المثلثة وبعد الألف نون، وهو الدُّخان من غير نار. قال معمر لأبي عَمرو بن العلاء: ما العُثان؟ قال: الدُّخان من غير نار. وفي رواية الكُشميهني: <غبارٌ> بمعجمة، ثم موحدة، ثم راء. قال الكرمانيُّ: وهي الأصحُّ. وقال الحافظُ العسقلاني: والأوَّل أشهر، وذكره أبو عُبيدة في «غريبه» قال: وإنما أراد بالعُثان: الغبار نفسه، شبَّه غبار قوائمها بالدُّخان. وفي رواية موسى بن عقبة والإسماعيلي: «واتَّبعها دخان مثل الغُبار» وزاد: «فعلمت أنه مُنِع مني». ثمَّ إنَّ قوله: «عُثَان» مبتدأ مؤخر، وقوله: «لأثر يديها» خبره مقدَّماً عليه.
          (سَاطِعٌ) أي: منتشر ظاهر مرتفعٌ (فِي السَّمَاءِ مِثْلُ الدُّخَانِ، فَاسْتَقْسَمْتُ بِالأَزْلاَمِ، فَخَرَجَ الَّذِي أَكْرَهُ، فَنَادَيْتُهُمْ بِالأَمَانِ) ويروى: <وآذنتهم بالأمان>. وفي رواية ابن إسحاق: «فناديتُ القوم أنا سُراقة بن مالك بن جُعشم أنظروني أكلِّمكم، فوالله لا آتيكم ولا يأتيكم منِّي شيءٌ تكرهونه». وفي حديث ابن عبَّاس ☻ مثله، وزاد: «وأنا لكم نافعٌ غير ضارٍّ، وإني لا أدري لعلَّ الحيَّ؛ يعني: قومه فزعوا لركوبي وأنا راجع ورادُّهم عنكم».
          (فَوَقَفُوا، فَرَكِبْتُ فَرَسِي حَتَّى جِئْتُهُمْ، وَوَقَعَ فِي نَفْسِي حِينَ لَقِيتُ مَا لَقِيتُ مِنَ الحَبْسِ عَنْهُمْ، أَنْه سَيَظْهَرُ أَمْر رَسُولِ اللَّهِ صلعم ) وفي رواية ابن إسحاق: «أنه قد مُنِع مني». (فَقُلْتُ لَهُ: إِنَّ قَوْمَكَ قَدْ جَعَلُوا فِيكَ الدِّيَةَ، وَأَخْبَرْتُهُمْ أَخْبَارَ مَا يُرِيدُ النَّاسُ بِهِمْ) أي: من الحرص على الظَّفر بهم وبذل المال لمن يُحصِّلهم لهم. وفي حديث ابن عبَّاس ☻ : «وعاهدهُم أن لا يُقاتلهم ولا يُخبر عنهم وأن يكتُم عنهم ثلاثَ ليال».
          (وَعَرَضْتُ عَلَيْهِمُ الزَّادَ وَالمَتَاعَ) في مرسل عُمير بن إسحاق عند ابن أبي شيبة، فكفَّ ثم قال: «هلمَّا إلى الزَّاد والحملان فقالا: لا حاجة لنا في ذلك». وفي حديث ابن عبَّاس ☻ : «أنَّ سراقة قال لهم: وإنَّ إبلي على طريقكُم فاحتلبوا من اللَّبن وخذوا / سهماً من كِنَانتي أمارةً للرَّاعي».
          (فَلَمْ يَرْزَآنِي) براء ثم زاي؛ أي: لم يأخذا مني شيئاً ولم ينقصا من مالي، يقال: رَزَأته أَرْزأه، وأصله النَّقص، ويرزآنِي تثنية يَرْزأ، والضَّمير فيه راجعٌ إلى النَّبي صلعم وأبي بكر ☺. وكذلك قوله: (وَلَمْ يَسْأَلاَنِي، إِلَّا أَنْ قَالَ) أي: النَّبي صلعم أو أبو بكر ☺، ويروى: <إلَّا أنْ قالا> بالتَّثنية (أَخْفِ عَنَّا) بفتح الهمزة وسكون الخاء المعجمة، أمر من الإخفاء، ولم يذكر جوابه، ووقع في رواية البراء: «فدعا له فنحا، فجعلَ لا يلقى أحداً إلا قال: قد كفيتم ما هاهنا فلا يلقى أحداً إلَّا ردَّه، قال: ووفى لنا» [خ¦3615].
          وفي حديث أنس ☺ فقال: «يا نبي الله مُرني بما شئتَ، قال: فقف مكانك لا تتركنَّ أحداً يلحق بنَّا قال: وكان في أوَّل النَّهار جاهداً على رسولِ الله صلعم وكان آخر النَّهار مَسْلَحةً له» [خ¦3911] أي: حارثاً له بسلاحه. وذكر ابنُ سعد: أنَّه لمَّا رجع قال لقريش: قد عرفتُم نظري بالطَّريق وبالأثر، وقد استبرأتُ لكم فلم أرَ شيئاً فرجعوا.
