التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب: كيف الحشر

          ░45▒ بَابٌ كَيْفَ الحَشْرُ؟
          ذَكَرَ فِيْهِ أحاديثَ:
          6522- أحدُها: حَدِيْثُ أَبِي هُرَيْرَةَ ☺، عَنْ رَسُوْلِ الله صلعم: (يُحْشَرُ النَّاسُ عَلَى ثَلَاثِ طَرَائِقَ: رَاغِبِينَ رَاهِبِينَ، وَاثْنَانِ عَلَى بَعِيرٍ، وَثَلَاثَةٌ عَلَى بَعِيرٍ، وَأَرْبَعَةٌ عَلَى بَعِيرٍ، وَعَشَرَةٌ عَلَى بَعِيرٍ، وَيَحْشُرُ بَقِيَّتَهُمُ النَّارُ تَقِيلُ مَعَهُمْ حَيْثُ قَالُوا، وَتَبِيتُ مَعَهُمْ حَيْثُ بَاتُوا، وَتُصْبِحُ مَعَهُمْ حَيْثُ أَصْبَحُوا، وَتُمْسِي مَعَهُمْ حَيْثُ أَمْسَوْا).
          6523- ثانيها: حَدِيْثُ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ ☺: أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا نَبِيَّ الله، كَيْفَ يُحْشَرُ الْكَافِرُ عَلَى وَجْهِهِ؟ قَالَ: (أَلَيْسَ الَّذِي أَمْشَاهُ عَلَى رِجْلَيْنِ فِي الدُّنيا قَادِرًا على أَنْ يُمْشِيَهُ عَلَى وَجْهِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟). قَالَ قَتَادَةُ: بَلَى وَعِزَّةِ رَبِّنَا.
          6524- ثالثُها: حَدِيْثُ ابْنِ عَبَّاسٍ ☻ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلعم يَقُولُ: (إِنَّكُمْ مُلَاقُو اللهِ حُفَاةً عُرَاةً مُشَاةً غُرْلًا). قَالَ سُفْيَانُ: هَذَا مِمَّا نَعُدُّ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ سَمِعَهُ مِنَ النَّبِيِّ صلعم.
          ثُمَّ سَاقَهُ بلفظِ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلعم يَخْطُبُ عَلَى الْمِنْبَرِ يَقُولُ: (إِنَّكُمْ مُلَاقُو اللهِ حُفَاةً عُرَاةً غُرْلًا).
          ثُمَّ ساقه عَنْهُ قَالَ: (قَامَ فِينَا النَّبِيُّ صلعم يَخْطُبُ فَقَالَ: إِنَّكُمْ مَحْشُورُونَ حُفَاةً عُرَاةً غُرْلًا: {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ} الآية [الأنبياء:104]. وَإِنَّ أَوَّلَ الْخَلَائِقِ يُكْسَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِبْرَاهِيمُ، وَإِنَّهُ سَيُجَاءُ بِرِجَالٍ مِنْ أُمَّتِي فَيُؤْخَذُ بِهِمْ ذَاتَ الشِّمَالِ، فَأَقُولُ: يَا رَبِّ أَصْحَابِي، فَيَقُولُ: إِنَّكَ لَا تَدْرِي مَا أَحْدَثُوا بَعْدَكَ، فَأَقُولُ كَمَا قَالَ الْعَبْدُ الصَّالِحُ: {وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا} إِلَى قَوْلِهِ: {الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [المائدة:117-118]، فَيُقَالُ إِنَّهُمْ لَمْ يَزَالُوا مُرْتَدِّينَ عَلَى أَعْقَابِهِمْ).
          6527- رابعُها: حَدِيْثُ عَائِشَةَ ♦ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ الله صلعم: (تُحْشَرُونَ حُفَاةً عُرَاةً غُرْلًا)، قَالَتْ عَائِشَةُ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ يَنْظُرُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ؟! قَالَ: (الْأَمْرُ أَشَدُّ مِنْ أَنْ يُهِمَّهُمْ ذَاكِ).
          6528- خامسُها: حَدِيْثُ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ قَالَ: (كُنَّا مَعَ رَسُوْلِ اللهِ صلعم فِي قُبَّةٍ فَقَالَ: أَتَرْضَوْنَ / أَنْ تَكُونُوا رُبُعَ أَهْلِ الْجَنَّةِ؟) قُلْنَا: نَعَمْ، قَالَ: (أَتَرْضَوْنَ أَنْ تَكُونُوا ثُلُثَ أَهْلِ الْجَنَّةِ؟) قُلْنَا: نَعَمْ، قَالَ: (أَتَرْضَوْنَ أَنْ تَكُونُوا شَطْرَ أَهْلِ الْجَنَّةِ؟) قُلْنَا: نَعَمْ، قَالَ: (وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، إِنِّي لَأَرْجُو أَنْ تَكُونُوا نِصْفَ أَهْلِ الجنَّة، وَذَلِكَ أَنَّ الْجَنَّةَ لَا يَدْخُلُهَا إِلَّا نَفْسٌ مُسْلِمَةٌ، وَمَا أَنْتُمْ فِي أَهْلِ الشِّرْكِ إِلَّا كَالشَّعَرَةِ الْبَيْضَاءِ فِي جِلْدِ الثَّوْرِ الْأَسْوَدِ، أَوْ كَالشَّعَرَةِ السَّوْدَاءِ فِي جِلْدِ الثَّوْرِ الْأَحْمَرِ).
