نجاح القاري لصحيح البخاري

باب التاريخ من أين أرخوا التاريخ؟

          ░48▒ (بابُ التَّارِيخِ) قال الجوهريَّ: التاريخ: تعريف الوقت، والتَّوريخ مثله، تقول: أرَّخت الكتاب بيوم كذا وورَّخته بمعنىً. هذا وقد فرَّق الأصمعي يبن اللُّغتين، فقال: بنو تميم يقولون: ورَّختُ الكتاب توريخاً، وقيس تقول: أرَّخته تأريخاً. وقال الصَّيداوي: أخذ التاريخ من الأرخ كأنَّه شيءٌ حدث كما يحدث الولد.
          قال الصَّغاني: قال ابنُ شُميل: يقال للأنثى من بقر الوحش: أَرْخ _بالفتح_ وجمعه: أراخ، مثل فَرْخ وفِرَاخ. وقال الصِّيداوي: هو الإِرخ _بالكسر_ وضعَّف الأزهري قوله. وقيل: التاريخ معرب من ماء وروز ومعناه: حساب الأيام والشهور والأعوام فعرَّبته العرب.
          (مِنْ أَيْنَ أَرَّخُوا التَّارِيخَ؟) يشير إلى أنَّ ابتداء التاريخ من أيِّ وقت كان؟ فيه اختلافٌ. فروى ابنُ الجوزي بإسناده إلى الشَّعبي قال: لما كثر بنو آدم في الأرض وانتشروا أرَّخوا من هبوط آدم ◙، وكان التاريخ إلى الطُّوفان، ثمَّ نار الخليل ◙، ثمَّ إلى زمان يوسف ◙، ثمَّ إلى خروج موسى ◙ من مصر ببني إسرائيل، ثم إلى زمان داود ◙، ثم إلى زمان سليمان ◙، ثم إلى زمان عيسى ◙.
          ورواه أيضاً ابن إسحاق عن ابن عبَّاس ☻ .
          وحكى ابن سعد عن ابن الكلبي: أنَّ حِمْير كانت تؤرِّخ بالتبابعة، وغسان بالسدِّ، وأهل صنعاء بظهور الحبشة على اليمن، ثم بغَلَبة الفرس، ثم أرَّخت العرب بالأيام المشهورة كحرب البسوس، وداحس والغبراء، وبيوم ذي قار، والفجارات ونحوها، وبين حرب البَسُوس، ومبعث نبينا صلعم ستُّون سنة.
          وقال ابن هشام الكلبي عن أبيه: أمَّا الروم فأرَّخت بقتل دارا ابن دارا إلى ظهور الفرس عليهم. وأمَّا القبط فأرَّخت ببخت نصر إلى فلابطرة / صاحبة مصر.
          وأما اليهود فأرَّخت بخراب بيت المقدس.
          وأمَّا النصارى فبرفع المسيح ◙.
          وأما ابتداء تاريخ الإسلام ففيه اختلاف أيضاً: فروى الحافظ ابنُ عساكر في «تاريخ دمشق» عن أنس بن مالك ☺ أنَّه قال: كان التَّاريخ من مقدم رسول الله صلعم المدينة. وكذا قال الزُّهري: قدم رسولُ الله صلعم المدينة في ربيع الأوَّل، فأرَّخوا.
          وعن ابن عبَّاس ☻ : قدم النَّبي صلعم المدينة وليس لهم تاريخ، وكانوا يؤرِّخون بالشَّهر والشَّهرين من مقدمه، فأقاموا على ذلك إلى أن توفِّي النَّبي صلعم وانقطعَ التَّاريخ، ومضتْ أيام أبي بكر ☺ على هذا، وأربع سنين من خلافة عمر ☺ على هذا، ثمَّ وضع التاريخ.
          وأمَّا ما روى الحاكم في «الإكليل» من طريق ابنِ جُريج عن أبي سلمة عن ابن شهاب الزُّهري: أنَّ النَّبي صلعم لما قدم المدينة أمرَ بالتَّاريخ. فقد قيل: إنَّه مُعضل والمشهور خلافه، وأن ذلك كان في خلافة عمر ☺.
          وأفاد السُّهيلي أنَّ الصَّحابة ♥ أخذوا التاريخ بالهجرة من قوله تعالى: {لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ} [التوبة:108] ؛ لأنَّه من المعلوم أنَّه ليس أوَّل الأيام مطلقاً، فتعيَّن أنَّه أضيف إلى شيءٍ مضمر، وهو أوَّل الزمن الذي عزَّ فيه الإسلام، وعَبَد فيه النَّبيُّ صلعم ربَّه آمناً، وابتداء بناء المساجد فوافق رأي الصَّحابة ☺ ابتداء التاريخ من ذلك اليوم، وفهم من فعلهم أن قوله تعالى: {مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ} أنه أول أيَّام التاريخ الإسلامي، والله تعالى أعلم.
          ثم إنَّهم اختلفوا في سببه:
          فروى ابن السَّمرقندي أنَّ أبا موسى الأشعري ☺ كتب إلى عمر ☺: إنَّه يأتينا منك كتبٌ ليس لها تاريخ فأرِّخ ليستقيم الحال فأرَّخ. وقال أبو اليقظان: رفع إلى عمر ☺ صكٌّ محله في شعبان فقال: أيُّما شعبان هذا الذي نحن فيه أم الماضي أم الذي يأتي؟
          وقال الهيثم بنُ عدي: أوَّل من أرَّخ يَعلى بن أميَّة كتب إلى عمر ☺ من اليمن كتاباً مؤرَّخاً، / فاستحسنه، وشرع في التَّاريخ.
          وقال ابن عبَّاس ☻ لما عزم عمرُ ☺ على التَّاريخ جمع الصحابة ♥ ، فاستشارهم، فقال سعد بن أبي وقاص ☺: أرِّخ لوفاة رسول الله صلعم ، وقال طلحة: أرِّخ لمبعثه. وقال عليُّ بن أبي طالب: أرِّخ لهجرته فإنها فرَّقت بين الحق والباطل. وقال آخرون: لمولده، وقال قوم: لنبوته، وكان هذا في سنة سبع عشرة من الهجرة، وقيل: في سنة ست عشرة. واتَّفقوا على قول علي ☺.
          ثم اختلفوا في الشهر: فقال عبد الرحمن بن عوف ☺: أرخ لرجب فإنه أول الأشهر الحرام، وقال طلحة ☺: من رمضان؛ لأنَّه شهر الأمة. وقال علي ☺: من المحرم؛ لأنه أول السنة، فأمضى على ذلك.
          وسيأتي لهذا المبحث مزيد كلام إن شاء الله تعالى [خ¦3934].