          (فَسَأَلْتُهُ) أي: قال سراقة: فسألتُ رسول الله صلعم (أَنْ يَكْتُبَ لِي كِتَابَ أَمْنٍ) بسكون الميم، وفي رواية الإسماعيلي: «كتاب موادعة» وفي رواية ابن إسحاق: «كتاباً يكون آية بيني وبينك».
          (فَأَمَرَ) أي: النَّبي صلعم (فَأَمَرَ عَامِرَ بْنَ فُهَيْرَةَ فَكَتَبَ لِيْ دَفعَةً مِنْ أُدْمٍ) ويروى: <فكتب في رقعة من أدم> والأَدَم _بفتحتين_: اسم لجمع أديم، وهو الجلدُ المدبوغ، ويروى: <من أديم>. وفي رواية ابنِ إسحاق: «فكتب لي كتاباً في عظم، أو رقعة، أو خرفة، ثمَّ ألقاه إليَّ فأخذته فجعلتُه في كِنانتي، ثمَّ رجعت». وفي رواية موسى بن عقبة نحوه، وعندهما: «فرجعت فسكتُّ فلم أذكر شيئاً ممَّا كان حتَّى إذا فرغَ من حُنين بعد فتح مكَّة خرجت لألقاه ومَعي الكتاب فلقيتُه بالجعرانة حتى دنوتُ منه فرفعتُ يدي بالكتاب، فقلتُ: يا رسول الله، هذا كتابك، فقال: يوم وفاء وبرٍّ إِذَنْ فأسلمتُ».
          وفي رواية صالح بن كيسان نحوه، وفي رواية الحسن عن سراقة قال: فبلغني أنَّه يريد أن يبعثَ / خالد بن الوليد إلى قومي فأتيته، فقلت: أحبُّ أن تُوادِعَ قومي فإن أسلم قومك أسلموا، وإلَّا أمنتَ منهم، ففعل ذلك قال: ففيهم نزلت: {إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ} [النساء:90] الآية.
          قال ابنُ إسحاق: وقال أبو جهل لما بلغه ما لقي سُراقة فلامه في تركهم فأنشده:
أَبَا حَكَمٍ وَاللَّاتِ لَوْ كُنْتَ شَاهِدًا                     لِأَمْرِ جَوَادِي إِذْ تَسِيخُ قَوَائِمُهُ
عَلِمْتَ وَلَمْ تَشْكُكْ بِأَنَّ مُحَمَّدًا                     نَبِيٌّ بِبُرْهَانٍ فَمَنْ ذَا يُقَاوِمُهُ
عَلَيْكَ بِكَفِّ القَوْمِ عَنْهُ فَإِنَّنِي                     أَرَى أَمْرَهُ يَوْمًا سَتَبْدُو مَعَالِمُهْ
          وذكر ابن سعد أنَّ سُراقة عارضَهم يوم الثُّلاثاء بقُدَيْدٍ.
          (ثُمَّ مَضَى رَسُولُ اللَّهِ صلعم ، قَالَ ابْنُ شِهَابٍ) هو متَّصل إلى ابنِ شهابٍ بالإسناد المذكور، ولم يستخرجه الإسماعيلي أصلاً وصورته مرسل.
          لكن وصله الحاكم من طريق مَعمر عن الزُّهري قال: أخبرني عروة أنَّه سمع الزُّبير ☺ به.
          وأفاد أنَّ قوله: وسمع المسلمون...إلى آخره من بقيِّة الحديث المذكور.
          وأخرجه موسى بن عقبة عن ابنِ شهاب أتمَّ منه وزاد: قال: ويقال لما دنا من المدينة كان طلحة قدمَ الشَّام فخرج عامداً إلى مكَّة إمَّا متلقياً، وإمَّا معتمراً، ومعه ثياب أهداها لأبي بكر ☺ من ثيابِ الشَّام، فلمَّا لقيه أعطاه فلبس منها هو وأبو بكر. انتهى.
          وهذا وإن كان محفوظاً احتمل أن يكون كلٌّ من طلحة والزُّبير أهدى لهما من الثِّياب، والَّذي في «السير» هو الثاني.
          ومال الدِّمياطي إلى ترجيحهِ على عادته في ترجيح ما في «السير» على ما في «الصحيح» حيث قال: لم يذكر الزُّبير بن بكار، ولا أهل السِّير الزُّبير بن العوام، وإنَّما هو طلحةُ بن عبيد الله.
          وقال ابنُ سعد: لمَّا ارتحل النَّبي صلعم من الحجاز في هجرته إلى المدينةِ لقيه طلحةُ بن عبيد الله من الغد جائياً من الشام، فكسا رسول الله صلعم وأبا بكر ☺ من ثياب الشَّام، وأخبر النَّبي صلعم أنَّ بالمدينة من المسلمين قوماً استبطؤوا رسول الله صلعم ، فعجل رسول الله صلعم .
          والأولى الجمع بينهما، وإلَّا فما في «الصحيح» أصحُّ؛ لأنَّ الرِّواية التي فيها طلحة من طريق ابنِ لهيعة عن أبي الأسود عن عروة. والتي في «الصحيح» من طريق عُقيل عن الزُّهري عن عروة.