          6529- سادسُها: حَدِيْثُ أَبِي هُرَيْرَةَ ☺، أَنَّ النَّبِيَّ صلعم قَالَ: (أَوَّلُ مَنْ يُدْعَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ آدَمُ ◙، فَيَتَرَاءَى ذُرِّيَّتَهُ فَيُقَالُ: هَذَا أَبُوكُمْ آدَمُ، فَيَقُولُ: لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ، فَيَقُولُ: أَخْرِجْ بَعْثَ جَهَنَّمَ مِنْ ذُرِّيَّتِكَ، فَيَقُولُ: يَا رَبِّ كَمْ أُخْرِجُ؟ فَيَقُولُ: أَخْرِجْ مِنْ كُلِّ مِائَةٍ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ)، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ الله، إِذَا أُخِذَ مِنَّا مِنْ كُلِّ مِائَةٍ تِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ فَمَاذَا يَبْقَى مِنَّا؟ قَالَ:(إِنَّ أُمَّتِي فِي الْأُمَمِ كَالشَّعَرَةِ الْبَيْضَاءِ فِي الثَّوْرِ الْأَسْوَدِ).
          الشَّرح: حَدِيثُ ابنِ عبَّاسٍ ☻ سلفَ في ذِكْرِ الأنبياءِ [خ¦3349] وكذا حَدِيْثُ عَبْدِ الله وأَبِي هُرَيْرَةَ، وَحَدِيْثُ أَنَسٍ سلفَ في تفسيرِ الفرقان [خ¦4760].
          قَال الخَطَّابِيُّ: المذكورُ هنا في الحشْرِ إِنَّمَا يكونُ قبلَ قيامِ السَّاعةِ، يُحشَرُ النَّاسُ أحياءً إِلَى الشَّام، وأمَّا الحشرُ الَّذِي بعد البعثِ مِن القبورِ فعلى خلافِ هذه الصُّورةِ مِن ركوبِ الإبلِ والمعاقبةِ عليها، إِنَّمَا هُوَ عَلَى مَا ورد في الخبرِ يُبْعَثون حُفَاةً عراةً غُرْلًا، قال: وقيل: إنَّ هَذَا في البعثِ دونَ الحشرِ، فليس بين الحَديثين تضادٌّ، قال: وقَوْلُهُ: (عَشَرَةٌ عَلَى بَعِيْرٍ) يعني أنَّهم يَعْتَقِبُون البعيرَ الواحدَ، يركبُ بعضُهم ويمشي الباقون عَقِبًا بينهم.
          وقَالَ الدَّاودِيُّ: يُحمَلون عَلَى قَدْرِ أعمالِهم، والاثنانِ عَلَى البعيرِ أفضلُ مِن الثَّلاثةِ، والثَّلاثةُ أفضلُ مِن أكثرَ منهم.
          وقَوْلُهُ: (تَقِيلُ مَعَهُمْ حَيْثُ قَالُوا...) إِلَى آخرِه، يدلُّ أنَّهم يقيمون كذلك أيَّامًا، وقال قَتَادَةُ في تفسيرِ قَوْلِه: {لِأَوَّلِ الْحَشْرِ} [الحشر:2]: هي نارٌ تحشُرُ النَّاسَ مِن المشرقِ إِلَى المغربِ تبيتُ معهم حيث باتوا وترحلُ فيَرحلون وتأكلُ مَن تخلَّفَ.
          وقَوْلُهُ: (أَلَيْسَ الَّذِي أَمْشَاهُ) إِلَى آخرِه، ظَاهرُه أنَّه يمشي عَلَى وجهِه حقيقةً، وقيل: هُوَ مَثَلٌ للكافرِ والمؤمِنِ أَنَّ هَذَا ضالٌّ وهَذَا مهتدٍ، وهَذَا قولُ مُجَاهِدٍ في تفسيرِ قولِه تَعَالَى: {أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ} [الملك:22] وقال قَتَادَةُ في تفسيرِ الآية: بلْ هُوَ حقيقةٌ. وظاهرُ الحَدِيْثِ هنا حجَّةٌ له.
          وقَوْلُهُ: (غُرْلًا) أَيْ غُلْفًا غيرَ مختونين، غُلَامٌ أَغْرَلُ أَي أَقْلَفُ، والغُرْلةُ القُلْفَةُ.
          وقَوْلُهُ: (يُهِمَّهُمْ) هُوَ بِضَمِّ أوَّلِه، يُقَالُ: أهمَّني الأمرُ أحزنني وأقلقَني، وهمَّني المرضُ أذابَنِي، وهممتُ بالشَّيءِ إِذَا أردْتُه. قال ابنُ التِّين: رُوِّيناه بالضَّمِّ عَلَى أنَّه رُباعيٌّ مِن أهمَّني الأمرُ أَي أقلقَني، وفي بعضِ الرِّواياتِ بفتْحِها لَعَلَّهُ مِن هَمَّني المرضُ إِذَا أذابَنِي، والأوَّلُ أبينُ، قال تَعَالَى: {وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ} [آل عمران:154].
