نجاح القاري لصحيح البخاري

باب حديث الإسراء

          ░41▒ (بابُ حَدِيثِ الإِسْرَاءِ) أي: هذا باب ما جاء في حديثِ الإسراء من القرآن والحديث (وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى) بالجرِّ عطفاً على «حديث الإسراء»، وسقط في بعض النسخ لفظ: باب. فعلى هذا يكون قوله: «حديث الإسراء» مرفوعاً على أنَّه خبر مبتدأ محذوفٍ، ويكون قوله: «وقول الله تعالى»، بالرفع عطفاً عليه.
          ({سُبْحَانَ} [الإسراء:1]) عَلَمٌ للتَّسبيح كعثمان علم للرَّجل، وأصله للتنزيه، ويُطلق في موضع التَّعجب. فعلى الأول المعنى: أسبِّح الله؛ أي: أنزهه من جميع النَّقائص والعيوب والعجز عمَّا يُذكر بعدُ، وأن يكون رسوله كذاباً فيما أخبر به. وعلى الثاني: عجَّب الله عباده بما أنعم به على رسوله، ويحتمل أن يكون بمعنى: الأمر؛ أي: سبِّحوا الله.
          ({الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ} [الإسراء:1]) والمراد به النَّبي صلعم ، والضَّمير لله تعالى والإضافة تشريفيَّة، وإنما لم يقل برسوله أو نبيِّه إشارة إلى أنَّه مع هذا الإكرام الذي أكرمه الله تعالى به والتَّعظيم الذي عظَّمه الله تعالى به هو عبده ومخلوقه لئلا يتغالوا فيه، كما تغالى النَّصارى في المسيح حيث قالوا: ابن الله، وكما تغالى اليهود حيث قالوا في عزير: ابن الله، تعالى الله وتنزَّه عن أن يكون له ابنٌ، بل هو واحدٌ أحدٌ فردٌ صمدٌ ليس بأب ولا ابن.
          وقوله: {أَسْرَى} مأخوذٌ من السُّرى وهو سير اللَّيل، يُقال: أسرى وسَرَى إذا سارَ ليلاً وكلاهما بمعنى واحدٍ عند الأكثر. وقال الحَوْفي: أَسْرى: سار ليلاً، وسرى: سار نهاراً، وقيل: أسرى: سار من أوَّل الليل، وسرى: سار من آخره، وهذا أقرب.
          والمراد بقوله: {أَسْرَى بِعَبْدِهِ} أي: جعل البراق يسري به، كما يُقال: أمضيتُ كذا؛ أي: جعلته يمضي وحذف المفعول لدَلالة السِّياق عليه، ولأنَّ المراد ذكر المُسرىَ به لا ذكر الدَّابة.
          ({لَيْلاً} [الإسراء:1]) ظرف للإسراء، وهو للتأكيد وفائدته دفع توهم المجاز؛ لأنَّه قد يطلق على سير النهار أيضاً، ويقال: بل هو إشارة إلى أن ذلك وقع في بعض اللَّيل لا في جميعه.
          والعرب تقول: سرى فلان ليلاً إذا سار بعضه، وسرى ليله إذا سار جميعه، / ولا يُقال: أسرى ليلاً إلا إذا وقع سيره في أثناء اللَّيل، وإذا وقع في أوله يقال: أدلج، ومن هذا قوله تعالى في قصة موسى وبني إسرائيل: {فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلاً} [الدخان:23] أي: من وسط الليل، وإنما كان ذلك ليلاً ليظهر الخصوصية بين جليس الملك ليلاً وجليسه نهاراً.
          ({مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ}) وهو مسجدُ مكَّة بعينه؛ لما رويَ أنَّه صلعم قال: «بينا أنا في المسجد الحرام في الحجر عند البيت بين النَّائم واليقظان إذ أتاني جبريلُ بالبراق...» الحديث.
          وقيل: المراد من المسجد الحرام: الحرم، وسماه: المسجد الحرام؛ لأن كله مسجد، أو لأنَّه محيطٌ به، أو ليطابق المبدأ المنتهى لما روي أنَّه كان نائماً في بيت أمِّ هانئ بعد صلاة العشاء فأُسِريَ به ورجع من ليلته، وقصَّ القصَّة عليها.
          وجمع بين الرِّوايتين بأنَّه أخرجه جبريل من بيت أمِّ هانئ إلى المسجد فأسرى به، فليتأمل.
          ({إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى} [الإسراء:1]) وهو مسجد بيت المقدس سُمِّي به؛ لأنَّه لم يكن حينئذٍ وراءه مسجد. وتمام الآية: {الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ} ببركات الدين والدنيا؛ لأنَّه مهبط الوحي ومتعبَّد الأنبياء من لدن موسى عليه و‰، ومحفوف بالأنهار والأشجار.
          {لِنُرِيَهُ مِنْ آَيَاتِنَا} كذهابه في برهةٍ من اللَّيل مسيرة أربعين يوماً ومشاهدته بيت المقدس وتمثيل الأنبياء له، ووقوفه على مقاماتهم وصَرَفَ الكلام من الغيبة إلى التَّكلُّم لتعظيم تلك البركات والآيات.
