إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري

باب قول الله تعالى: {إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم}

          ░4▒ (بابُ قَوْلِ اللهِ) ولأبي ذرٍّ ”قوله“ (تَعَالَى: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ}) أي: اذكرُوا إذ تستغيثون ربَّكم، أو بدل من: {وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللّهُ}[الأنفال:7] أي: إذ(1) تسألون ربَّكم وتدعونَهُ يومَ بدرٍ بالنُّصرة على عدوِّكم ({فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي}) أي: بأنِّي ({مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُرْدِفِينَ}) مُتَتابعين بعضُهم في إِثْر بعضٍ(2) ({وَمَا جَعَلَهُ اللّهُ}) أي: الإمدادَ بالألفِ ({إِلاَّ بُشْرَى}) إلَّا بشارةً لكم بالنَّصر ({وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ}) أي: لتسكنَ إليه قلوبُكُم، فيزولُ ما بها من الوجلِ(3) لقلَّتكم وذِلَّتكم(4) ({وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللّهِ}) فليس بكثرة العَدد والعُدد‼ ({إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ}) يُعِزُّ من يشاءُ بنصرهِ ({حَكِيمٌ}) فيما شرعَهُ من قتالِ الكفَّار مع القدرةِ على هَلاكهم ودمارِهِم بحولهِ وقوَّته ({إِذْ يُغَشِّيكُمُ}) أي: اذْكروا إذ، أو بدلٌ ثانٍ لإظهار نعمةٍ ثالثةٍ من {وَإِذْ يَعِدُكُمُ} أي: يُغطِّيكم ({النُّعَاسَ أَمَنَةً}) نُصب مفعولًا له ({مِّنْهُ}) يعني: أمنًا من عند الله ╡، قال ابنُ مسعودٍ ╩ : والنُّعاس في القتالِ أَمَنةٌ من الله تعالى، وفي الصَّلاة من الشَّيطان لعنهُ الله تعالى. وقال قتادةُ: النُّعاس في الرَّأس والنَّوم في القلبِ. وقال ابنُ كثير: أما النُّعاس فقد أصابَهم يومَ أحدٍ، وأما يوم بدرٍ فتدلُّ له هذه الآية أيضًا ({وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِّن السَّمَاء مَاء لِّيُطَهِّرَكُم بِهِ}) من الحدثِ والجنابةِ، وهو طهارةُ الظَّاهر ({وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَان}) وسوستَهُ وكيدَهُ، وهو تطهيرُ الباطنِ ({وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ}(5)) بالصَّبر والإقدامِ على مُجَالدة(6) العدوِّ ووسوسته(7)، وهو شجاعةُ الباطن ({وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَامَ}) أي: بالمطرِ حتى لا تَسْوخ في الرَّمل، وهو شجاعةُ الظَّاهر، أو بالرَّبط على القلوبِ حتى تثبتَ في المعركةِ.
          وعن ابنِ عباس ╠ قال: نزلَ رسولُ الله صلعم _يعني: حين سارَ إلى بدرٍ_ والمشركون(8) بينهم وبين الماء رملةٌ دِعْصَةٌ، فأصابَ المسلمين ضعفٌ شديدٌ، وألقى الشَّيطان في قلوبهم الغيظَ يوسوسُ بينهم: تزعمون أنَّكم أولياءُ اللهِ وفيكم رسولُه، وقد غلبكُم المشركون على الماءِ، وأنتم تصلُّون مُجْنبين، فأمطرَ الله ╡ / عليهم مطرًا شديدًا، فشربَ المسلمونَ وتَطَّهروا، وأذهبَ الله ╡ عنهم رجزَ الشَّيطان، وانْشَفَّ الرملُ حين أصابهُ المطرُ، ومشى النَّاسُ عليه والدَّوابُّ، فساروا إلى القومِ، وأمدَّ الله ╡ نبيَّه صلعم والمؤمنين بألفٍ من الملائكةِ، فكان(9) جبريلُ ◙ في خمس مئة مُجنِّبة، وميكائيل في خمس مئة مُجنِّبة.
          {إِذْ يُوحِي رَبُّكَ}) متعلِّق بقوله: {وَيُثَبِّتَ} أو: بدلٌ ثالثٌ من قوله: {وَإِذْ} ({إِلَى الْمَلآئِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ}) مفعول {يُوحِي} أي: إنِّي ناصرُكم ومعينُكم ({فَثَبِّتُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ}) بشِّروهم بالنَّصر، فكان المَلَكَ يمشي أمامَ الصَّفِّ ويقولُ: أبشِرُوا فإنَّكم كثيرٌ وعدوّكم قليلٌ، والله تعالى ناصرُكم ({سَأُلْقِي}) سأقذف ({فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرَّعْبَ}) يعني: الخوفَ من رسولِ الله صلعم والمؤمنين، ثمَّ علَّمهم كيف يَضربون ويَقتلون فقال: ({فَاضْرِبُواْ فَوْقَ الأَعْنَاقِ}) أي: على الأعناقِ التي هي المذَابحُ، أو الرُّؤوس ({وَاضْرِبُواْ مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ}) أي: أصابع، أي: جزُّوا رقابهم، واقطعُوا أطرافَهم ({ذَلِكَ}) يعني: الضَّرب والقتلَ ({بِأَنَّهُمْ شَآقُّواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ}) أي: بسبب مُشَاقَقَتِهم، أي: مخالفتهم لهما إذ كانوا في شِقٍّ، وتركُوا الشَّرع والإيمانَ به واتِّباعَهُ في شقٍّ ({وَمَن يُشَاقِقِ اللّهَ وَرَسُولَهُ}) أي: يخالفهما ({فَإِنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ}[الأنفال:9-13]) كذا ساقَ الآيات كلَّها في رواية كريمةَ، ولأبي ذرٍّ وابنِ عساكرٍ ”{إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ}‼ إلى قوله: {الْعِقَابِ}“ وللأَصيليِّ ”إلى قوله: {فَإِنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ}“ وسقطَ لهم ما بعد ذلك.


[1] «إذ»: ليست في (ص).
[2] في (ص) و(م): «إثرهم في إثر بعض».
[3] في (م): «فيزول بها الوجل».
[4] قوله: «فيزول ما بها من الوجل لقلَّتكم وذلتكم»: ليس في (ص).
[5] قوله: «{وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ}»: ليس في (ص).
[6] في (ص): «مجادلة».
[7] «ووسوسته»: ليس في (س) و(ص).
[8] كذا، وفي الطبراني وابن كثير: «المسلمون».
[9] في (د): «وكان».