إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري

حديث: أن فاطمة أرسلت إلى أبي بكر تسأله ميراثها

          4240- 4241- وبه قال: (حَدَّثَنَا يَحْيَى ابْنُ بُكَيْرٍ) هو يحيى بنُ عبدِ الله بن بكيرٍ المخزوميُّ الحافظُ المصريُّ قال: (حَدَّثَنَا اللَّيْثُ) بنُ سعدٍ الإمام (عَنْ عُقَيْلٍ) هو ابنُ خالدٍ الأيليُّ (عَنِ ابْنِ شِهَابٍ) محمد بن مسلمٍ الزُّهريِّ (عَنْ عُرْوَةَ) بنِ الزُّبيرِ (عَنْ عَائِشَةَ) أمِّ المؤمنين ♦ : (أَنَّ فَاطِمَةَ) الزَّهراء ( ♀ بِنْتَ النَّبِيِّ صلعم أَرْسَلَتْ إِلَى أَبِي بَكْرٍ) الصِّدِّيق ☺ (تَسْأَلُهُ مِيرَاثَهَا مِنْ رَسُولِ اللهِ صلعم مِمَّا أَفَاءَ اللهُ عَلَيْهِ) أي: ممَّا أعطاهُ الله(1) من مالِ الكفَّار من غيرِ حربٍ ولا جهادٍ (بِالمَدِينَةِ) نحو أرضِ بني النَّضير حين أجلاهُم (وَفَدَكَ) ممَّا صالحَ أهلها على نصفِ أرضِها (وَمَا بَقِيَ مِنْ خُمُسِ خَيْبَرَ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ) ☺ : (إِنَّ رَسُولَ اللهِ صلعم قَالَ): إنَّا معاشرَ الأنبياءِ (لَا نُورَثُ، مَا تَرَكْنَا(2) صَدَقَةٌ) بالرَّفع خبر سابقه (إِنَّمَا يَأْكُلُ آلُ مُحَمَّدٍ) صلعم (فِي هَذَا المَالِ) ما يكفيهم(3) (وَإِنِّي وَاللهِ لَا أُغَيِّرُ شَيْئًا مِنْ صَدَقَةِ رَسُولِ اللهِ صلعم عَنْ حَالِهَا الَّتِي كَانَ) ولأبي ذرٍّ عن الكُشمِيهنيِّ ”كانت“ (عَلَيْهَا فِي عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صلعم ) سقط لفظ «وسلَّم» من «اليونينية» (وَلأَعْمَلَنَّ فِيهَا بِمَا عَمِلَ بِهِ(4) رَسُولُ اللهِ صلعم ، فَأَبَى) أي: امتنعَ (أَبُو بَكْرٍ أَنْ يَدْفَعَ إِلَى فَاطِمَةَ مِنْهَا شَيْئًا، فَوَجَدَتْ) بالجيم، أي: غَضِبَت (فَاطِمَةُ عَلَى أَبِي بَكْرٍ فِي ذَلِكَ) لِمَا فيها من مقتضَى البشريَّةِ، ثمَّ سكن بعدُ (فَهَجَرَتْهُ) هجران انقباضٍ عن لقائهِ لا الهجرانَ المحرَّم، ولعلَّها تمادَت في اشتغالِها بشؤونها ثمَّ بمرضها (فَلَمْ تُكَلِّمْهُ حَتَّى تُوُفِّيَتْ، وَعَاشَتْ بَعْدَ النَّبِيِّ صلعم سِتَّةَ أَشْهُرٍ)‼ على الصَّحيح المشهور. /
