نجاح القاري لصحيح البخاري

باب هجرة الحبشة

          ░37▒ (بابُ هِجْرَةِ الْحَبَشَةِ) أي: هجرة المسلمين من مكَّة إلى أرض الحبشة. والهجرة في الأصل اسمٌ من الهَجْر ضدُّ الوصل، وقد هجرهُ هَجْراً وهجراناً، ثمَّ غلبت على الخروجِ من أرضٍ إلى أرضٍ وترك الأولى للثَّانية. يُقال منه: هاجر مُهاجرة. وكان ذلك؛ أي: وقوع هجرة المسلمين من مكَّة إلى أرضِ الحبشة مرَّتين.
          وذكر أهلُ السِّير أنَّ الأُولى كانت في شهرِ رجب من سنة خمسٍ من المبعث. وقال الواقديُّ: أوَّل من هاجر منهم أحدَ عشر رجلاً وأربع نسوة، وأنهم خرجوا مشاة إلى البحر.
          ويُروى أنَّهم انتهوا إلى البحرِ ما بين ماشٍ وراكبٍ فاستأجروا سفينة بنصفِ دينارٍ إلى الحبشة.
          وذكر ابنُ إسحاق أنَّ السبب في ذلك أنَّ النَّبي صلعم قال لأصحابه لما رأى المشركين يُؤذونهم ولا يستطيع أن يكفَّهم عنهم: «إنَّ للحبشة مَلِكاً لا يظلم عنده، فلو خرجتُم إليه حتَّى يجعلَ الله لكم فرجاً» قال: فكان أوَّل من خرج منهم عثمان بنُ عفان ☺ ومعه زوجته رقيَّة بنت رسول الله صلعم .
          وأخرج يعقوبُ بن سفيان بسندٍ موصولٍ إلى أنس ☺ قال: أبطأَ على رسول الله صلعم خبرهما، فقدمت امرأةٌ فقالت له: قد رأيتهما وقد حملَ عثمان امرأتَه على حمارٍ، فقال: صحبهما الله، إنَّ عثمان لأوَّل من هاجر بأهله بعد لوطٍ.
          قال الحافظُ العسقلاني: وبهذا تظهر النُّكتة في تصدير البخاري الباب بحديث عثمان ☺ [خ¦3872].
          وقد سردَ ابن إسحاق أسماءهم.
          فأمَّا الرِّجال فهم: عثمان بن عفَّان، وعبد الرَّحمن بن عوف، والزُّبير بن العوَّام، وأبو حذيفة بن عتبة، ومُصعب بن عمير، وأبو سلمة بن عبد الأسد، وعثمان بن مَظعون، وعامر بن رَبيعة، وسُهيل بن بيضاء، وأبو سَبرة بن أبي رُهم العامري، قال: ويُقال بدله: حاطب بن عَمرو العامري.
          قال: فهؤلاء العشرة أوَّل من خرج من المسلمين إلى الحبشة. قال ابنُ هشام: وبلغني أنَّه كان عليهم عثمان بن مظعون ☺.
          وأمَّا النُّسوة فهنَّ: رقية بنت رسول الله صلعم ، وسهلة / بنت سُهيل امرأة أبي حذيفة، وأم سلمة بنت أبي أمية امرأة أبي سلمة، وليلى بنت أبي حَثْمه امرأة عامر بن ربيعة.
          ووافقه الواقديُّ في سردهم وزاد اثنين: عبد الله بن مسعود، وحاطب بن عَمرو مع أنَّه ذكر في أوَّل كلامه أنهم كانوا أحدَ عشر رجلاً فالصَّواب ما قال ابنُ إسحاق أنَّه اختلف في الحادي عشر هل هو أبو سَبْرة، أو حاطب.
          وأمَّا ابن مسعود فجزم ابن إسحاق بأنَّه إنما كان في الهجرة الثانية. ويؤيِّده ما روى أحمدُ بإسناد صحيحٍ حسن عن ابن مسعود ☺ قال: بعثنا النَّبي صلعم إلى النَّجاشي ونحن نحو من ثمانين رجلاً فيهم: عبد الله بن مسعود، وجعفر بن أبي طالب، وعبد الله بن عرفطة، وعثمان بن مظعون، وأبو موسى الأشعري. فذكر الحديث.
          وقد استُشكل ذكر أبي موسى فيهم؛ لأن المذكور في «الصحيح» [خ¦3876] أنَّ أبا موسى ☺ خرج من بلادهِ هو وجماعة قاصداً النَّبي صلعم بالمدينة فألقتهم السَّفينة بأرض الحبشة، فحضروا مع جعفر إلى النَّبي صلعم بخيبر.