          فَصْلٌ: وقَوْلُهُ: (وَإِنَّ أَوَّلَ الخَلاَئِقِ يُكْسَى يَوْمَ القِيَامَةِ إِبْرَاهِيمُ) فِيْهِ فضلٌ له بِذَلِكَ، ويُؤتَى محمَّدٌ الشَّفاعةَ لم يُؤتَها أحدٌ غيرُه.
          وقَوْلُهُ: (فَيُؤْخَذُ بِهِمْ ذَاتَ الشِّمَالِ...) إِلَى آخره، هُوَ تحذيرٌ لأصحابِه أَنْ يُحْدِثوا بعدَه حَدَثًا، ولعلَّهم المنافقونَ، ويحتملُ أَنْ يُسمَّوا له فَلا يُسمِّيهِم تحذيرًا لغيرِهم، ويحتمل أَلَّا يُسمَّوا له.
          و(العَبْدُ الصَّالِحُ) عِيسَى صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ عَلَيهِ.
          والرِّدَّةُ الكفرٌ بعد الإيمانِ، وارتدَّ بعدَه قومٌ مِن العربِ، وقُتِلَ مَن قُتِلَ عَلَى رِدَّتِه، وأحرقَ الصِّدِّيقُ بعضَهم بالنَّارِ، ولعلَّ بعضَ مَن راجعَ الإيمانَ لم يُخلِصْ إيمانَهُ.
          فَصْلٌ: وقَوْلُهُ: (فِي قُبَّةٍ) إِنَّمَا كَانَ يفعلُ ذَلِكَ في السَّفَرِ.
          وقَوْلُهُ: (أَتَرْضَوْنَ...) إِلَى آخرِه، خَرَجَ مخرجَ الاستفهامِ وأُريدَ به البُشْرَى، وبَشَّرَ أولًا بالأقَلِّ ثمَّ بالأكثرِ ليُعلَمَ سرورُهم.
          فَصْلٌ: قَوْلُهُ: (كَالشَّعَرَةِ الْبَيْضَاءِ فِي جِلدِ الثَّوْرِ الْأَسْوَدِ) وفي الحَدِيْثِ الآتي في البابِ بعدَه: ((أو كالرَّقْمَة في ذِرَاع الحمارِ)) [خ¦6530] فالشَّعَرَةُ عَلَى التَّقليلِ والتَّكثيرِ لأنَّه لا يكونُ ثورًا ليس في جِلْدِه إلَّا مئةُ شَعَرةٍ، والرَّقْمَةُ يحتملُ أَنْ تكونَ عَلَى الحقيقة.
          وقَوْلُهُ: (أَخْرِجْ بَعْثَ جَهَنَّمَ) أَي جَيشَها وأهلَها، يُقَالُ: كنتُ في بعْثِ فلانٍ _بفتْحِ الباء_ أَيْ في جيشِه الَّذِي بُعِثَ.
          وقَوْلُهُ: (مِنْ كُلِّ مِائَةٍ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ) قَالَ الدَّاودِيُّ: هَذَا المحفوظُ الموجودُ عَلَى العِيانِ لِكثرَةِ الأُممِ وقِلَّةِ المسلمين، وقال أَيضًا: ((مِن يأجوجَ ومأجوجَ ألْفًا إلَّا واحدًا، ومنكم واحدٌ)) وهَذَا عَلَى التَّكثيرِ لأنَّ سِواهُم مِن الكفَّارِ لا يدخلونَ الجنَّةَ، ومَن لم يدخلْها دَخَلَ النَّارَ.
          فَصْلٌ: الحشرُ عَلَى أربعةِ أوجُهٍ: حَشْرَانِ في الدُّنيا ومثلُهما في الآخرةِ، فأمَّا اللَّذان في الدُّنيا فقولُه تَعَالَى: {لِأَوَّلِ الْحَشْرِ} [الحشر:2] قال الزُّهْرِيُّ: كانوا مِن سِبْطٍ لم يُصبْهمُ الجَلَاءُ وكان اللهُ قد كَتَبَهُ عليهم فلولا ذَلِكَ لعذَّبَهم في الدُّنيا، وكان أوَّلُ حشرٍ حُشِرُوا في الدُّنيا إِلَى الشَّام كما سَلَفَ. قال ابنُ عبَّاسٍ: مَن شكَّ في أَنَّ الحشْرَ في الشَّامِ فَلْيقرأْ هذه الآيةَ، وذَلِكَ أنَّه ◙ قال لهم: ((اخرُجوا)) قالوا: إِلَى أين؟ قَالَ: ((إِلَى أرضِ المحشَرِ)) قال قَتَادَةُ: هَذَا أوَّلُ الحشْرِ.
