إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري

باب غزوة أحد

          ░17▒ (بابُ غَزْوَةِ أُحُدٍ) بضم أوله وثانيه معًا، وكانت عندهُ الوقعةُ العظيمةُ في شوَّال سنةَ ثلاثٍ، وسقط لأبي ذرٍّ لفظ «باب» فالتَّالي مرفوعٌ (وَقَوْلِ اللهِ تَعَالَى) جرٌّ أو رفعٌ: ({وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ}) واذكُرْ _يا محمَّد_ إذ خرجتَ غدوةً من أهلكَ بالمدينةِ، والمرادُ: غدوَّه من حُجْرةِ عائشةَ ♦ إلى أُحُد ({تُبَوِّىءُ الْمُؤْمِنِينَ}) تُنزلهم، وهو حال ({مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ}) مواطِنَ ومواقفَ من الميمنةِ والميسرةِ والقلبِ والجناحَينِ، {لِلْقِتَالِ} يتعلَّقُ {تُبَوِّىءُ} ({وَاللّهُ سَمِيعٌ}) لأقوالكُم ({عَلِيمٌ}[آل عمران:121])‼ بنيَّاتِكم وضمائِرِكم.
          (وَقَوْلُـِهُِ جَلَّ ذِكْرُهُ: {وَلاَ تَهِنُوا}) ولا تضعفُوا عنِ الجهادِ لِمَا أصابَكُم من الهزيمةِ ({وَلاَ تَحْزَنُوا}) على ما فاتَكُم منَ الغنيمةِ، أو على مَن قُتِل منكم أو جُرِح، وهو تسليةٌ من الله تعالى لرسولهِ وللمؤمنينَ عمَّا أصابَهُم يومَ أُحُد وتقوية لقلوبِهم ({وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ}) وحالكم أنَّكم أعلى منهم وأغلَب؛ لأنَّكم أصبتُم منهم يومَ بدرٍ أكثرَ ممَّا أصابُوا منكم يوم أُحُد، وأنتُم الأعلونَ بالنَّصر والظَّفرِ في العاقبةِ، وهي بشارةٌ بالعلوِّ والغلبةِ، وأنَّ جندَنَا لهم الغالبونَ ({إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ}) جوابه محذوف، فقيل: تقديره: فلَا تهِنوا ولا تحزَنوا، وقيل: تقديرُه: إن كنتُم مؤمنين عَلمتُم أنَّ هذهِ الوقعةَ لا تَبقى على حالِها، وأنَّ الدولةَ تصيرُ للمؤمنين ({إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ}) بفتح القاف، والأخوان وأبو بكر بضمها، بمعنًى، فقيلَ: الجُرح نفسُه، وقيل: المصدرُ، أو المفتوح: الجرحُ، والمضموم: ألمهُ ({فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ}) للنَّحويِّين في مثلِ هذا تأويلٌ، وهو أن يقدِّروا شيئًا مستقبلًا؛ لأنَّه لا يكونُ التَّعليقُ إلا في المستقبلِ، وقولُه: {فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ} ماضٍ محقَّق، وذلك التَّأويل هو التَّبيينُ، أي: فقد تبيَّن مسُّ القرحِ للقومِ، وهذا خطابٌ للمسلمينَ حين انصرفُوا من أُحُد مع الكآبةِ، يقولُ: إن يمسسكُم ما نالُوا مِنكم يومَ أُحدٍ فقَد نلتُم منهم قبلَه يوم بدرٍ، ثمَّ لم يُضعِف ذلك قلوبَهم ولم يمنعهُم عن مُعاوَدَتِكُم إلى القتالِ، فأنتُم أولى أن لا تَضعفوا ({وَتِلْكَ}) مبتدأ ({الأيَّامُ}) صفة، والخبر: ({نُدَاوِلُهَا}) نصرِّفُها، أو {الأيَّامُ} خبر لـ {تِلْكَ}، و{نُدَاوِلُهَا} جملة حالية، العاملُ فيها معنى اسمِ الإشارةِ، أي: أُشير إليها حالَ كونِها مداولةً ({بَيْنَ النَّاسِ}) أي: أنَّ مسارَّ الأيامِ لا تدومُ وكذلكَ مضارّها، فيوم يكونُ السُّرور لإنسانٍ والغمُّ لعدوِّه، ويوم آخر بالعكسِ، وليس المرادُ من هذهِ المداولةِ أنَّ الله سبحانه وتعالى تارةً ينصرُ المؤمنينَ، وأخرى ينصرُ الكافرين؛ لأنَّ نصرَ الله تعالى منصبٌ شريفٌ لا يليقُ بالكافرين، بل المرادُ: أنَّه تارةً يشدِّد المحنةَ على الكافرِ(1)، وتارةً على المؤمنِ(2)، فعلى المؤمنِ أدَبًا له في الدُّنيا، وعلى الكافرِ غضبًا عليه ({وَلِيَعْلَمَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ}) أي: يداوِلها(3) لضروبٍ من التَّدبيرِ، وليعلمَ اللهُ المؤمنين مميَّزين بالصَّبرِ والإيمانِ من غيرهِم، كما عَلِمَهُم قبلَ الوجودِ ({وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء}) وليُكرِمَ ناسًا منكم بالشَّهادةِ؛ يريدُ: المستشهدين يومَ أُحدٍ، وسمُّوا بهِ؛ لأنَّهم أحياء وحضرتْ أرواحُهم / دارَ السَّلامِ وأرواحُ غيرِهم لا تشهدها، أو لأنَّ اللهَ وملائكتهُ شهدُوا لهُم بالجنَّة ({وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ}) اعتراضٌ بين بعض التعليل وبعض، معناهُ: واللهُ لا يحبُّ مَن ليس‼ من هؤلاءِ الثَّابتين على الإيمانِ المجاهدينَ في سبيلهِ، وهم المنافقونَ والكافرونَ ({وَلِيُمَحِّصَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ}) التَّمحيصُ: التَّخليصُ(4) من الشَّيءِ المعيبِ، وقيل: هو الابتلاءُ والاختبارُ. قال:
رأيتُ فُضَيلًا كانَ شيئًا مُلَفَّفًا                     فكشَفَهُ التَّمْحِيصُ حتَّى بدَا لِيَا
          ({وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ}) ويُهلِك الكافرين الَّذين حاربوهُ ╕ يوم أُحدٍ؛ لأنَّه تعالى لم يَمحق كلَّ الكفَّار بل بقيَ منهم كثيرٌ على كفرِهِم، والمعنى: إِن كانتِ الدَّولةُ على المؤمنين(5) فللتَّمييز والاستشهادِ والتَّمحيص، وإن كانَت على الكافرين فلمَحقِهِم ومحوِ آثارِهِم ({أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ}) «أم»: منقطعة والهمزة فيها للإنكار، أي: لا تحسَبُوا ({وَلَمَّا يَعْلَمِ اللّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ}) أي: ولمَّا تُجاهدوا؛ لأنَّ العلمَ متعلِّقٌ بالمعلومِ، فنزلَ نفيُ العلم منزلةَ نفي متعلَّقه؛ لأنَّه منتفٍ بانتفائِهِ، تقول: ما علمَ اللهُ في فلانٍ خيرًا، أي: ما فيه خيرٌ حتَّى يعلمَهُ، و{لَمَّا} بمعنى: لَمْ، إلَّا أنَّ فيه ضربًا منَ التَّوقُّعِ، فدلَّ على نفي الجهادِ فيما مضى، وعلى توقُّعه فيما يستقبلُ. كذا قررَّه الزَّمخشريُّ، وتعقَّبهُ أبو حيَّان فقال: هذا الَّذي قالهُ في {لَمَّا} _أنَّها تدلُّ على توقُّع الفعلِ المنفيِّ بها فيما يستقبلُ_ لا أعلمُ أحدًا من النَّحويِّين ذكرهُ، بل ذكرُوا أنَّك إذا قلت: لمَّا يخرُج زيدٌ، دلَّ ذلك على انتفاءِ الخروجِ فيما مَضى، مُتَّصلًا نفيهُ إلى وقتِ الإخبارِ، أمَّا أنَّها تدلُّ على توقُّعِه في المستقبلِ فلا. انتهى.