          قال الحافظُ العسقلاني: وجدتُ عند ابنِ أبي شيبة من طريق هشام بن عروة عن أبيه نحو رواية أبي الأسود، فتعيَّن تصحيح القولين، والله أعلم.
          (فَأَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلعم لَقِيَ الزُّبَيْرَ) أي: ابن العوَّام ☺ (فِي رَكْبٍ) بفتح الراء وسكون الكاف، جمع راكب: كتَجْرٍ جمع تاجر.
          (مِنَ المُسْلِمِينَ، كَانُوا تِجَارًا قَافِلِينَ) نصب على الحال؛ / أي: راجعين (مِنَ الشَّأْمِ، فَكَسَا الزُّبَيْرُ رَسُولَ اللَّهِ صلعم وَأَبَا بَكْرٍ ثِيَابَ بَيَاضٍ، وَسَمِعَ المُسْلِمُونَ بِالْمَدِينَةِ) وفي رواية معمر: «فلما سمع المسلمون».
          (بِمَخْرَجِ) ويروى: <مخرج> بدون الباء، وهو مصدر ميمي؛ أي: خروج (رَسُولِ اللَّهِ صلعم مِنْ مَكَّةَ، فَكَانُوا يَغْدُونَ) بسكون الغين المعجمة؛ أي: يخرجون غدوة (كُلَّ غَدَاةٍ إِلَى الحَرَّةِ) وفي رواية الحاكم من وجه آخر عن عروة عن عبد الرحمن بن عُوَيمر بن ساعدة عن رجال من قومه قال: لما بلغنا مخرج النَّبي صلعم كنَّا نخرج فنجلس له بظاهر الحرَّة، نلجأُ إلى ظلِّ المدر، حتى تغلبنَا عليه الشَّمس، ثم نرجعُ إلى رحالنا.
          (فَيَنْتَظِرُونَهُ حَتَّى يَرُدَّهُمْ حَرُّ الظَّهِيرَةِ) وفي رواية معمر: «حتى يؤويهم» وفي رواية ابن سعد: «فإذا أحرقتهم الشمس رجعوا إلى منازلهم» (فَانْقَلَبُوا يَوْمًا بَعْدَ مَا أَطَالُوا انْتِظَارَهُمْ) وفي رواية عبد الرَّحمن بن عويمر: «حتى إذا كان اليوم الذي جاء فيه جلسنا مختلفين حتى إذا رجعنا جاء» (فَلَمَّا أَوَوْا إِلَى بُيُوتِهِمْ، أَوْفَى رَجُلٌ مِنْ يَهُودَ) أي: طلع إلى مكان عال فأشرف منه. قال الحافظ العسقلاني: ولم أقف على اسم هذا اليهودي.
          (عَلَى أُطُمٍ) بضمتين، وهو الحصن، ويقال: كان بناء من حجارة كالقصر (مِنْ آطَامِهِمْ، لِأَمْرٍ يَنْظُرُ إِلَيْهِ، فَبَصُرَ بِرَسُولِ اللَّهِ صلعم وَأَصْحَابِهِ مُبَيَّضِينَ) نصب على الحال؛ أي: عليهم الثياب البيض التي كساهم إيَّاها الزبير ☺، أو طلحة ☺، أو كلاهما. وقال ابن التِّين: يحتمل أن يكون معناه: مستعجلين. وحَكَىَ عن ابن فارس: يقال: بائض؛ أي: مستعجل.
          (يَزُولُ بِهِمُ السَّرَابُ) أي: يزول السَّراب عن النَّظر بسبب عروضهم له. وفي «جامع الأصول»: معناه: ظهرت حركتهم فيه للعين، والسَّراب _بفتح السين المهملة_: وهو الذي يُرى في شدة الحرِّ كالماء فإذا جئته لم تلقَ شيئاً، كما قال تعالى: {يَحْسَبُهُ الظَّمْآَنُ مَاءً} [النور:39].
          (فَلَمْ يَمْلِكِ اليَهُودِيُّ أَنْ قَالَ بِأَعْلَى صَوْتِهِ: يَا مَعْشَرَ العَرَبِ) وفي رواية عبد الرحمن بن عُويمر: (يَا بَنِي قَيْلَة) بفتح القاف وسكون التحتية، / وهي الجدَّة الكبرى للأنصار والدة الأوس والخزرج، وهي قَيْلة بنت كاهل بن عذرة (هَذَا جَدُّكُمُ) بفتح الجيم؛ أي: حظُّكم وصاحب دولتكم (الَّذِي تَنْتَظِرُونَهُ) وتتوقَّعونه، وفي رواية معمر: «هذا صاحبكم» (فَثَارَ المُسْلِمُونَ إِلَى السِّلاَحِ، فَتَلَقَّوْا رَسُولَ اللَّهِ صلعم بِظَهْرِ الحَرَّةِ) بفتح الحاء المهملة وتشديد الراء، وهي الأرض التي عليها الحجارة السُّود، وقد مرَّ غير مرَّة.
