نجاح القاري لصحيح البخاري

باب وفود الأنصار إلى النبي بمكة وبيعة العقبة

          ░43▒ (باب وُفُودُ الأَنْصَارِ) الوفود: جمع وافد، وهو من يَفِد من القوم إلى الملوك بالرِّسالة، وقد يجيء الوفود مصدر وفد، فالمعنى حينئذٍ: باب قدوم الأنصار (إِلَى النَّبِيِّ صلعم بِمَكَّةَ، وَبَيْعَةُ الْعَقَبَةِ) أي: التي تنسب إليها جمرة العقبة، وهي بمنى. ذكر ابن إسحاق وغيره أن النَّبي صلعم كان بعد موت أبي طالب قد خرج إلى ثقيفٍ بالطَّائف يدعوهم إلى نصره، فلمَّا امتنعوا منه، كما تقدَّم في «بدء الخلق» [خ¦3231] شرحه رجع إلى مكَّة، وكان يعرض نفسه على قبائل العرب في كلّ موسم من مواسم الحجِّ.
          وذكر بأسانيد متفرِّقة أنَّه أتى كندة وبني كلب وبني حنيفة وبني عامر بن صعصعة وغيرهم، فلم يجبْه أحد منهم إلى ما سأل.
          وقال موسى بن عقبة عن الزُّهري: وكان في تلك السنين _أي: النبي صلعم قبل الهجرة_ يعرضُ نفسه على القبائل، ويكلِّم كلَّ شريف قوم لا يسألهم إلَّا أن يؤوه ويمنعوه، ويقول: «لا أكره أحداً منكم على شيءٍ، بل أريدُ أن تمنعوا من يُؤذيني، حتى أُبلِّغ رسالة ربي»، ولا يقبله أحدٌ، بل يقولون: قومُ الرجل أعلم به.
          فبينما هو عند العقبة، إذ لقي رهطاً من الخزرج، فدعاهم إلى الله تعالى، فأجابوه، فجاء في العام المقبل اثنا عشر رجلاً إلى الموسم من الأنصار أحدهم عبادة بن الصَّامت ☺، فاجتمعوا برسول الله صلعم في العقبةِ، وبايعوه وهي بيعة العقبة الأولى، فخرجَ في العام الآخر سبعون إلى الحجِّ، فواعدهم رسولُ الله صلعم العقبة، فلمَّا اجتمعوا أخرجوا من كلِّ فرقة نقيباً فبايعوه ثمة ليلاً، وهي البيعة الثانية.
          وأخرج البيهقي، وأصله عند أحمد، وصحَّحه ابن حبَّان من حديث ربيعة بن عِبَاد _بكسر المهملة وتخفيف الموحدة_ قال: «رأيتُ رسولَ الله صلعم بسوق المجان يَتْبَعُ النَّاس في منازلهم يدعوهُم إلى الله ╡...» الحديث.
          وروى أحمدُ وأصحاب «السنن»، وصحَّحه الحاكم من حديث جابر ☺: كان رسول الله صلعم / يعرضُ نفسه على الناس بالموسم، فيقول: «هل من رجل يحملني إلى قومهِ، فإنَّ قريشاً قد مَنعوني أن أُبلِّغ كلامَ ربي»، فأتاه رجلٌ من هَمْدان فأجابه، ثمَّ خشي أن لا يتبعه قومه، فجاء إليه فقال: آتي قومي فأخبرهم، ثمَّ آتيك من العام المقبل، قال: «نعم»، قال: فانطلق الرجل. وجاء وفد الأنصار في رجبٍ.
          وقد أخرج الحاكم، وأبو نُعيم، والبيهقي في «الدلائل» لهم بإسناد حسنٍ عن ابن عبَّاس ☻ : حدَّثني عليُّ بن أبي طالب ☺ قال: لما أمر الله نبيَّه أن يعرضَ نفسه على قبائل العرب خرجَ وأنا معه وأبو بكر إلى منى، حتى دُفِعنا إلى مجلس من مجالس العرب، وتقدَّم أبو بكر وكان نسَّابة، فقال: مَنْ القوم؟ قالوا: مِنْ ربيعة، قال: مِنْ أيِّ ربيعة أنتم؟ قالوا: من ذهل، فذكروا حديثاً طويلاً في مراجعتهم أخيراً عن الإجابة.
          قال: ثمَّ دُفِعنا إلى مجالسِ الأوس والخزرج، وهم الذين سمَّاهم رسول الله صلعم الأنصار؛ لكونهم أجابوه إلى إيوائه ونصرهِ، قال: فما نهضنَا حتى بايعوا النَّبي صلعم . انتهى.
          وذكر ابن عبَّاس ☻ أنَّ أهل العقبة الأولى كانوا ستة نفر، وهم: أبو أُمامة أسعدُ بن زُرارة النَّجَّاري، ورافع بن مالك بن العجلان العَجْلاني، وقُطبة بن عامر بن حَديدة، وجابر بن عبد الله بن رثاب، وعقبة بن عامر بن نَابي، وهؤلاء من بني سلمة، وعوف بن الحارث بن رفاعة من بني مالك بن النَّجار.
          وقال موسى بن عقبة عن الزُّهري، وأبو الأسود عن عروة: هم: أسعد بن زُرارة، ورافع بن مالك، ومعاذ بن عفراء، ويزيد بن ثعلبة، وأبو الهيثم بن التِّيهان، وعويمر بن ساعدة. ويُقال: كان فيهم عبادة بن الصَّامت، وذكوان.
          قال ابنُ إسحاق: حدَّثني عاصم بن عمر بن قتادة عن أشياخ من قومه قال: لما رآهم النَّبي صلعم قال: «من أنتم؟» / قالوا: من الخزرج، قال: «أفلا تجلسون أكلِّمكم؟» قالوا: نعم، فدعاهم إلى الله، وعرض عليهم الإسلام، وتلا عليهم القرآن.
          وكان ممَّا صنعَ الله لهم أنَّ اليهود كانوا معهم في بلادهم، وكانوا أهلَ كتابٍ، وكان الأوس والخزرجُ أكثر منهم، فكانوا إذا كان بينهم شيءٌ قالوا: إنَّ نبياً سيبعث الآن قد أظلَّ زمانه نتبعه فنقتلكم معه، فلمَّا كلَّمهم النَّبي صلعم عرفوا النعت، فقال بعضهم لبعض: لا يسبقنا إليه يهود، فآمنوا وانصرفوا إلى بلادهم ليدعوا قومهم، فلما أخبروهم لم يبقَ دور من قومهم إلَّا وفيها ذِكْرُ رسولِ الله صلعم حتى إذا كان الموسم وافاهُ منهم اثنا عشر رجلاً، والله تعالى أعلم.