          (فَلَمَّا تُوُفِّيَتْ دَفَنَهَا زَوْجُهَا عَلِيٌّ) ☺ (لَيْلًا) بوصيَّةٍ منها كما عند ابن سعدٍ؛ إرادةً لزيادةِ التَّستُّر (وَلَمْ يُوْذِنْ) بغير همزة في «اليونينية»، وبه في «النَّاصرية» أي: ولم يُعلم (بِهَا أَبَا بَكْرٍ) لأنَّه ظنَّ أنَّ ذلك لا يخفى عنه، وليس فيه ما يدلُّ على(5) أنَّه لم يَعلم بموتِها ولا صلَّى عليها (وَصَلَّى عَلَيْهَا) أي: عليٌّ، وعند ابنِ سعد(6): أنَّ العبَّاسَ صلَّى عليها (وَكَانَ لِعَلِيٍّ مِنَ النَّاسِ وَجْهٌ) أي: يحترمونَه (حَيَاةَ فَاطِمَةَ) إكرامًا لها (فَلَمَّا تُوُفِّيَتِ اسْتَنْكَرَ عَلِيٌّ وُجُوهَ النَّاسِ) لأنَّهم قصروا(7) عن ذلك الاحترامِ؛ لاستمرارهِ على عدمِ مبايعةِ أبي بكرٍ، وكانوا يعذُرُونَه أيَّام حياتِها عن تأخُّره عن ذلك باشتغالهِ بها وتسليةِ خاطرها (فَالتَمَسَ) عليٌّ (مُصَالَحَةَ أَبِي بَكْرٍ وَمُبَايَعَتَهُ، وَلَمْ يَكُنْ يُبَايِعُ) أبا بكرٍ (تِلْكَ الأَشْهُرَ) السِّتَّة، إمَّا لاشتغاله بفاطمةَ كما مرَّ، أو اكتفاءً بمن بايعه؛ إذ لا يشترطُ استيعابُ كلِّ أحدٍ، بل يكفي الطَّاعة والانقياد (فَأَرْسَلَ) عليٌّ (إِلَى أَبِي بَكْرٍ) الصِّدِّيق(8) ☺ (أَنِ ائْتِنَا وَلَا يَأْتِنَا أَحَدٌ مَعَكَ؛ كَرَاهِيَةً) منه (لِمَحْضَرِ عُمَرَ) مصدرٌ ميميٌّ، بمعنى: الحضور، ولأبي ذرٍّ ”ليَحْضر عمر“ وذلك لِمَا عرَفوه من قوَّة عمر وصلابتهِ في القول والفعل، فربَّما تَصْدُر منه معاتبةٌ تُفضي إلى خلافِ ما قصدوه من المصافاةِ (فَقَالَ عُمَرُ) لمَّا بلغه ذلك لأبي بكرٍ (لَا وَاللهِ، لَا تَدْخُلُ عَلَيْهِمْ وَحْدَكَ) فربَّما تركُوا من تعظيمك ما يجبُ لك (فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ) ☺ : (وَمَا عَسَـِيْتَهُمْ) بكسر السين وفتحها (أَنْ يَفْعَلُوا) ولأبي ذرٍّ ”أن يفعلوه“ (بِي) أي: عليٌّ ومن معه.
          قال ابنُ مالكٍ: فيه شاهدٌ على صحَّة تضمينِ بعض الأفعال معنى فعلٍ آخر، وإجرائهِ مجراهُ في التَّعديةِ، فإنَّ «عسى» في هذا الكلامِ قد ضُمِّنت(9) معنى: حَسِب، وأُجرِيَت مجراها فنصبت ضمير الغائبين على أنَّه مفعول أول، ونصبت «أن يفعلوا» تقديرًا على أنَّه مفعول ثان، وكان حقه أن يكون عاريًا من «أن» كما لو كان بعد «حسب» ولكن جيءَ بـ «أن» لئلَّا تخرج «عسى» بالكليَّة عن مقتضاها، ولأنَّ «أنْ» قد تسدُّ بصلتها مسدَّ مفعولي(10) «حسب» فلا يستبعدُ مجيئها بعد المفعول الأوَّل بدلًا منه وسادَّة مسدَّ ثاني مفعوليها. قال: ويجوز جعل تاء «عسيتهم»(11) حرف خطاب، والهاء والميم اسم «عسى»، والتَّقدير: ما عساهم أن يفعلوا بي؛ وهو وجهٌ حسنٌ.