          {إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ} لأقوال محمد صلعم {الْبَصِيرُ} [الإسراء:1] لأفعاله، فيكرمه ويقرِّبه على حسب ذلك.
          وقد وقع بيان ما رآه في ليلة الإسراء في حديث شدَّاد بن أوس ☺ أخرجه البزَّار والطبراني وصحَّحه البيهقي في «الدلائل» أنَّه أوَّل ما أسرى به مرَّ بأرضٍ ذات نخلٍ، فقال له جبريل ◙: انزلْ فصلِّ فنزلَ فصلَّى فقال: «صلَّيت بيثرب، ثمَّ مرَّ بأرضٍ بيضاء، فقال: انزلْ فصلِّ فنزل فصلَّى، فقال: صلَّيت بمدين، ثم مرَّ ببيت لحمٍ، فقال: انزلْ فصلِّ فنزلَ فصلَّى قال: صلَّيت حيث ولد عيسى» وفيه: أنَّه / دخل المدينةَ من بابها اليماني فصلَّى في المسجد.
          وفيه أنَّه مرَّ في رجوعه بعير لقريش فسلم عليهم فقال بعضهم: هذا صوت محمد. وفيه أنَّه أعلمهم بذلك وأنَّ عيرهم تقدم في يوم كذا، فقدمت تقدمهم الجمل الذي وصفه. وفي رواية عبد الرحمن بن هاشم بن عتبة عن أنس ☺ عند البيهقيِّ في «الدلائل» أنَّه مرَّ بشيء يدعوه منتحياً عن الطَّريق فقال له جبريل: سرْ. وأنَّه مرَّ بعجوزٍ تدعوه فقال له جبريل: سر، وأنَّه مرَّ بجماعة فسلَّموا فقال له جبريل: ارددْ عليهم، وفي آخره: فقال له الذي دعاك إبليس والعجوز الدُّنيا والذين سلَّموا: إبراهيم وموسى وعيسى ‰.
          وفي حديث أبي هريرة عند الطَّبراني والبزَّار أنَّه مرَّ بقوم يزرعون ويحصدون كلَّما حصدوا عاد كما كان، قال جبريل ◙: «هؤلاء المجاهدون».
          ومرَّ بقومٍ تُرضخ رؤوسهم بالصَّخر كلَّما رضخت عادت قال: هؤلاء الَّذين تثاقلُ رؤوسهم عن الصَّلاة.
          ومرَّ بقومٍ على عَوراتهم رقاع يسرحون كالأنعام قال: هؤلاء الذين لا يؤدُّون الزكاة. ومرَّ بقوم يأكلون لحماً نيئاً خبيثاً ويدعون لحماً نضيجاً طيباً قال: هؤلاء الزُّناة. ومرَّ برجلٍ جمع حزمة حطبٍ لا يستطيع حملها، ثم هو يضم إليها غيرها قال: هذا الذي عنده الأمانة لا يؤدِّيها وهو يطلبُ أخرى.
          ومرَّ بقومٍ تُقرض ألسنتُهم وشفاههم كلَّما قُرِضَتْ عادتْ قال: هؤلاء خُطباء الفتنة. ومرَّ بثورٍ عظيمٍ يخرج من ثقبٍ صغيرٍ يريد أن يرجعَ فلا يستطيع قال: هذا الرَّجل يتكلَّم بالكلمة فيندم فيريد أن يردَّها فلا يستطيع.
          وفي حديث أبي هريرة ☺ عند البزَّار والحاكم أنَّه صلى ببيت المقدس مع الملائكة، وأنَّه أتى هناك بأرواح الأنبياء ‰ فأثنوا على الله، وفيه قول إبراهيم ◙: لقد فَضَلكم محمد صلعم .
          وفي رواية عبد الرحمن بن هاشم عن أنس ☺، ثمَّ بُعِث له / آدم فمَن دونه ‰ فأمَّهم تلك اللَّيلة. وفي حديث أمِّ هانئ عند أبي يَعلى: «ونشر لي رهط من الأنبياء منهم إبراهيم وموسى وعيسى ‰ فصفَّ بهم كلهم». وفي رواية عبد الله بن الفضل عن أبي سلمة: «ثمَّ حانت الصَّلاة فأممتُهم» أخرجه مسلم. وفي حديث أبي أمامة عند الطَّبراني في «الأوسط»: «ثم أقيمت الصَّلاة فتدافعوا حتى قدَّموا محمداً صلعم ». وفي حديث أبي سعيد ☺: «دعاني داعٍ اُنظرني أسألك، فلم أجبْه، ثمَّ دعاني آخر كذلك، فلم أُجبه» وفيه: «إذا امرأة حاسرةٌ عن ذراعيها، فقالت: اُنظرني أسألك فلم ألتفت إليها». وفيه: أنَّ جبريل ◙ قال له: «أمَّا الداعي الأول فهو داعي اليهود، والثاني: داعي النَّصارى، والمرأة الدنيا».
          وفيه أيضاً أنه رأى موائد عليها لحم طيِّب ليس عليها أحد، وأخرى عليها لحمٌ منتنٌ عليها ناس يأكلون، قال جبريل: هؤلاء الذين يتركون الحلالَ ويأكلون الحرام.
          وفيه أنَّه مرَّ بقومٍ بطونهم أمثال البيوت كلَّما نهضَ أحدُهم خرَّ، وأنَّ جبريل قال له: أكلة الربا.
          وأنَّه مرَّ بقوم مشافرهم كالإبل يلتقمون جمراً فيخرج من أسافلهم، وأنَّ جبريل قال له: هؤلاء أكلةُ أموال اليتامى. وأنَّه مرَّ بنساء يعلَّقن بثديهنَّ وأنهنَّ الزَّواني. ومرَّ بقوم يقطع من جنوبهم اللَّحم فيُطعمون وأنهم الغمَّازون الهمَّازون والعياذ بالله تعالى(1) .


[1] بعض هذه المشاهد ثبت في منام رسول الله صلعم الذي رآه في المدينة وهو غير حديث الإسراء ففيه ذكر الجهاد وذكر الزكاة وهذه لم تفرض إلا بالمدينة والله تعالى أعلم.