          (فَعَدَلَ بِهِمْ ذَاتَ اليَمِينِ حَتَّى نَزَلَ بِهِمْ فِي بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ) أي: ابن مالك بن الأوس بن حارثة ومنازلهم بقُبَاء وهي على فرسخٍ من المسجد النَّبوي بالمدينة (وَذَلِكَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ مِنْ شَهْرِ رَبِيعٍ الأَوَّلِ) ولم يبيّن أيَّ يومِ الاثنين من الشَّهر، وفيه اختلافٌ كثير، ففي رواية موسى بن عقبة عن ابن شهاب: قدمها لهلال ربيع الأول؛ أي: أول يوم منه. وفي رواية جرير بن حازم عن ابنِ إسحاق: قدمها لليلتين خلتا من شهر ربيع الأول، ونحوه عند أبي مَعْشر، لكن قال: ليلة الاثنين. وفي رواية إبراهيم بن سعد عن ابن سعد: قدمها لاثنتي عشرة ليلة خلت من ربيع الأول. وعند أبي سعد في «شرف المصطفى» من طريق أبي بكر بن حزم: قدم لثلاث عشرة من ربيع الأول. وهذا يُجمَعُ بينه وبين الذي قبله بالحمل على الاختلاف في رؤية الهلال. وعنده من حديث عمر ☺: ثمَّ نزل على بني عَمرو بني عوف يوم الاثنين لليلتين بقيتا من ربيعٍ الأول، ولعلَّه كان «خلتا»؛ ليوافق رواية جرير بن حازم. وعند الزُّبير في «خبر المدينة» عن ابن شهاب: في نصف ربيع الأول. وجزم ابنُ حزم: بأنه خرج من مكة لثلاث ليال بقين من صفر. وهذا يوافق قول هشام بن الكلبي أنَّه خرج من الغار ليلة الاثنين أوَّل يوم من ربيع الأول فإن كان محفوظاً فلعلَّ قدومه بقباء كان يوم الاثنين ثامن ربيع الأوَّل، وإذا ضُمَّ إلى قول أنس ☺ أنَّه أقام بقُباء أربع عشرة ليلة [خ¦428] خرجَ منه أنَّ دخوله المدينة كان لاثنين وعشرين منه.
          لكن الكلبي جزم بأنَّه دخلها لاثنتي عشرة / خلت منه، فعلى قوله تكون إقامتُه بقباء أربع ليال فقط، وبه جزم ابن حبَّان، فإنه قال: أقامَ بها الثلاثاء والأربعاء والخميس؛ يعني: وخرج يوم الجمعة فلم يعتدَّ بيوم الخروج. وكذا قال موسى بن عقبة أنَّه أقام فيهم ثلاث ليال، وكأنَّه لم يعتدَّ بيوم الخروج ولا الدخول.
          وعن قوم من بني عَمرو بن عوف: أنَّه أقام فيهم اثنين وعشرين يوماً، حكاه الزُّبير بن بكَّار.
          والحاصل: أنَّه يمكن الجمع بين الرِّوايات بالحملِ على الاختلاف في رؤيةِ الهلال، وعلى الاختلافِ في مدَّة إقامتهِ بقباء، وعلى اعتدادِ يوم الدُّخول والخروج وعدم اعتدادهما، والله تعالى أعلم.
          (فَقَامَ أَبُو بَكْرٍ لِلنَّاسِ) أي: يتلقاهم (وَجَلَسَ رَسُولُ اللَّهِ صلعم صَامِتًا فَطَفِقَ) أي: جعل (مَنْ جَاءَ مِنَ الأَنْصَارِ مِمَّنْ لَمْ يَرَ رَسُولَ اللَّهِ صلعم يُحَيِّي أَبَا بَكْرٍ) أي: يسلم عليه. قال ابنُ التين: إنما كانوا يفعلون ذلك لأبي بكر ☺؛ لكثرة تردُّده إليهم في التِّجارة إلى الشَّام، فكانوا يعرفونه، وأمَّا النَّبي صلعم فلم يأتها بعد أن كبر.
          (حَتَّى أَصَابَتِ الشَّمْسُ رَسُولَ اللَّهِ صلعم ، فَأَقْبَلَ أَبُو بَكْرٍ حَتَّى ظَلَّلَ عَلَيْهِ بِرِدَائِهِ، فَعَرَفَ النَّاسُ رَسُولَ اللَّهِ صلعم عِنْدَ ذَلِكَ) قال الحافظُ العسقلاني: ظاهر السِّياق يقتضي أن الذي يجيء ممَّن لا يعرف النَّبي صلعم يظنه أبا بكر، فلذلك يبدأ بالسلام عليه. ويدلُّ عليه قوله: «فأقبل أبو بكر ☺ حتى ظلَّل عليه برداءه فعرف الناس رسول الله صلعم ».
          ووقع بيان ذلك في رواية موسى بن عقبة عن ابن شهابٍ. قال: وجلس رسولُ الله صلعم صامتاً، فطفقَ من جاء من الأنصار ممَّن لم يكن رآه يحسبه أبا بكرٍ حتى إذا أصابتْه الشَّمس أقبل أبو بكر ☺ بشيء يظلُّه.