          الثَّاني: مَا رواهُ البُخَاريُّ مِن حَدِيْثِ أَبِي هُرَيْرَةَ ☺ في البابِ، وقال قَتَادَةُ: إنَّه نارٌ تحشرُهم كما سَلَفَ. قال عِيَاضٌ: هَذَا قَبْلَ قيامِ السَّاعةِ، وهو آخرُ أشراطِها كما ذكرَهُ مُسلمٌ: ((وآخِرُ ذَلِكَ نارٌ تخرج مِن قَعرِ عَدَنٍ تُرَحِّلُ النَّاسَ)) وفي روايةٍ: ((تَطْرُدُ النَّاس إِلَى محشرِهم)) وفي حَدِيْثٍ آخَر: ((لا تقومُ السَّاعةُ حَتَّى تخرجَ نارٌ مِن أرضِ الحجازِ)) ويدلُّ على أنَّها قَبْلَ يومِ القيامةِ قَوْلُهُ: (فَتَقِيْلُ مَعهُمْ...) إِلَى آخرِه، / وفي روايةٍ لغيرِ مُسلمٍ: ((إِذَا سمعتم بها فاخْرجُوا إِلَى الشَّام)).
          وذكر الحَليميُّ في «منهاجِه» أَنَّ ذَلِكَ في الآخرَةِ فقال: يحتمل أَنَّ قَوْلَهُ ◙: (يُحشَرُ النَّاسُ عَلَى ثَلَاثِ طَرَائِقَ) إشارةٌ إِلَى الأبرارِ والمخلِّطِين والكفَّار؛ فالأبرارُ هم الرَّاغبونَ إِلَى اللهِ فيما أعدَّ لهم مِن ثوابِه، والرَّاغبونَ هم الَّذِين بين الخوفِ والرَّجاءِ، فأمَّا الأبرارُ فإنَّهم يُؤَتَوْنَ بالنَّجائبِ، وأمَّا المُخَلِّطُون فهم الَّذِين أُريدُوا في الحَدِيْثِ، وقيل: إنَّهم يُحمَلُونَ عَلَى الأَبْعِرَةِ، وأمَّا الفُجَّارُ فهم المَحْشورون إِلَى النَّارِ، وذَلِكَ أَنَّ الله تَعَالَى يبعث إليهم ملائكةً فيقيِّضُ لهم نارًا تسوقُهم.
          ولم يَرِد في هذا الحَدِيْثِ إلَّا ذِكْرُ البعير، فإمَّا أَنْ يكون ذَلِكَ مِن إِبِلِ الجنَّةِ أو مِن الإبِلِ الَّتِي تجِيءُ وتُحشَرُ يومَ القيامة، فهذا مَا لم يأتِ بيانُهُ، والأشبهُ أَلَّا تكونَ مِن نَجَائِبِ الجنَّةِ لأنَّ حَمْلَها الأبرارَ وكان مع ذَلِكَ مِن جُملةِ المؤمنينَ فإنَّهم بين الخوفِ والرَّجاء، لأنَّ مِن هؤلاء مَن يَغفِرُ الله ذنوبَه فيَدخُلُ الجنَّةَ، ومنهم مَن يعاقبُه بالنَّار، ثمَّ يُخرجُه منها ويُدخلُه الجنَّةَ، إِذَا كَانَ كذلكَ لم يبقَ أَنْ يَرِدُوا موقفَ الحسابِ عَلَى نَجَائِبِ الجنَّةِ ثمَّ ينزِلُ عنها بعضُهم إِلَى النَّارِ؛ لأنَّ مَن أكرمهُ الله بالجنَّة مرَّةً لم يُهِنْهُ بعدَ ذَلِكَ بالنَّارِ.
          وفي لفظٍ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ☺، وذَكَرَ الحشْرَ: ((أَمَا إنَّهم يتَّقون بوجوهِهم كلَّ حَدَبٍ وشوكٍ)) فهذا إنْ ثبتَ مرفوعًا فالرُّكبانُ هم المتَّقون السَّابقون الَّذِين يَغفِرُ اللهُ ذنوبَهم عند الحسابِ فلا يعذِّبُهم، إلَّا أَنَّ المتَّقِين يكونون عَلَى نَجَائِبِ الجنَّةِ والآخَرون عَلَى دوابٍّ سِوى دوابِّ الجنَّةِ.
          وقال البَيْهَقِيُّ: الرَّاغبون يحتملُ أَنْ تكونَ إشارةً إِلَى الأبرارِ، والرَّاهبونَ المخلِّطُون الَّذِين هم بينَ الخوفِ والرَّجاء، والَّذِين تحشرُهُمُ النَّارُ هم الكفَّارُ، ويحتملُ أَنْ يكونَ هَذَا وقتَ الحشرِ إِلَى مَوقفِ الحساب، وأمَّا مَا وردَ مِن حشرِهِم حُفاةً عُراةً غُرْلًا ففي وقتِ النُّشورِ مِن القبور، ويحتمل أَنْ يكون هَذَا معنى قَوْلِه: (رَاغِبُوْنَ وَرَاهِبُوْنَ) في وقتِ حَشْرِهم إِلَى الجنَّةِ بعد الفراغِ مِن الحسابِ. والأوَّلُ أَوْلَى.
