إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري

باب قصة غزوة بدر

          ░3▒ (بابُ قِصَّةِ غَزْوَةِ بَدْرٍ) وللأَصيليِّ وابنِ عساكرٍ وأبي ذرٍّ ”قصَّة بدر“ وسقط لفظ «باب» لأبي ذرٍّ، فـ «قِصَّةُ» رُفع. وقال في «الفتح»: ثبت ”باب“ في رواية كريمةَ. وقال العينيُّ: ما ثبتَ إلَّا في روايةِ كريمةَ. و«بدرٌ»: قريةٌ مشهورةٌ نُسبت إلى بدرِ بنِ مَخلد بن النَّضر بن كِنَانة، كان نزلها، أو بدر اسمُ بئرِ ماءٍ(1) سمِّيت بذلك لاستدارتها، أو لصفاءِ مائها، فكان البَدْر يُرى فيها.
          (وَقَوْلِ اللهِ تَعَالَى): بالجرِّ عطفًا على المضاف، وبالرَّفع عطفًا على(2) المرفوعِ في روايةِ من أسقط لفظ «باب» ({وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ}) حال من الضمير، وإنَّما قال: {أَذِلَّةٌ} ولم يقل: ذَلائل؛ ليدلَّ على قلَّتهم مع ذلَّتهم لضعفِ الحالِ وقلَّة المراكب والسِّلاح؛ لأنَّهم لم يأخذوا أُهْبة الاستعدادِ للقتالِ كما ينبغي، إنَّما خرجوا لتلقِّي أبي سفيان؛ لأخذ ما معه من أموالِ قريشٍ، بخلاف المشركين ({فَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}) أي: فاتَّقوا الله في الثَّبات معه ولا تضعفوا، فإنَّ نعمتَه وهي نعمةُ الإسلامِ لا يقابَلُ شكرها إلَّا ببذلِ المُهَج، وبفداءِ الأنفُسِ، والنُّصرة له، والشَّهادة في سبيله، فاثبتوا معه لعلَّكم تُدْركون(3) شكرَ هذه النِّعمة، أو فاتَّقوا الله في الثَّبات معه والنُّصرة له؛ لتحصل لكم نعمة الظَّفر فتشكرونها، فوضعَ الشُّكر موضعَ(4) النِّعمة إيذانًا بكونها حاصلة قاله الطِّيبي ({إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ}) متعلِّق بقوله: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ بِبَدْرٍ} أو بقوله: {وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ} فيكون المراد: غزوة أحدٍ، وعملُ المصنِّف يدلُّ على اختيارِه الأوَّل، وهو قولُ الأكثر، وروى ابنُ أبي حَاتم بسندٍ صحيحٍ إلى الشَّعبي: أنَّ المسلمين بلغَهم يومَ بدرٍ أنَّ كُرْزَ بن جابرٍ يمدُّ المشركين فشقَّ عليهم‼، فأنزلَ الله تعالى: {أَلَن يَكْفِيكُمْ} قال الكَوَاشِيُّ: أدخلَ همزةَ الاستفهام على النَّفي توبيخًا لهم على اعتقادِهم أنَّهم لا يُنْصرون بهذا العدد، فنقلته _أي: الهمزة(5)_ إلى إثبات الفعلِ على ما كان عليه مستقبلًا، فقال: ({أَلَن يَكْفِيكُمْ أَن يُمِدَّكُمْ رَبُّكُم بِثَلاَثَةِ آلاَفٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُنزَلِينَ}) من السَّماء ({بَلَى}) إيجابٌ لِمَا بعدَ {لَن} أي: بلى يكفيَكم، ثمَّ وعدَهم الزِّيادة على الصَّبر والتَّقوى فقال: ({إِن (6) تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ}) أي: عليكم بالصَّبر مع نبيِّكم والتَّقوى، واذْكُروا(7) ما جرى عليكم يومَ أحدٍ حين عدِمْتم الصَّبر والتَّقوى، وما مُنْحتم يومَ بدرٍ حين صَبرتم واتَّقيتُم اللهَ من الظَّفَر والنَّصر ({وَيَأْتُوكُم}) أي: المشركون ({مِّن فَوْرِهِمْ هَـذَا}) من ساعتِهم هذه ({يُمِدَّكُمْ رَبُّكُم بِثَلاَثَةِ آلاَفٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ}) في حال إتيانهم من غيرِ تأخيرٍ ({مُسَوِّمِينَ}) أي: مُعَلَّمين بالصُّوف الأبيضِ، أو بالعِهن الأحمرِ، أو بالعمائمِ، وعند ابنِ مَرْدَويه مرفوعًا: «كانت سِيْمَاء الملائكةِ يوم بدرٍ عمائمَ سودٍ، ويومَ أحدٍ عمائمَ حُمْرٍ»، وعند ابنِ أبي حاتم: «أنَّ الزُّبير كانت عليه يوم بدرٍ عمامة صفراء مُعْتجرًا بها، فنزلت الملائكةُ عليهم عمائمُ صُفْر».