          ولعبد الرحمن بن عويمر في رواية ابن إسحاق: أناخ إلى الظِّل هو وأبو بكر، والله ما أدري أيُّهما هو حتى رأينا أبا بكر ينحاز له عن الظِّل، فعرفناه بذلك.
          (فَلَبِثَ رَسُولُ اللَّهِ صلعم فِي بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ بِضْعَ عَشْرَةَ لَيْلَةً) واختلف فيمن نزل / منهم فقيل: نزل على كلثوم بن الهدْم، وقيل: على سعيد بن خيثمة، ولا خلاف أنَّه نزل في المدينة على أبي أيوب ☺. وفي حديث أنس ☺ الآتي في الباب الذي يليه: أنَّه أقام فيهم أربع عشرة ليلة [خ¦3911].
          وقال موسى بن عقبة عن ابنِ شهاب: أقام فيهم ثلاثاً، قال: ورُوِي عن ابنِ شهاب عن مُجمِّع أنَّه أقام اثنتين وعشرين ليلة. وقال ابنُ إسحاق: أقام فيهم خمساً وبنو عَمرو بن عوف يزعمون أكثر من ذلك.
          (وَأُسِّسَ المَسْجِدُ الَّذِي أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى) يريد: مسجد قباء.
          وفي رواية عبد الرَّزَّاق عن مَعْمر عن ابن شهابٍ عن عروة قال: الذين بني فيهم المسجد الذي أُسِّس على التَّقوى هم بنو عَمرو بن عوف. وكذا في حديث ابن عبَّاس ☻ عند ابنِ عائذ، ولفظه: ومكثَ في بني عَمرو بن عوف ثلاث ليالٍ فاتَّخذ مكانه مسجداً، فكان يصلِّي فيه، ثمَّ بناه بنو عَمرو بن عوف فهو الذي أُسِّس على التَّقوى.
          وروى يونس بن بُكير في روايات «المغازي» عن المسعودي عن الحكم بن عُتيبة قال: لما قدم النَّبي صلعم فنزلَ بقباء قال عمَّار بن ياسر: ما لرسول الله صلعم بُدٌّ من أن يجعل له مكاناً يستظلُّ به إذا استيقظ ويصلِّي فيه، فجمع حجارةً فبنى مسجد قُباء فهو أوَّل مسجدٍ بُني؛ يعني: بالمدينة.
          وهو في التَّحقيق أوَّل مسجد صلى رسول الله صلعم فيه بأصحابه جماعة ظاهراً، وأوَّل مسجد بُنِيَ لجماعة المسلمين عامَّة، وإن كان قد تقدَّم بناء غيره من المساجد، لكن لخصوص الذي بناها، كما تقدَّم في حديث عائشة ♦ في بناء أبي بكر ☺ مسجده [خ¦3905].
          وروى ابنُ أبي شيبة عن جابر ☺ قال: لقد لبثنا بالمدينة قبل أن يقدُم علينا رسول الله صلعم سنتين نعمر المساجد ونقيم الصَّلاة. ثمَّ إنَّ الجمهور على أنَّ المراد بقوله تعالى: {لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ} [التوبة:108] هو مسجدُ قباء، وهو ظاهر الآية.
          وقيل: إنَّه مسجد النَّبي صلعم ، فروى مسلم من طريق عبد الرحمن بن أبي سعيد عن أبيه: سألتُ رسول الله صلعم / عن المسجد الذي أُسِّس على التقوى فقال: «هو مسجدكم هذا».
          ولأحمد والترمذي من وجه آخر عن أبي سعيد ☺: اختلف رجلان في المسجد الذي أُسِّس على التقوى فقال أحدهما: هو مسجد النَّبي صلعم ، وقال الآخر: هو مسجدُ قباء، فأتينا رسولَ الله صلعم نسأله عن ذلك، فقال: «هو هذا، وفي ذلك _يعني: مسجد قباء_ خيرٌ كثير». ولأحمد عن سهل بنِ سعد ☻ نحوه، وأخرجه من وجه آخر عن سهلِ بن سعد عن أبيِّ بن كعبٍ ♥ مرفوعاً.
          وقال القرطبيُّ: هذا السؤال صدرَ ممَّن ظهرتْ له المساواة بين المسجدين لاشتراكهما في أنَّ كلاًّ منهما بناهُ النَّبي صلعم ، فلذلك سُئل النَّبي صلعم عنه فأجاب بأنَّ المراد مسجده، وكان بالمزية التي اقتضت تعيينه دون مسجدِ قباء؛ لكون مسجد قُباء لم يكن بناؤه بأمر ٍجَزْمٍ من الله لنبيه صلعم ، إذ كان رأياً رآه، بخلاف مسجده، إذ كان حصل له ولأصحابه من الأحوالِ القلبيَّة ما لم يحصل لغيره. انتهى.
          ويحتمل أن تكون المزيَّة طول المدة، بخلاف مسجد قباء فما أقام به إلَّا أياماً قلائل، وكفى بهذا مزيَّة من غير حاجة إلى ما تكلَّفه القرطبي.