          والصِنَّف الثَّاني: الَّذِين يعذِّبُهم اللهُ بذنوبِهم ثمَّ يُخرِجُهم مِن النَّارِ إِلَى الجنَّة، وهؤلاء يكونون مشاةً عَلَى أقدامِهم، وقد يحتمل عَلَى هَذَا أَنْ يمشُوا وقتًا ثمَّ يَركبونَ، أو يكونُوا رُكبانًا فإذا قاربوا المحْشرَ نزلوا فمَشَوا ليتَّفق الحَديثان.
          والصِّنفُ الثالث: المُشاةُ عَلَى وجوهِهم وهم الكفَّارُ.
          وقد يحتمل أَنْ يكونوا ثلاثةَ أصنافٍ: صنفٌ مسلمون وَهُم رُكبانٌ، وصنفانِ مِن الكفَّارِ، أحدُهما: الأعْلامُ، فهؤلاء يُحشرونَ عَلَى وجوهِهم، وَالآخَرونَ الأتْباعُ فهم يمشون عَلَى أقدامِهم، وإِلَى هَذَا ذَهب الغَزَالِيُّ في «كشف علوم الآخرة» فإنَّه لمَّا ذَكَرَ: قيل: يا رَسُوْل الله كيف يُحشَرُ النَّاسُ؟ قَالَ: ((اثنانِ عَلَى بعيرٍ، وَخمسةٌ عَلَى بعيرٍ، وعشرةٌ عَلَى بعيرٍ)) قال: معناه والله أعلم أَنَّ قومًا يأتلِفونَ في الإسلامِ برحمةِ الله، يَخلُقُ لهم مِن أعمالِهم بعيرًا يركبون عليه، وهَذَا مِن ضَعْفِ العملِ لكونِهم يشتركون فِيْهِ كقومٍ خرجوا في سفرٍ بعيدٍ وليس مع أَحَدٍ منهم مَا يشتري مَطِيَّةً توصِلُهُ، فاشتركَ في ثمنِها اثْنانِ أو ثلاثةٌ ابْتاعوا مطيَّةً يتعقَّبُون عليها في الطَّريق، ويبلغُ بعيرٌ مع عشرةٍ، فاعملْ هداك اللهُ عملًا يكونُ لك بعيرٌ خالصٌ مِن الشَّركة، واعلمْ أَنَّ ذَلِكَ هُوَ المتجر الرَّابحُ، والمتَّقُونَ وافدونَ كما قال تَعَالَى:{يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا} [مريم:85].
          وفي «غريب الرِّواية» أنَّه ◙ قال يومًا لأصحابِه: ((كَانَ رجلٌ مِن بني إسرائيلَ كثيرًا مَا يفعلُ الخيرَ حَتَّى إنَّه ليُحشَرُ فيكم)) قالوا: ومَا كَانَ يصنع؟ قَالَ: ((وَرِث مِن أبيه مالًا كثيرًا فاشترَى بستانًا فحَبسَه للملائكة، وقال: هَذَا بستاني عندَ الله، وفرَّق دنانيرَ عديدةً في الضُّعفاءِ، وقال: أشتري بهذا جاريةً مِن اللهِ وعبدًا، وأُعتِقُ رقابًا كثيرةً، وقال: هؤلاء خَدَمي عندَ الله، والتفتَ ذات يومٍ إِلَى رجلٍ ضريرِ البصرِ فرآهُ تارةً يمشي وتارةً يكبو فابتاع له مَطِيَّةً يسيرُ عليها وقال: هذه مطيَّتِي عندَ الله أركبُها)) ثمَّ قال: ((والَّذِي نفسي بيدِه لكأنِّي أنظرُ إليها وقد جِيءَ بها إليه مُسْرَجةً مُلجَمةً، فَرَكِبَها لِيَسِيرَ بها إِلَى الموقِفِ)).
          وكَأَنَّ مَا ذَكَرَهُ عِيَاضٌ مِن أَنَّ ذَلِكَ في الدُّنيا أظهرُ لِمَا في نَفْسِ الحَدِيْثِ مِن ذِكْرِ المساءِ والمبيتِ والقائلةِ والصَّباح، وليس ذَلِكَ في الآخرةِ، يوضِّحُه حَدِيْثُ أَبِي هُرَيْرَةَ ☺ مرفوعًا عند التِّرمذِيِّ: ((يُحشَرُ النَّاسُ يومَ القيامةِ ثلاثةَ أصنافٍ: صنفًا مشاةً وصنفًا ركبانًا وصنفًا عَلَى وجوههم)) قيل: يا رَسُوْلَ الله: كيف يمشون عَلَى وجوههم؟ قَالَ: ((إنَّ الَّذِي أمشاهم عَلَى أقدامِهم قادرٌ عَلَى أَنْ يُمْشِيَهم عَلَى وجوهِهم، أَمَا إنَّهم يتَّقونَ بوجوهِهم كلَّ حَدَبٍ وشوكٍ)) وهَذَا يدلُّ عَلَى أنَّه في الدُّنيا إذْ ليسَ ذلكَ في الآخرةِ عَلَى مَا سَلَفَ مِن أَنَّ المحشَرَ عَلَى أَرْضٍ كقُرْصَةِ النَّقِيِّ فليس فيها شوكٌ ولا حَدَبٌ.
