نجاح القاري لصحيح البخاري

باب ذكر الجن وقول الله تعالى: {قل أوحى إلي أنه استمع نفر من}

          ░32▒ (ذِكْرُ الْجِنِّ) ويروى: <باب ذكر الجن> بزيادة لفظ: «باب»، وتقدَّم الكلام في الجنِّ في أوائل «بدء الخلق» [خ¦59/12-5087] (وَقَوْلُ اللَّهِ ╡) بالرفع والجر عطفاً على ذكر الجن على الرِّوايتين ({قُلْ} [الجن:1]) أي: أخبر يا محمد قومك ما ليس لهم به علم، ثم بيَّن فقال: ({أُوحِيَ إِلَيَّ}) أي: أُخْبرتُ بالوحي من الله تعالى ({أَنَّهُ}) أي: الأمر والشَّأن، وكلمة: «أنْ»، بالفتح مع اسمه وخبره في محلِّ الرفع؛ لأنه قام مقام فاعل {أُوحِيَ}.
          ({اسْتَمَعَ}) أي: القرآن، وحذف لأنَّ ما بعده يدلُّ عليه والاستماع طلبُ السَّماع بالإصغاء إليه ({نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ}) أي: جماعة منهم. ذكر في «التفسير» [خ¦3860] [خ¦4921] وكانوا تسعة من جنِّ النِّصيبين، وقيل: من بني الشِّيْصبان، وهم أكثر الجن عدداً وهم عامة جنود إبليس. وقيل: كانوا سبعة كانوا من اليمن وكانوا يهود، وقيل: كانوا مشركين. وقد أنكر ابن عبَّاس ☻ أنهم اجتمعوا بالنَّبي صلعم كما تقدَّم في «الصلاة» من طريق أبي بشر عن سعيد بن جبير عن ابن عبَّاس ☻ قال: «ما قرأ النَّبي صلعم على الجنِّ ولا رآهم» الحديث [خ¦773].
          وحديث أبي هريرة ☺ في هذا الباب [خ¦3860] وإن كان ظاهراً في اجتماع النَّبي صلعم بالجنِّ وحديثه معهم، لكنه ليس فيه أنَّه قرأ عليهم، ولا أنهم الجن الذين استمعوا القرآن؛ لأن في حديث أبي هريرة ☺ أنه كان مع النبي صلعم / ليلة الجنِّ، وأبو هريرة ☺ إنما قدم على النَّبي صلعم في السنة السابعة بالمدينة، وقصَّة استماع الجن للقرآن كانت بمكَّة قبل الهجرة.
          وحديث ابن عبَّاس ☻ صريحٌ في ذلك، فيجمع بين ما نفاه وما أثبته غيره بتعدُّد وفود الجنِّ على النَّبي صلعم ، فأمَّا ما وقع في مكَّة فكان لاستماع القرآن والرُّجوع إلى قومهم منذرين، كما وقع في القرآن، وأمَّا ما في المدينة فللسؤال عن الأحكام، وذلك بيِّن في الحديثين المذكورين.
          ويحتمل أن يكون القدوم الثاني كان أيضاً بمكة وهو الذي يدل عليه حديث ابن مسعود ☺ كما سيجيء قريباً [خ¦3859]، وأمَّا حديث أبي هريرة ☺ فليس فيه تصريح بأن ذلك وقع بالمدينة، ويحتمل تعدُّد القدوم بمكة مرَّتين وبالمدينة أيضاً، فقد ورد في الأحاديث ما يدلُّ على أنَّ وفادة الجنِّ كانت ستَّ مرَّات:
          الأولى: قيل فيها: اغتيل أو استظير والتُمِس.
          الثانية: كانت بالحجون.
          الثالثة: كانت بأعلى مكَّة وانصاع في الجبال.
          الرابعة: كانت في بقيع الغرقد، وفي هؤلاء اللَّيالي حضر ابن مسعود ☺ وخط عليه.
          الخامسة: كانت خارج المدينة وحضرها الزُّبير بن العوام.
          السادسة: كانت في بعض أسفاره حضرها بلال بن الحارث.
          وقال ابن إسحاق: لما أيسَ رسول الله صلعم من خبر ثقيف انصرفَ عن الطائف راجعاً إلى مكة حتى كان ببطنِ نخلةٍ قام من جوف اللَّيل يصلِّي، فمرَّ به النفوس من الجنِّ الذين ذكرهم الله في القرآن، وفيما ذُكِرَ لي هم سبعة نفرٍ من أهل جنِّ نصيبين، فاستمعوا له فلمَّا فرغ من صلاته ولوا إلى قومهم منذرين، قد آمنوا وأجابوا إلى ما سمعوا، فقصَّ الله خبرهم عليه فقال تعالى: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ} [الأحقاف:29] الآية، ثم قال تعالى: {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ} [الجن:1] إلى آخر القصة من خبرهم، والله تعالى أعلم.
          وقال البيهقي: حديث ابن عبَّاس ☻ حكى ما وقعَ في أوَّل الأمر عندما علم الجنُّ بحاله صلعم ، وفي ذلك الوقت / لم يقرأ عليهم ولم يرهم، ثم أتاه داعي الجنِّ مرَّة أخرى فذهب معه وقرأ عليهم القرآن، كما حكاه عبدُ الله بن مسعود ☺، انتهى.