          قال الحافظُ العسقلاني: والحقُّ أنَّ كلاًّ منهما أسِّس على التَّقوى، وقوله تعالى في بقية الآية: {فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا} [التوبة:108]. ويؤيِّد كون المراد مسجد قباء. وعند أبي داود بإسنادٍ صحيحٍ عن أبي هريرة ☺ عن النَّبي صلعم قال: «نزلت {فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا} في أهل قباء».
          وعلى هذا فالسرُّ في جوابه صلعم بأنَّ المسجد الذي أسِّس على التَّقوى مسجده رَفَعَ تَوهُّم أنَّ ذلك خاصٌّ بمسجد قباء، والله أعلم.
          وقال الدَّاودي وغيره: ليس هذا اختلافاً؛ لأنَّ كلاًّ منهما أُسِّس على التَّقوى. وقاله السُّهيلي وزاد: غير أنَّ قوله تعالى: {مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ} يقتضِي مسجد قباء؛ لأنَّ تأسيسه كان في أوَّل يوم صلعم بدار الهجرة، والله تعالى أعلم.
          (وَصَلَّى فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صلعم ، ثُمَّ رَكِبَ رَاحِلَتَهُ، فَسَارَ يَمْشِي مَعَهُ النَّاسُ) وعند ابن إسحاق وابن عائذ: / أنَّه ركب من قباء يوم الجمعة فأدركته الجمعة في بني سالم بن عوف فقالوا: يا رسول الله هلُمَّ إلى العَددِ والعُدَدِ والقوة انزل بين أظهرنا.
          وعند أبي الأسود عن عروة نحوه: وصاروا يتنازعون زمام ناقته، وسَمَّى ممَّن سأله النُّزول عندهم عِتْبان بن مالك، في بني سالم وفروة بن عَمرو في بني بياضة وسعد بن عبادة والمنذر بن عَمرو وغيرهما في بني ساعدة، وأبو سليط، وغيره في بني عدي يقول لكلٍّ منهم: «دعوها فإنَّها مأمورة». وعند الحاكم من طريق إسحاق بن أبي طلحة عن أنس ☺: جاءت الأنصار فقالوا: إلينا يا رسول الله، فقال: «دعوا النَّاقة فإنَّها مأمورةٌ» فبركت على باب أبي أيوب ☺.
          (حَتَّى بَرَكَتْ عِنْدَ مَسْجِدِ الرَّسُولِ) ويروى: <عند مسجد رسولِ الله> ( صلعم بِالْمَدِينَةِ) وفي حديث البراء عن أبي بكر ☺: فتنازعه القوم أيُّهم ينزل عليه، فقال: «إنِّي أنزلُ على أخوال عبد المطَّلب أُكرمهم بذلك». وعند ابنِ عائذ عن الوليد بن مسلم، وعند سعيدِ بن منصور عن عطاف بن خالد أنَّها استناختْ به أولاً، فجاءه ناسٌ فقالوا: المنزل يا رسول الله، فقال: «دعوها» فانبعثتْ حتى استناختْ عند موضع المنبر من المسجدِ، ثمَّ تحلحلتْ فنزل عنها فأتاه أبو أيُّوب ☺ فقال: إنَّ مَنزلي أقربُ المنازل فائذن لي أن أنقلَ رَحْلك، قال: «نعم» فنقلَ وأناخ النَّاقة في منزله. وذكر ابنُ سعد: أنَّ أبا أيُّوب ☺ لما نقل رحل النَّبي صلعم إلى منزله قال النَّبي صلعم : «المرء مع رحله».
          وأنَّ أسعدَ بن زُرَارة أخذَ ناقته فكانتْ عنده، فقال: وهذا أثبتُ. وذكر أيضاً أنَّ مدَّة إقامته عند أبي أيوب ☺ كان تسعة أشهر.
          (وَهُوَ يُصَلِّي فِيهِ يَوْمَئِذٍ رِجَالٌ مِنَ المُسْلِمِينَ، وَكَانَ) أي: موضع المسجد (مِرْبَدًا) بكسر الميم وسكون الراء وفتح الموحَّدة، هو الموضع الذي يجفَّف فيه التَّمر. وقال الأصمعيُّ: المربد: كلُّ شيءٍ حبست فيه الإبل أو الغنم، وسُمِّي مربد البصرة؛ لأنَّه كان موضع سوق الإبل.
          (لِسَهْلٍ وَسُهَيْلٍ) ويروى: <لسُهيل وسهل> بتقديم المصغَّر، وهما ابنا رافع بن عمر بن عائذ بن ثعلبة / بن غنم بن مالك بن النَّجار، وسُهيل شهد بدراً دون أخيه سهل، وزاد ابنُ عُينية في «جامعه» عن أبي موسى: «وكانا من الأنصار».