          ورَوَى النَّسائيُّ مِن حَدِيْثِ أبي ذرٍّ مرفوعًا: ((النَّاسُ يُحشَرونَ ثلاثةَ أفواجٍ: فوجٌ راكبينَ طاعمينَ كاسين، وفوجٌ تسحبُهم المَلائِكَةُ عَلَى وجوهِهم، وتحشُرُ النَّارُ أفواجًا يمشُونَ ويَسعَون، يُلقي اللهُ الآفةَ عَلَى الظَّهْرِ فلا يبقَى، حَتَّى إنَّ الرَّجُلَ لتكون له الحديقةُ يُعْطِيها بِذَاتِ القَتَبِ فلا يَقْدِرُ عليها)).
          قال الْبَيْهَقِيُّ: يحتمل أَنْ يكون أرادَ بالفوجِ الثَّاني المسلمينَ الَّذِين خَلَطُوا عملًا صالحًا وآخرَ سيِّئًا، فيكونون مُشاةً والأبرارُ رُكبانًا.
          فَصْلٌ: رَوَى أبو زيدٍ عُمَرُ بن شبَّةَ في كتابِه «أخبار المدينة» عن أَبِي هُرَيْرَةَ ☺ قَالَ: ((آخِرُ مَن يُحشَرُ رَجلانِ: رجلٌ مِن جُهَينةَ وآخَرُ مِن مُزَينةَ، فيقولان: أينَ النَّاسُ؟ فيأتيان المدينةَ فلا يَرَيَانِ إلَّا الثَّعالبَ، فينزلُ إليهما مَلَكانِ يسحبانِهما عَلَى وجوهِهما حَتَّى يُلحِقاهُما بالنَّاس)). /
          فَصْلٌ: رَوَى البَيْهَقِيُّ مِن حَدِيْثِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ أخبرَنا أَبُو قَزَعَةَ البَاهِلِيُّ عن حَكِيمِ بْنِ مُعَاوِيَةَ عن أبيه عن جدِّه قَالَ: قَالَ رَسُوْلُ الله صلعم: ((يُحشَرونَ ها هُنا _وَأَوْمَأَ بِيَدِه نحوَ الشَّامِ_ مُشاةً ورُكبانًا وعلى وجوهِهم)).
          وفي «كتاب نُعَيمٍ» عن عَبْدِ الله بن عَمرٍو: ثمَّ يَبعثُ الله بعدَ قَبْضِ عيسى وأرواحِ المؤمنينَ بِتلكَ الرِّيحِ الطَّيِّبةِ نارًا تَخرُجُ مِن نواحي الأَرْضِ تحشُرُ النَّاسَ والدَّوابَّ إِلَى الشَّام.
          وعَنْ مُعَاذٍ: يُحشَرُ النَّاسُ أثلاثًا: ثُلُثًا عَلَى ظهورِ الخيل، وثُلُثًا يحمِلون أولادَهم عَلَى عواتقِهم، وثُلُثًا عَلَى وجوهِهم مع القِردَةِ والخنازيرِ إِلى الشَّام، فيكونُ الَّذِين يُحشَرونَ إِلَى الشَّام لا يعرفون حقًّا وَلا فريضةً، ولا يعملون بكتابٍ ولا سُنَّةٍ، يتهارجون هُم والجنُّ مئةَ سنةٍ تهارُجَ الحميرِ والكلابِ، وأوَّلُ مَا يفجأُ النَّاسَ بعدُ مِن أَمْرِ السَّاعةِ أَنْ يبعثَ اللهُ ليلًا ريحًا فتقبِضُ كلَّ دينارٍ ودرهمٍ فتذهبُ به إِلَى بيتِ المقدس، ثمَّ يشقُّ اللهُ بنيانَ بيتِ المقدسِ فَيَنْبِذُه في البُحَيرةِ.
          وعن عِكْرِمَةَ قَالَ: يُحشَرُ النَّاسُ نحوَ الشَّامِ، وأوَّلُ مَن يُحشر مِن هذه الأمَّةِ النَّضيرُ. وكلُّه دالٌّ عَلَى أنَّه في الدُّنيا كما سلفَ، وأمَّا في الآخرة فحالُهم مختلفٌ كما مرَّ.
          فَصْلٌ: والصِّنفُ الآخَرُ حَشْرُهم إِلَى الموقِفِ، قال تَعَالَى: {يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا} [مريم:85] أَي رُكبانًا عَلَى النُّجُبِ، وقيل: عَلَى الأعمال. وفي الْبَيْهَقِيُّ مِن حَدِيْثِ عبدِ الرَّحمنِ بن إسحاقَ القُرشِيِّ عَنِ النُّعمانِ بنِ سَعِيدٍ عن عليٍّ مرفوعًا في الآية: قَالَ: ((أَمَا إنَّهم ما يُحشرون عَلَى أقدامِهم ولا يُساقون سَوْقًا، ولكنَّهم يُؤتَونَ بِنُوقٍ مِن نُوقِ الجنَّةِ لم يَنظُرِ الخلائقُ إِلَى مثلِها، رِحَالُها الذَّهبُ وأَزِمَّتُها الزَّبرْجُدُ، فيقعُدونَ عليها حَتَّى يَقرعُوا بَابَ الجنَّةِ)) وكَذا ذَكَرَهُ ابنُ عبَّاسٍ فيما ذَكَرَهُ عَنْهُ أبو عمرٍو عثمانُ بن أحمدَ الدَّقَّاقُ في «أهوالِه».
