التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب: من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه

          ░41▒ بَابٌ (مَنْ أَحَبَّ لِقَاءَ اللهِ أَحَبَّ اللهُ لِقَاءَهُ). /
          6507- ذَكَرَ فيه: حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ، حَدَّثَنَا هَمَّامٌ، حَدَّثَنَا قَتَادَةُ عَنْ أَنَسٍ عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ ☺، عَنِ النَّبِيِّ صلعم قَالَ: (مَنْ أَحَبَّ لِقَاءَ اللهِ أَحَبَّ اللهُ لِقَاءَهُ، وَمَنْ كَرِهَ لِقَاءَ اللهِ كَرِهَ اللهُ لِقَاءَهُ)، فقَالَتْ عَائِشَةُ أَوْ بَعْضُ أَزْوَاجِهِ: إِنَّا لَنَكْرَهُ المَوْتَ، قَالَ: (لَيْسَ ذَلِكِ، وَلَكِنَّ المُؤْمِنَ إِذَا حَضَرَهُ المَوْتُ بُشِّرَ بِرِضْوَانِ اللهِ وَكَرَامَتِهِ، فَلَيْسَ شَيْءٌ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا أَمَامَهُ، فَأَحَبَّ لِقَاءَ اللهِ وَأَحَبَّ اللهُ لِقَاءَهُ، وَإِنَّ الكَافِرَ إِذَا حُضِرَ بُشِّرَ بِعَذَابِ اللهِ وَعُقُوبَتِهِ، فَلَيْسَ شَيْءٌ أَكْرَهَ إِلَيْهِ مِمَّا أَمَامَهُ، فَكَرِهَ لِقَاءَ اللهِ فكَرِهَ اللهُ لِقَاءَهُ). اخْتَصَرَهُ أَبُو دَاوُدَ وَعَمْرٌو، عَنْ شُعْبَةَ، وَقَالَ سَعِيدٌ: عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ زُرَارَةَ، عَنْ سَعْدٍ، عَنْ عَائِشَة ♦، عَنْ رَسُولِ اللهِ صلعم.
          6508- ثمَّ ساق حديثَ أَبِي مُوسَى ☺، عَنْ رَسُولِ اللهِ صلعم: (مَنْ أَحَبَّ لِقَاءَ اللهِ أَحَبَّ اللهُ لِقَاءَهُ، وَمَنْ كَرِهَ لِقَاءَ اللهِ كَرِهَ اللهُ لِقَاءَهُ).
          6509- وحديثَ سَعِيدِ بْنِ المُسَيِّبِ وَعُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ فِي رِجَالٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، أَنَّ عَائِشَةَ ♦ قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلعم يَقُولُ وَهُوَ صَحِيحٌ: (إِنَّهُ لَمْ يُقْبَضْ نَبِيٌّ قَطُّ حَتَّى يَرَى مَقْعَدَهُ مِنَ الجنَّة، ثُمَّ يُخَيَّرُ)، فَلَمَّا نَزَلَ بِهِ وَرَأْسُهُ عَلَى فَخِذِي غُشِيَ عَلَيْهِ سَاعَةً، ثُمَّ أَفَاقَ فَأَشْخَصَ بَصَرَهُ إِلَى السَّقْفِ، ثُمَّ قَالَ: (اللَّهُمَّ الرَّفِيقَ الأَعْلَى)، فقُلْتُ: إِذًا لَا يَخْتَارُنَا، وَعَرَفْتُ أَنَّهُ الحَدِيثُ الَّذِي كَانَ يُحَدِّثُنَا بِهِ، قَالَتْ: فَكَانَتْ تِلْكَ آخِرَ كَلِمَةٍ تَكَلَّمَ بِهَا رَسُولُ اللهِ صلعم، قَوْلُهُ: (اللَّهُمَّ الرَّفِيقَ الأَعْلَى).
          الشَّرح: قولُه: (اخْتَصَرَهُ أَبُو دَاوُدَ وَعَمْرٌو، عَنْ شُعْبَةَ) كأنَّه يريدُ بحديثِ أبي داودَ ما رواه التِّرْمِذيُّ عن محمودِ بنِ غَيْلانَ عنه بلفْظِ حديثِ أبي موسى سواءٌ مِن غيرِ زيادةٍ. والتَّعليقُ عن عَمْرٍو المذكورُ أخرجه الطَّبرانيُّ في «أكبر معاجمه» عن أبي مسلمٍ الكَشِّيِّ ويُوسُفَ بنِ يعقوبَ القاضي قالا: حدَّثنا عَمْرو بن مَرْزُوقٍ أخبرنا شُعْبَةُ، فَذَكَرَهُ بمثْلِ لفظِ أبي داود سواء.