          (غُلاَمَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي حَجْرِ أَسْعَدَ بْنِ زُرَارَةَ) بفتح الحاء وسكون الجيم، وهو من حجرِ الثَّوب، وهو طرفُه المقدَّم؛ لأنَّ الإنسان يربي ولده في حجره، والولي القائم بأمرهِ كذلك. وقال ابنُ الأثير: الحجر _بالفتح والكسر_ الثَّوب والحضن، والمصدر بالفتح لا غير. وأسعد بنُ زُرارة بالألف في أوَّله. وفي رواية أبي ذرٍّ وحده: <سعد بن زرارة> بدون الألف، والأوَّل هو الوجه.
          وكان أسعدُ من السَّابقين إلى الإسلام من الأنصار، ويكنى: أبا أُمامة، وأمَّا أخوه سعد فتأخَّر إسلامه. ووقع في مُرسل ابنِ سيرين عند أبي عبيد في «الغريب»: أنَّهما كانا في حجر معاذ بن عفراء ☺. وحكى الزُّبير: أنهما كانا في حجر أبي أيُّوب ☺، والأوَّل أثبت. وذكر ابنُ سعد: أنَّ أسعد بن زُرَارة كان يصلِّي فيه قبل أن يقدم النبي صلعم .
          (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلعم حِينَ بَرَكَتْ بِهِ رَاحِلَتُهُ: هَذَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ المَنْزِلُ ثُمَّ دَعَا رَسُولُ اللَّهِ صلعم الغُلاَمَيْنِ فَسَاوَمَهُمَا بِالْمِرْبَدِ، لِيَتَّخِذَهُ مَسْجِدًا) وفي رواية ابنِ عيينة: «فكلم عمَّهما الذي كانا في حجره أن يبتاعَه منهما، فطلبَه منهما فقالا: ما تصنعُ به فلم يجد بُدًّا أن يصدقهما».
          (فَقَالاَ: لاَ، بَلْ نَهَبُهُ لَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَأَبَى رَسُولُ اللَّهِ أَنْ يَقْبَلَهُ مِنْهُمَا هِبَةً حَتَّى ابْتَاعَهُ مِنْهُمَا) أي: حتَّى اشتراه من سهل وسُهيل. وذكر ابنُ سعد عن الواقدي عن مَعْمر عن الزُّهري: أنَّ النَّبي صلعم أمرَ أبا بكرٍ ☺ أن يُعْطيهما ثمنه. قال: وقال غير مَعْمر: أعطاهما عشرة دنانير.
          وتقدَّم في «أبواب المساجد» من حديث أنسٍ ☺: أنَّه صلعم قال: «يا بَني النَّجار ثَامِنوني بحائطِكُم» قالوا: لا واللهِ لا نطلُبُ ثمنَه إلَّا إلى الله [خ¦428] ويأتي مثله في آخر الباب الذي يليهِ [خ¦3932].
          ولا مُنَافاة بينهما فيجمعُ: بأنَّهم لما قالوا: لا نطلبُ ثمنه إلَّا إلى الله سأل عمَّن يختصُّ بملكه منهم، فعيَّنوا له الغُلامين، فابتاعَهُ منهما، وحينئذٍ يحتمل أن يكون الذين قالوا له: لا نطلبُ ثمنه إلَّا إلى الله تحمَّلوا عنه للغلامين / بالثَّمن. وعند الزُّبير: أنَّ أبا أيُّوب أرضاهما عن ثمنهِ.
          (ثُمَّ بَنَاهُ مَسْجِدًا، وَطَفِقَ) أي: جعل (رَسُولُ اللَّهِ صلعم يَنْقُلُ مَعَهُمُ اللَّبِنَ) بفتح اللام وكسر الموحدة، وهو الطُّوب المعمول من الطِّين الذي لم يُحْرَق (فِي بُنْيَانِهِ) وفي رواية عطَّاف بن خالد عند ابن عائد أنَّه صلى فيه، وهو عريش اثني عشر يوماً، ثمَّ بناه وسقَّفه. وعند الزُّبير في «أخبار المدينة» من حديث أنس ☺: أنَّه بناهُ باللَّبِن بعد الهجرة بأربع سنين.
          (وَيَقُولُ، وَهُوَ يَنْقُلُ اللَّبِنَ: هَذَا الحِمَالُ) بكسر الحاء المهملة وتخفيف الميم؛ أي: هذا المحمول من اللَّبن (لاَ حِمَالَ خَيْبَرْ، هَذَا أَبَرُّ رَبَّنَا وَأَطْهَرْ) والمعنى: هذا المحمولُ من اللَّبن أبرُّ عند الله؛ أي: أبقى ذخراً وأكثر ثواباً، وأدوم منفعةً، وأشدَّ طهارة من حمال خيبر؛ أي: التي تحمل منها من التَّمر والزَّبيب ونحو ذلك. وفي رواية المستملي: <هذا الجَمال> بفتح الجيم، وقوله: «ربَّنا» منادى مضاف؛ أي: يا ربنا، وفي نسخة مكانه: <ديننا>.
          (وَيَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنَّ الأَجْرَ أَجْرُ الآخِرَهْ، فَارْحَمِ الأَنْصَارَ، وَالمُهَاجِرَهْ) كذا في هذه الرِّواية. ويأتي في حديث أنس ☺ في الباب الذي بعده: «اللَّهمَّ لا خيرَ إلَّا خير الآخرة.فانصرْ الأنصارَ والمهاجره» [خ¦3932]. وجاء في «غزوة الخندقِ» بتعبير آخر من حديث سهلِ بن سعدٍ ☻ [خ¦4098].