          فَصْلٌ: رَوَى الطَّبرانيُّ في «أوسطِ معاجمِه» مِن حَدِيْثِ مُعَاذٍ مرفوعًا: ((يدخلُ فقراءُ المسلمين الجنَّةَ قبل الأغنياءِ بأربعينَ عامًا، وإنَّ صالحَ العبيد يدخلونَ الجنَّة قبلَ الآخَرين بأربعين عامًا، وإنَّ أَهْلَ المدائنِ يَدخلون الجنَّةَ قبل أَهْلِ الرَّسَاتيقِ بأربعين عامًا لِفضْلِ المدائنِ بالجُمعةِ والجماعاتِ وحِلَقِ الذِّكْرِ، وإِذَا كَانَ بلاءٌ خُصُّوا به دونهم)).
          فَصْلٌ: وسمَّى المتَّقينَ وَفدًا لأنَّهم يسبقونَ النَّاسَ إِلَى حيث يُدْعَونَ إليه، فَهُمْ لا ينتظرون أحدًا لكنهم يَجِدُّون وَيُسرِعونَ، والمَلائِكَةُ تتلقَّاهم بالبِشاراتِ كما قال تَعَالَى: {وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} [الأنبياء:103] فيزيدُهم ذَلِكَ إسراعًا، وحُقَّ لِلمتَّقين أَنْ يسبِقوا لِسَبْقِهم في الدُّنيا إِلَى الطَّاعاتِ.
          فَصْلٌ: {وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا} [مريم:86] أَي عِطاشًا. وقَالَ: {وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا} [طه:102] وقال: {وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا} [الإسراء:97] وقَالَ: {الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ سَبِيلًا} [الفرقان:34] وهَذَا هُوَ الحَشْرُ الرَّابعُ.
          فَصْلٌ: وقَد ورد في الحشر آياتٌ ظاهرُها التَّعارضُ، منها قَوْلُهُ: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ} [يونس:45] وقَالَ: {وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا} [الإسراء:97] وفي آيةٍ أخرى: {يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا} [يس:52] وهَذَا كلامٌ، وهو يُضادُّ البَكَمَ، والتَّعارفُ تخاطبٌ وَهو مضادٌّ للصَمَمِ والبَكَمِ معًا، وقال تَعَالَى: {فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ} [الأعراف:6] والسُّؤال لا يكون إلَّا بإسماعٍ أو لناطقٍ يتَّسِع للجواب.
          وقال: {وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا} [طه:102]، وقال: {فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ} [يس:51] وقال: {يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ} [المعارج:43] والنَّسَلَانُ والإسراعُ يخالفان الحشْرَ عَلَى الوُجوهِ.
          والجوابُ عن هَذَا أَنْ يُقَالُ: النَّاسُ إِذَا حَيُوا وبُعِثُوا مِن قبورِهم فليستْ حالتُهم واحدةً ولا مقامهم ولا موقفُهم واحدٌ.
          وجُملةُ ذَلِكَ أنَّها خمسةُ أحوالٍ: حالةُ بعثٍ مِن القبورِ، وَحالُ سوقٍ إِلى موضِع الحسابِ، وحالُ محاسبةٍ، وحالُ سَوْقٍ إِلَى دارِ الجزاء، وحالُ مُقَامِهم في الدَّار الَّتي يستقرُّون فيها.
          فأمَّا الأوَّلُ: فإنَّ الكفَّارَ يكونون كاملي الحواسِّ وَالجوارحِ لقولِه تَعَالَى: {يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ} [يونس:45] وقَوْلِه: {يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْرًا} [طه:103] وقَوْلِه: {فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ} [الزمر:68] وقَوْلِه: {كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ} إِلَى قَوْلِه: {يَرْجِعُونَ} [المؤمنون:112-115].
          والثَّاني: وهم أَيضًا في هذه الحال بحواسَّ تامَّةٍ كقولِه تَعَالَى: {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ} الآية [الصافات:22] ومعنى: {اهْدُوْهُمْ} دُلُّوهم، ولا دِلالةَ لأعمَى أصمَّ، ولا سؤالَ لأبكمَ، فثبتَ بهذا أنَّهم يكونون بأبصارٍ وأسماعٍ وألسِنَةٍ ناطقةٍ.