          وأشار بذلك إلى ما أخرجه أحمدُ والحاكم من طريق زرِّ بن حُبيش عن عبدِ الله بن مسعود ☺ قال: هبطوا على النَّبي صلعم وهو يقرأُ القرآن ببطن نخلةٍ، فلمَّا سمعوه قالوا: أنصتوا وكانوا سبعة أحدهم زوبعة. قال العسقلانيُّ: وهو يوافقُ حديث ابن عبَّاس ☻ .
          وحاصله أنَّ النَّفي من ابن عبَّاس ☻ إنما هو حيث استمعوا التِّلاوة في صلاة الفجر ولم يُرِدْ به نفي الرُّؤية والتِّلاوة مطلقاً.
          وقال القرطبيُّ: معنى حديث ابن عبَّاس ☻ أنَّه لم يقصدهُم في القراءة، فعلى هذا فلم يعلم رسولُ الله صلعم باستماعهم ولا كلَّمهم، وإنما أعلمه الله تعالى بقوله: {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ}...إلى آخرى. ويقال: عبد الله بن مسعود ☺ أُعلِم بقصَّة الجن من عبد الله بن عبَّاس ☻ فإنه حضرها وحفظها، وعبد الله بن عباس ☻ كان إذ ذاك طفلاً رضيعاً فقد قيل: إن قصَّة الجنِّ كانت قبل الهجرة بثلاث سنين.
          وقال الواقديُّ: كانت في سنة إحدى عشرة من النُّبوة وابن عبَّاس ☻ كان في حجَّة الوداع قد ناهزَ الاحتلام، والله أعلم بحقيقة المرام.
          وأخرج مسلم من طريق داود بن أبي هند عن الشعبي عن علقمة قال: قلتُ لعبد الله بن مسعود ☺: هل صحب أحد منكم رسولَ الله صلعم ليلة الجنِّ؟ قال: لا، ولكنَّا فقدناه ذات ليلة فقلنا: اغتيل أو استُطِير فبتنا بشر ليلةٍ، فلمَّا كان عند السَّحر إذا نحن به يجيءُ من قِبَلِ حراء، فذكرنا له، فقال: أتاني دَاعي الجنِّ فأتيتهم فقرأت عليهم، فانطلقَ فأرانا آثارهُم وآثار نيرانهم.
          وقول ابنِ مسعود ☺ في هذا الحديث أنَّه لم يكن مع النَّبي صلعم أصحُّ ممَّا رواه الزُّهري أخبرني / أبو عثمان بن شيبة الخزاعي أنَّه سمع ابن مسعود ☺ يقول: إن رسول الله صلعم قال لأصحابه وهو بمكَّة: «من أحبَّ منكم أن يحضرَ اللَّيلة أَمْرَ الجنِّ فليفعل» قال: فلم يحضر منهم أحدٌ غيري، فلمَّا كنَّا بأعلى مكَّة خطَّ لي برجله خطًّا، ثم أمرني أن أجلس فيه، ثمَّ انطلق، ثمَّ قرأ القرآن فغشيته أسودة كثيرةً حالت بيني وبينه حتى ما أسمع صوته، ثم انطلقوا وفرغ منهم مع الفجر فانطلق.
          وقال البيهقي: يحتمل أن يكون قوله في «الصَّحيح»: ما «صحبه منا أحدٌ»، أراد به في حال قراءته القرآن، لكن قوله في «الصَّحيح» «أنهم فقدوه» يدلُّ على أنهم لم يعلموا بخروجه.
          إلَّا أن يحمل على أنَّ الذي فقدوه غير الذي خرج معه، والله تعالى أعلم.
          ولرواية الزُّهري متابع من طريقِ موسى بن عليِّ بن رباح، عن أبيه، عن أبي مسعود ☺ قال: استتبعنِي النَّبي صلعم فقال: «إن نفراً من الجنِّ خمسة عشر بني إخوة، وبني عمٍّ يأتونني اللَّيلة فأقرأ عليهم القرآن» فانطلقتُ معه إلى المكان الذي أرادَ فخطَّ لي خطاً... فذكر الحديث نحوه الدَّارقطني وابن مردويه وغيرهما.
          وأخرج ابنُ مَرْدويه من طريق أبي الجَوْزاء عن ابنِ مسعود ☺ نحوه مختصراً .
          وذكر ابنُ إسحاق أنَّ استماعَ الجنِّ بعد رجوع النَّبي صلعم من الطَّائف لما خرج إليها يدعو ثقيفاً إلى نصره، وذلك بعد موتِ أبي طالب، وكان ذلك في سنة عشر من المبعث، كما جزم ابنُ سعد بأن خروجه إلى الطَّائف كان في شوال.
          وسوق عُكاظ التي أشار إليها ابن عبَّاس ☻ كانت تقامُ في ذي القعدة. وقول ابن عبَّاس ☻ في حديثهِ: «وهو يصلِّي بأصحابه» لم يُضبَط ممَّن كان معه في تلك السَّفرة غير زيد بن حارثة، فلعلَّ بعض الصَّحابة تلقَّاه لما رجع، والله تعالى أعلم.