          قال في «الدُّرِّ»: النُّحاة إنَّما فرَّقُوا بينهما من جهةِ أنَّ المنفيَّ بـ «لم»: هو فعلٌ غير مقرونٍ بـ «قد»، و«لمَّا»: نفيٌ له مقرُونًا بها، و«قد» تدلُّ على التَّوقُّع، فيكون كلامُ الزَّمخشريِّ صحيحًا من هذهِ الجهة.
          ({وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ}) نصب بإضمارِ أن، والواوُ: بمعنى الجمعِ، نحو: لا تأكلِ السَّمكَ وتشربَ اللَّبنَ، مع(6) أنَّ دخولَ الجنَّةِ وتركَ المُصابرةِ على الجهادِ ممَّا لا يجتمِعان.
          ({وَلَقَدْ كُنتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِن قَبْلِ أَن تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ}[آل عمران:139-143]) سقطَ لأبي ذرٍّ وابن عساكرٍ من قوله «{وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ}...» إلى آخره، وقالا: ”إلى قولِه: {وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ}“.
          (وَقَوْلِهِ) تعالى: ({وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللّهُ وَعْدَهُ}) حقَّقَ ({إِذْ تَحُسُّونَهُم}) أي: تستأصِلُونهم قتلًا ({بِإِذْنِهِ}) بأمرِهِ وعلمِهِ ({حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ}) ضعُفْتم وجَبُنتم ({وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ}) أي: اختلفْتُم حينَ انهزمَ المشركونَ، فقال بعضُهم: انهزمَ القومُ فما مقامُنا؟! فأقبلتُم على الغنيمةِ، وقال آخرون: لا تجاوزوا(7) أمرَ رسولِ الله صلعم .
          ({وَعَصَيْتُم}) أمرَ نبيِّكم صلعم بتركِكُم المركزَ واشتغالكُم بالغنيمةِ ({مِّن بَعْدِ مَا أَرَاكُم مَّا تُحِبُّونَ}) من الظَّفر وقهرِ الكُفَّار ({مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا}) الغنيمةَ، وهم الَّذين تركُوا المركزَ لطلبِ الغنيمةِ ({وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخِرَةَ})‼ وهم الَّذين ثبتُوا معَ عبدِ اللهِ بن جُبير حتَّى قُتلوا ({ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ}) أي: كفَّ معونَتَهُ عنكُم فغلبوكُم ({لِيَبْتَلِيَكُمْ}) ليمتحنَ صبركُم على المصائبِ وثباتَكُم(8) عندَها ({وَلَقَدْ عَفَا عَنكُمْ}) حيثُ ندمتُمْ على ما فرطَ منكُم من عصيانِ أمره صلعم ({وَاللّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ}[آل عمران:152]) بالعفوِ عنهم وقبولِ توبَتِهم، وسقطَ لابنِ عساكرٍ من قولهِ «{بِإِذْنِهِ}... إلى آخره»(9)، وقال في رواية أبي ذرٍّ: ”قَتْلًا: {بِإِذْنِهِ} إلى قوله: {وَاللّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ}“.
          (وَقَوْلِهِ) تعالى: ({وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتًا} الاية[آل عمران:169]) {الَّذِينَ}: مفعول أوَّل، و{أَمْوَاتًا}: مفعول ثانٍ، والفاعلُ: إمَّا ضمير كلِّ مخاطَبٍ، أو ضمير الرَّسول صلعم ، وسقطَ قوله «الآية» لأبي ذرٍّ وابنِ عساكرٍ.


[1] في (م) و(د): «الكافرين».
[2] في (م): «المؤمنين».
[3] في (س) و(د): «نداولها».
[4] في (د) و(م): «التخلص».
[5] في (م): «للمؤمنين».
[6] في (ص): «يعني».
[7] في (ص): «لم نتجاوز»، وفي (ب) و(س): «ما نتجاوز».
[8] في (س) وهامش (ل) زيادة: على الإيمان، و«ثباتكم»: ليست في (ص).
[9] في (ص) زيادة: «إلى {عَفَا عَنكُمْ}» بدل: «إلى آخره».