          والثَّالثةُ: ويكونون فيها أيضًا كاملي الحواسِّ لِيسمَعُوا مَا يُقالُ لهم، ويقرؤُوا كُتُبَهمُ النَّاطقةَ بأعمالِهم، وتشهدَ عليهم جوارحُهم بسيِّئاتِهم ويسمعوها، وَقد أخبر تعالى عنهم أنَّهم يقولون: {مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً} الآية [الكهف:49] وَأَنَّهم يقولون لجلودِهم: {لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا} [فصلت:21] ولِيشاهدوا أحوالَ القيامة وما كانوا مكذِّبين به في الدُّنيا مِن شِدَّتِها وتصرُّف الأحوال بالنَّاسِ فيها.
          والرَّابعةُ: وهو السَّوقُ إِلَى جهنَّمَ فإنَّهم يُسلَبونَ فيها أسماعَهم وأبصارَهم وألسِنَتَهُم؛ لقولِه: {وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا} الآية [الإسراء:97] ويحتمل أَنْ يكون قولُه تَعَالَى: {يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ} [الرحمن:41] إشارةً إِلَى مَا يشعرونَ به مِن سَلْبِ الأبصارِ والأسْماع والمنْطِقِ.
          والخامسةُ: دارُ الإقامةِ في النَّار، وَتنقسم إِلَى بدْءٍ ومآلٍ، فبدْؤُها إِذَا قَطَعُوا المسافةَ الَّتِي بينَ موقِفِ الحسابِ وَشفيرِ جهنَّم عُميًا وبُكمًا وصمًّا إذلالًا لهم وتمييزًا عَن غيرِهم، فتُرَدُّ إليهم الحواسُّ لِيَشْهَدُوا النَّارَ وما أُعِدَّ لهم فيها مِن العذاب، ويعاينون ملائكةَ العذابِ وكلَّ مَا كانوا به مكذِّبين، فيستقرُّونَ في النَّارِ ناطقين مُبصِرينَ سامعِين، ولهذا قال تَعَالَى: {وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ} الآية [الشورى:45] وقال: {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ} الآية [الأنعام:27] وقال: {كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا} الآية [الأعراف:38] وقال: {كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ} الآية [الملك:8] وأخبر تَعَالَى أنَّهم ينادُونَ أَهْلَ الجنَّة فيقولون: {أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ} [الأعراف:50] وأنَّ أَهْل الجنَّة ينادونَهم: {أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا} الآية [الأعراف:44] وأنَّهم يقولونَ لِخَزَنَةِ جهنَّمَ: {ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِنَ الْعَذَابِ} [غافر:49] فيقولون لهم: {أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ} [غافر:50].
          وأمَّا العُقْبَى والمآلُ فإنَّهم إِذَا قالوا: {رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا} الآية [المؤمنون:107] فقال: {اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ} [المؤمنون:108] وَكتَبَ عليهم الخلودَ بالمَثَلِ الَّذِي يُضرَبُ لهم، وهو أَنْ يُؤتَى بكبْشٍ ويُسمَّى الموتَ، فيُذبَحَ عَلَى الصِّراطِ بين الجنَّةِ والنَّارِ ويُنادَى بالخلودِ، سُلبوا فِي ذَلِكَ الوقتِ أسماعَهم، / وقد يجوز أَنْ يُسلَبُوا الأبْصارَ، ولكنْ سَلبُ السَّمْعِ يقينٌ لأنَّ الله تَعَالَى يقول: {لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَهُمْ فِيهَا لَا يَسْمَعُونَ} [الأنبياء:100] فإِذَا سُلِبُوا الأسْماعَ صَارُوا إِلَى الزَّفيرِ والشَّهيقِ.
          قال الضَّحَّاك فيما رواه ابنُ مَعْبدٍ فِي «الطَّاعة»: فعندَ قَوْلِه: {اخْسَئُوا} يصيرون صُمًّا لَا يسمعون، وبُكْمًا لا ينطِقون، وَعُمْيًا لا يُبصرون، ويحتمل أَنْ تكونَ الحِكمةُ فِي سَلْبِ الأسماعِ مِن قِبَلِ أنَّهم سمِعُوا نداءَ الرَّبِّ عَلَى ألسنةِ رُسُلِه فلم يجيبوه بل جَحدوه وكذَّبوا به بعد قيام الحُجَّةِ عليهم بِصِحَّتِه، فلمَّا كَانَت حُجَّةُ الله عليهم فِي الدُّنيا الأسماعُ عاقَبَهم عَلَى كُفرِهم فِي الأُخرى بسلبِه، يوضِّحه أنَّهم كانوا يقولون لرسولِ الله: {وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ} [فصلت:5] وقالوا: {لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ} [فصلت:26] وأنَّ قومَ نوحٍ كانوا يَسْتَغْشُونَ ثيابَهم تستُّرًا منه لئلَّا يَرَوْهُ ولا يسمعوا كلامه، وقد أخبر اللهُ عن الكفَّارِ فِي نبيِّنَا مثلَه فقال: {أَلَا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ} الآية [هود:5] وإنْ سلَبَ أبصارَهُم فَلِأنَّهم أبصروا العِبَرَ فَلم يعتبروا، والنُّطْقَ فلأنَّهم أُوتُوهُ فكفروا، وقد تقدَّم طرفٌ مِن هَذَا فِي ذِكْرِ آدمَ عليه أفضلُ الصَّلاة والسَّلام.