          ({وَمَا جَعَلَهُ اللّهُ}) أي: وما جعل(8) إمدادكُم ({إِلاَّ بُشْرَى لَكُمْ}) بالنَّصر ({وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُم بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللّهِ}) لا بكثرةِ العَدَد والعُدَد(9) فلا حاجة في النَّصر إلى المددِ، وإنما أمدَّهم ووعدَهم به بشارةً لهم.
          ({الْعَزِيزِ}) الذي لا يُغَالب ({الْحَكِيمِ}) الذي تجري أفعالُه على ما يريدُ، وهو أعلمُ بمصالحِ العبيدِ ({لِيَقْطَعَ}) أي: أرسلَ الملائكةَ؛ لكي تستأصلَ ({طَرَفًا}) جماعةً ({مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ}) بالقتلِ والأسر ({أَوْ يَكْبِتَهُمْ}) أي: يَهْزمهم، أو يَصْرعهم ({فَيَنقَلِبُواْ خَآئِبِينَ}[آل عمران:123-127]) أي: لم يحصلوا على ما أمَّلوا. ووقع في رواية الأَصيليِّ بعد: ”{وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ} إلى قوله: {فَيَنقَلِبُواْ خَآئِبِينَ}“ ولأبي ذرٍّ وابنِ عساكرٍ بعد قوله تعالى: ”{لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} إلى قوله: {فَيَنقَلِبُواْ خَآئِبِينَ}“.
          (وَقَالَ وَحْشِيٌّ) بفتح الواو وسكون الحاء وكسر الشين المعجمة وتشديد التَّحتية، ابنُ حربٍ الحَبَشيُّ، ممَّا(10) وصلهُ المؤلِّف في غزوة أحدٍ في «باب قتل حمزة» [خ¦4072] (قَتَلَ حَمْزَةُ) بنُ عبد المطَّلب (طُعَيْمَةَ بْنَ عَدِيِّ) بضم الطاء وفتح العين المهملتين مصغَّرًا (بْنِ الخِيَارِ يَوْمَ بَدْرٍ) بكسر الخاء المعجمة، وهو وَهْمٌ، والصَّواب: ابن نوفلٍ، ويأتي تحقيقه إن شاء الله تعالى في «غزوةِ أحدٍ» [خ¦4072].
          وزاد أبو ذرٍّ عن الكُشمِيهنيِّ هنا: ”قال أبو عبد الله البخاريُّ: {فَوْرِهِمْ} هو: غضبُهم“ وهذا تفسيرُ عكرمة ومجاهد، وقال الرَّاغب: الفَوْر: شدَّة الغليانِ، ويقال ذلك في النَّار نفسِها إذا هاجتْ في(11) القِدْر والغضب، قال الله تعالى / : {وَهِيَ تَفُورُ. تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ}[الملك:7 - 8].
          (وَقَوْلُهُ تَعَالَى‼: {وَإِذْ}) أي: اذكرْ إذ ({يَعِدُكُمُ اللّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتِيْنِ}) عِير قريشٍ التي أقبلت مع أبي سفيان من الشَّام، أو النَّفير(12) وهو من خرجَ من قريشٍ مع عُتبة بن ربيعةَ لاستنقاذِها من أيدي المسلمين ({أَنَّهَا لَكُمْ}) بدلُ اشتمالٍ ({وَتَوَدُّونَ}) أي: تتمنَّون ({أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ}[الأنفال:7]) يعني: العير، فإنَّه لم يكن فيه إلَّا أربعون فارسًا.
          (الشَّوْكَةُ) هي (الحَدُّ) وهذا تفسيرُ أبي عُبيدة في «المجاز»، مستعارٌ من واحدِ الشَّوك، وسقط قوله: «{وَتَوَدُّونَ}...» إلى آخره لغير أبي ذرٍّ وابنِ عساكرٍ، ولفظهم(13): ”{أَنَّهَا لَكُمْ ...} الآية“.


[1] في (ب) و(د) و(س): «بئر بها».
[2] «وبالرفع عطفًا على»: ليست في (د).
[3] في (ص) و(ل): «تذكرون».
[4] قوله: «الشكر موضع»: ليس في (ص) و(م).
[5] قوله: «أي الهمزة»: ليس في (ب) و(س) و(م).
[6] في (ص) و(م): «بلى إن».
[7] في (ب) و(س): «تذكَّروا».
[8] في (د): «جعل الله».
[9] «والعُدد»: ليس في (م).
[10] في (م): «كما».
[11] كذا في الأصول، وفي «مفردات الراغب»: «وفي القدر وفي الغضب»، وهو أدقُّ وأصوب.
[12] في (ص): «والنفير».
[13] في (س): «لفظهما»، وفي (ص): «لفظها».