          (فَتَمَثَّلَ بِشِعْرِ رَجُلٍ مِنَ المُسْلِمِينَ لَمْ يُسَمَّ لِي) قال الكرمانيُّ: يحتمل أن يرادَ به الشعر المذكور، ويحتمل أن يرادَ شعرٌ آخر. وقال الحافظُ العسقلاني: الأوَّل هو المعتمدُ. وتعقَّبه العينيُّ كما هو دأبه: بأن الاعتمادَ لا يكون إلَّا بالعماد، فافهم.
          (قَالَ ابْنُ شِهَابٍ) هو: محمدُ بن مسلم بن شهاب الزُّهري (وَلَمْ يَبْلُغْنَا فِي الأَحَادِيثِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلعم تَمَثَّلَ بِبَيْتِ شِعْرٍ تَامٍّ غَيْرَ هَذِهِ الأَبْيَات) زاد ابنُ عائذ في آخره: التي كان يرتجزُ بهنَّ، وهو ينقل اللَّبن لبنيان المسجد. ويروى غير هذا البيت. وقال ابنُ التِّين: أنكر على الزُّهري هذا من وجهين:
          أحدُهما: أنَّه رجز، وليس بشعرٍ، ولهذا يقال لقائله: راجز، ويقال: أنشدَ رجزاً، ولا يقال له شاعر ولا أنشد شعراً.
          والوجه الثاني: أنَّ العلماء / اختلفوا هل ينشدُ النَّبي صلعم شعراً أم لا؟ وعلى الجواز هل ينشدُ بيتاً واحداً أم يزيد؟ وقد قيل: إنَّ البيت الواحد ليس بشعرٍ. انتهى. وفيه نظر.
          والجوابُ عن الأوَّل أنَّ الجمهور على أنَّ الرَّجز من أقسام الشِّعر إذا كان موزوناً، وقد قيل: إنَّه كان صلعم إذا قال ذلك لا يطلق التاء فيه، بل يقولها متحرِّكة التاء، ولا يثبت ذلك، وسيأتي من حديث سهل بن سعدٍ ☻ في «غزوة الخندق» بلفظ: «فاغفرْ للمهاجرين والأنصار» [خ¦4098]. وهذا ليس بموزونٍ.
          وعن الثَّاني: بأن الممتنع عليه صلعم إنشاؤه لا إنشاده، ولا دَليل على منع إنشاده متمثلاً، وقول الزُّهري: لم يبلغنا، لا اعتراضَ عليه فيه، ولو ثبت عنه صلعم أن أنشد غير ما نقله الزُّهري؛ لأنَّه نفى أن يكون بلغه ولم يُطلق النَّفي المذكور.
          على أنَّ ابن سعد روى عن عفَّان عن معتمر بن سليمان عن مَعمر عن الزُّهري قال: لم يقل النَّبي صلعم من الشِّعر إلَّا شيئاً قيل قبله، أو يروي عن غيره إلَّا هذا، كذا قال. وقال غيره: إنَّ الشعر المذكور لعبد الله بن رواحة، وكأنَّه لم يبلغه، وما في «الصحيح» أصح، وهو قوله: «بشعرِ رجلٍ من المسلمين».
          وفي الحديث: جوازُ قول الشعر وأنواعه خصوصاً الرَّجز في الحرب والتَّعاون على سائر الأعمال الشَّاقة؛ لما فيه من تحريك الهمم وتشجيعِ النُّفوس وتحريكها على مُعالجة الأمور الصَّعبة.
          وذكر الزُّبير من طريق مُجمِّع بن يزيد قال قائل من المسلمين في ذلك:
لَئنْ قَعَدْنَا وَالنَّبِيُّ يَعْمَلُ                     ذَاكَ إِذاً الْعَمَلُ المُضَلَّلُ
          ومن طريق أُخرى عن أمِّ سلمة ♦ نحوه، وزاد قال: وقال عليُّ بن أبي طالب ☺:
لَا يَسْتَوِي مَنْ يَعْمُرُ المَسَاجِدَا                     يَدْأَبُ فِيْهَا قَائِماً وَقَاعِداً
          وَمَنْ يُرَى عَنِ التُّرَابِ حَائِداً
          وسيأتي كيفية نزوله على أبي أيوب ☺ إلى أن أكملَ المسجد في حديث أنس ☺ في هذا الباب إن شاء الله تعالى [خ¦3911].
          ومطابقة الحديث للترجمة ظاهرةٌ.
          وقد مضى جزءٌ من أوَّل هذا الحديث في «كتاب الصَّلاة»، في باب «المسجد يكون في الطريق» [خ¦476]، وكذلك أخرجه في «كتاب الإجارة»، في باب «استئجار المشركين عند الضرورة» [خ¦2263].


[1] بياض في الأصل، وفي الفتح هنا: «بغائهما».