          (وَاللهِ لآتِيَنَّهُمْ، فَدَخَلَ عَلَيْهِمْ أَبُو بَكْرٍ، فَتَشَهَّدَ عَلِيٌّ فَقَالَ: إِنَّا قَدْ عَرَفْنَا فَضْلَكَ وَمَا أَعْطَاكَ اللهُ، وَلَمْ نَنْفَسْ عَلَيْكَ خَيْرًا سَاقَهُ اللهُ إِلَيْكَ) بفتح فاء «ننفَس» أي: لم نحسُدْك على الخلافةِ (وَلَكِنَّكَ اسْتَبْدَدْتَ) بدالين إحداهُما مفتوحة والأخرى ساكنة(12) (عَلَيْنَا بِالأَمْرِ) أي: لم تشاورنا في أمرِ الخلافةِ (وَكُنَّا نَرَى) بفتح النون في الفَرْع كأصله(13) وبالضم (لِقَرَابَتِنَا مِنْ رَسُولِ اللهِ صلعم نَصِيبًا) من المشاورةِ، ولم يزل‼ عليٌّ ☺ يذكر له ذلك (حَتَّى فَاضَتْ عَيْنَا أَبِي بَكْرٍ) من الرِّقَّة(14) (فَلَمَّا تَكَلَّمَ أَبُو بَكْرٍ قَالَ(15): وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَقَرَابَةُ رَسُولِ اللهِ صلعم أَحَبُّ إِلَيَّ أَنْ أَصِلَ مِنْ قَرَابَتِي، وَأَمَّا الَّذِي شَجَرَ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ) أي: وقع فيه التَّنازع(16) والاختلافُ (مِنْ هَذِهِ الأَمْوَالِ) التي تركها النَّبيُّ صلعم من فَدَك وغيرها (فَلَمْ) ولأبوي ذرٍّ والوقت ”فإنِّي لم“ (آلُ) بمدِّ الهمزةِ وضم اللام، لم أقصر (فِيهَا) في الأموالِ (عَنِ الخَيْرِ، وَلَمْ أَتْرُكْ أَمْرًا رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلعم يَصْنَعُهُ فِيهَا إِلَّا صَنَعْتُهُ. فَقَالَ عَلِيٌّ لأَبِي بَكْرٍ: مَوْعِدُكَ العَشِيَّةَُ) بالفتح على الظَّرفية، أو الرفع خبر المبتدأ، أي: بعد الزَّوال (لِلْبَيْعَةِ، فَلَمَّا صَلَّى أَبُو بَكْرٍ الظُّهْرَ رَقِيَ) بكسر القاف، أي: علا (المِنْبَرِ، فَتَشَهَّدَ وَذَكَرَ شَأْنَ عَلِيٍّ وَتَخَلُّفَهُ عَنِ البَيْعَةِ وَعَذَرَهُ) بفتحات، بصيغة الماضي، بوزن نَهَرهُ(17)، أي: قَبِلَ عُذرَه، ولغير أبي(18) ذرٍّ ”عُذْره“ بضم العين وسكون المعجمة (بِالَّذِي اعْتَذَرَ إِلَيْهِ، ثُمَّ اسْتَغْفَرَ، وَتَشَهَّدَ عَلِيٌّ) ☺ (فَعَظَّمَ) ولأبي ذرٍّ عن الكُشمِيهنيِّ ”وعظَّم“ (حَقَّ أَبِي بَكْرٍ) زاد مسلمٌ: «وذكر فضلَه وسابقتَه في الإسلامِ(19)، ثمَّ مضى إلى أبي بكرٍ فبايعه» (وَحَدَّثَ أَنَّهُ لَمْ يَحْمِلْهُ عَلَى الَّذِي صَنَعَ) من التَّأخُّرِ (نَفَاسَةً عَلَى أَبِي بَكْرٍ) أي: حسدًا (وَلَا إِنْكَارًا لِلَّذِي فَضَّلَهُ اللهُ بِهِ وَلَكِنَّا كنَّا نَرَى) بفتح النون فقط في «اليونينية»، وفي غيرها: بضمها (لَنَا(20) فِي هَذَا الأَمْرِ) أي: الخلافةِ(21) / (نَصِيبًا، فَاسْتَبَدَّ) ولأبي ذرٍّ ”واستبدَّ“ (عَلَيْنَا فَوَجَدْنَا فِي أَنْفُسِنَا، فَسُرَّ بِذَلِكَ المُسْلِمُونَ وَقَالُوا: أَصَبْتَ. وَكَانَ المُسْلِمُونَ إِلَى عَلِيٍّ قَرِيبًا) أي: كان ودُّهم له قريبًا (حِينَ رَاجَعَ الأَمْرَ المَعْرُوفَ(22)) وهو الدُّخول فيما دخل النَّاس فيه من المبايعة.
          وقد صحَّح ابن حبَّان وغيره من حديث أبي سعيدٍ الخدريِّ ☺ : أنَّ عليًّا بايع أبا بكر في أوَّل الأمر، وأمَّا ما في مسلمٍ عن الزُّهريِّ: أنَّ رجلًا قال له: لم يُبايع عليٌّ أبا بكرٍ حتَّى ماتت فاطمة ♦ . قال: ولا أحدٌ من بني هاشم. فقد ضعَّفه البيهقيُّ بأنَّ الزُّهريَّ لم يُسندْه، وأنَّ الرِّواية الموصولة عن أبي سعيدٍ أصحُّ، وجمع غيره بأنَّه بايعه بيعةً ثانيةً مؤكِّدة للأولى؛ لإزالة ما كان وقع بسبب الميراثِ، وحينئذٍ فيُحمل قول الزُّهريِّ: «لم يبايعه عليٌّ في(23) تلك الأيام» على إرادة الملازمةِ له والحضور عنده، فإنَّ ذلك يوهم من لا يعرفُ باطن الأمر أنَّه بسبب عدم الرِّضا بخلافته، فأطلق من أطلقَ ذلك، وبسبب ذلك(24) أظهرَ عليٌّ المبايعة بعد موت فاطمةَ؛ لإزالةِ هذه الشُّبهة، قاله في «الفتح».


[1] «الله»: ليست في (د).
[2] في (د): «تركناه».
[3] قوله: «ما يكفيهم»: ليست في (ص) و(م) و(د).
[4] «به»: ليست في (د).
[5] «على»: ليست في (ص).
[6] في (د): «ابن إسحاق» بدل: «ابن سعد».
[7] في (ب) و(د): «تغيروا».
[8] «الصديق»: ليست في (ص).
[9] في (ب) و(س) و(د): «تضمنت».
[10] في (د): «مفعول».
[11] في (س): «عسيتم».
[12] في (م) و(د): «مفتوحة فساكنة».
[13] «كأصله»: ليست في (د).
[14] في (د): «الرأفة».
[15] في (ص) و(ل): «فقال».
[16] في (م): «بالتنازع»، وفي (ص): «النزاع».
[17] «بوزن نهره»: ليست في (د).
[18] في (د): «ولأبي».
[19] في (ص): «وذكر فضله ومسابقته»، قوله: «في الإسلام»: ليست في (د).
[20] في (د): «أن لنا».
[21] في (س): «أمر الخلافة».
[22] في (ب) و(س): «بالمعروف».
[23] قوله: «علي في»: ليست في (د).
[24] قوله: «وبسبب ذلك»: ليست في (ص).