          ويمكن الجمعُ بأن يكون أبو موسى هاجر أولاً إلى مكَّة فأسلم فبعثه النَّبي صلعم مع من بعث إلى الحبشة فتوجَّه هو إلى بلاد قومه وهم مقابلو الحبشة من الجانب الشَّرقي، فلمَّا تحقَّقوا استقرار النَّبي صلعم وأصحابه بالمدينة هاجر هو ومن أسلم من قومه إلى المدينة، فألقتهم السَّفينة لأجل هيجان البحر إلى الحبشة، فهذا محتملٌ، وفيه جمع بين الأخبار فليعتمد، والله تعالى أعلم.
          وعلى هذا فقول أبي موسى ☺: «بلغنا مخرج النَّبي صلعم » [خ¦3876] ؛ أي: إلى المدينة، وليس المراد بلغنا مبعثه.
          ويؤيِّده أنَّه يبعد كلَّ البعد أن يتأخَّر عِلْم مبعثه إلى مضي نحو عشرين سنة، ومع الحمل على مخرجهِ إلى المدينة فلا بدَّ فيه من زيادة استقراره به وانتصافه ممَّن عاداه ونحو ذلك، وإلَّا فيبعد أيضاً أن يخفَى عليه خبر خروجه إلى المدينة ست سنين.
          ويحتمل أنَّ إقامة أبي موسى ☺ بأرضِ الحبشة طالتْ لتأخر جعفر ☺ عن الحضور إلى المدينة حتى يأتيه الإذن من النَّبي صلعم بالقدوم، وأنَّ عثمان بن مظعون ☺ / ذُكِر فيهم وإن كان مذكوراً في الأولى؛ لأنَّ ابن إسحاق وموسى بن عقبة وغيرهما من أهل السِّير ذكروا أنَّ المسلمين بلغهم وهم بأرض الحبشة أنَّ أهل مكَّة أسلموا فرجع ناسٌ منهم عثمان بن مَظعون فلم يجدوا ما أخبروا به من ذلك صحيحاً، فرجعوا وسار معهم جماعة إلى الحبشة وهي الهجرة الثانية.
          وسردَ ابن إسحاق أسماء أهل الهجرة الثانية وهم زيادة على ثمانين رجلاً. وقال ابنُ جرير الطَّبري: كانوا اثنين وثمانين رجلاً سوى نسائهم وأبنائهم. ويُشِكُّ في عمار بن ياسر هل كان فيهم، وبه تكملُ العدة ثلاثة وثمانين، والله تعالى أعلم.
          (وَقَالَتْ عَائِشَةُ ♦: قَالَ النَّبِيُّ صلعم : أُرِيتُ) بضم الهمزة على صيغة المجهول (دَارَ هِجْرَتِكُمْ ذَاتَ نَخْلٍ بَيْنَ لاَبَتَيْنِ) تثنية لابة، واللابة: بتخفيف الموحدة، وهي الحرَّة ذات الحجارة السُّود التي قد ألبستها لكثرتها، والمدينة ما بين حرَّتين عظيمتين. والحرَّة: بفتح الحاء المهملة وتشديد الراء.
          (فَهَاجَرَ مَنْ هَاجَرَ قِبَلَ) بكسر القاف وفتح الموحدة؛ أي: جهة (الْمَدِينَةِ) وناحيتها (وَرَجَعَ عَامَّةُ مَنْ كَانَ هَاجَرَ بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ إِلَى الْمَدِينَةِ) وكان ذلك بعد الهجرة الثانية إلى الحبشة، كما سيأتي بيانه موصولاً في باب «الهجرة إلى المدينة» [خ¦3905] (فِيهِ) أي: في هذا الباب (عَنْ أَبِي مُوسَى) أي: رواية عن أبي موسى عبد الله بن قيس الأشعري ☺، وسيأتي في آخر الباب حديثه مسنداً متصلاً [خ¦3876].
          (وَأَسْمَاءَ عَنِ النَّبِيِّ صلعم ) وأسماء هذه هي بنتُ عُميس الخثعمية، وهي أخت ميمونة بنت الحارث زوج النَّبي صلعم لأمها روتْ عن النَّبي صلعم وكانت أولاً تحت جعفر بن أبي طالب ☺ وهاجرت معه إلى أرض الحبشة، ثم قُتِلَ عنها يوم مؤتة فتزوجها أبو بكر الصِّدِّيق ☺ فمات عنها، ثم تزوجها عليُّ بن أبي طالب ☺.
          وحديثها سيأتي في «غزوة خيبر» من طريق أبي بُردة بن أبي موسى عن أبيه قال: بلغنا مخرج النَّبي صلعم ونحن باليمن... فذكر الحديث [خ¦4230]، / وفيه: ودخلت أسماء بنت عُمَيس وهي ممَّن قدم معنا على حفصة ♦، وقد كانت أسماء هاجرت فيمن هاجر إلى النَّجاشي، الحديث.