          وتعليقُ سعيدٍ إلى آخرِه أخرجه مسلمٌ، عن محمَّدَ بنِ عبدِ الله الرُّزِّيِّ حدَّثنا خالدٌ، وحدَّثنا ابنُ يَسَارٍ حدَّثنا محمَّدُ بن بكرٍ كِلاهما عن سعيدٍ به. وفي مسلمٍ عن عائِشَة: إِذَا شَخَصَ الْبَصَرُ، وَحَشْرَجَ الصَّدْرُ، وَاقْشَعَرَّ الْجِلْدُ، وَتَشَنَّجَتِ الْأَصَابِعُ، فَعِنْدَ ذَلِكَ مَنْ أَحَبَّ لِقَاءَ اللهِ. الحديث. وعنها أيضًا في «تفسيرِ عَبْدِ بن حُمَيدٍ»: إذا أراد اللهُ بعبدٍ خيرًا قيَّض له قبْلَ موتِه بعامٍ مَلَكًا يسدِّدُهُ ويوفِّقُهُ حتَّى يُقالَ: مات فلانٌ بخيرِ ما كان، فإذا حُضِرَ ورَأَى ثوابَه تَهَوَّعَ نفْسَه، فذلك حين أَحَبَّ لقاءَ الله وأحبَّ اللهُ لقاءَه، وإذا أرادَ بعبدٍ سوءًا قيَّضَ له قبلَ موتِه بعامٍ شيطانًا فأضلَّه وفتنَهُ حتَّى يقولَ النَّاسُ: مات بِشَرِّ ما كان عليه، فإذا حُضِرَ ورأى ما نزلَ به مِن العذابِ تَبَلَّعَ نفْسَه، فذلك حين يكره لقاءَ الله ويكرهُ الله لقاءَه.
          ورَوَى ابنُ جُرَيجٍ أنَّه صلعم قال لعائِشَة ♦ في تفسيرِ قولِه تعالى: {إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ} [المؤمنون:99]: ((إذا عاينَ المؤمنُ الملائكةَ قالوا له: نُرجِعُكَ إلى الدُّنيا؟ فيقول: إلى دارِ الهموم والأحزان؟! ثمَّ يقولُ: قدِّماني إلى اللهِ، وأمَّا الكافرُ فيقولُ: {ارْجِعُونِ. لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا} [المؤمنون:99- 100])).
          ورُوِّينا عن ابنِ المباركِ عن حَيْوَة أخبرنا أبو صَخْرٍ عن محمَّدِ بن كعبٍ أنَّه قال: إذا اسْتَنْقَعَتْ نفسُ المؤمنِ جاءه مَلَكُ الموت، فقال: السَّلامُ عليكَ يا وليَّ الله، اللهُ يقرأُ عليك السَّلامَ، ثمَّ يَنْزِعُ بهذه الآية: {الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ} [النحل:32] وفي حديثِ البراء ☺: لا يَقبِضُ روحَهُ حتَّى يُسَلِّم عليه. ولابن ماجه بإسنادٍ جيِّدٍ مِن حديثِ أبي هُرَيْرَة ☺ مرفوعًا: ((إذا كان الرَّجُلُ صالحًا قيل له: اخرجي أيَّتُها النَّفسُ الطَّيِّبةُ كانت في الجسدِ الطَّيِّب، اخرجي حميدةً وأبشِرِي بِرَوْحٍ ورَيحانٍ، وربٍّ راضٍ غيرِ غضبانَ، فلا يزال يُقال لها ذلك حتَّى تَخْرُجَ)).
          فَصْلٌ: المحبَّةُ والكراهَةُ عبارةٌ عمَّا يَحِلُّ في العبْدِ مِن رِضًى أو سَخَطٍ، قال الخطَّابيُّ: واللِّقاء على وجوهٍ منها الرُّؤيةُ والمعاينةُ والبعثُ والنُّشورُ، لقولِه تعالى: {قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللهِ} [الأنعام:31] أي بالبعثِ، ومنها الموتُ قال تعالى: {قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ} [الجمعة:8] وقولُه: {مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللهِ} [العنكبوت:5] أي يخاف الموتَ.
          فَصْلٌ: قولُه: (فَأَشْخَصَ بَصَرَهُ إِلَى السَّقْفِ) قيل: فيه دليلٌ أنَّه كُشِفَ له عن مكانِه في الجنَّةِ. وفيه عِلْمُ عائِشَةَ ♦ أنَّه يختارُ الأفضلَ. يُقال: شَخَصَ _بالفتْحِ_ ارتفعَ، وشَخَصَ بصرُه إذا فتحَ عينيهِ، وجعل لا يَطْرِفُ.
          وقولُه: (اللَّهُمَّ الرَّفِيقَ الأَعْلَى) هو دعاءٌ بالرِّفعةِ، وعُلُوِّ المنزِلَةِ في الجنَّة، وهو أن يكون مع الرَّفيق الأعلى، وهو أفضلُ موضعٍ في الجنَّة، وذُكِرَ عن الدَّاودِيِّ أنَّه قال: الرَّفيقُ سَقْفُ البيت. وهذا غيرُ معروفٍ في اللُّغةِ، وقد رَدْدناه عليه فيما مضى، لا جرمَ قال هنا: إنَّه الجنَّةُ.
          وقولُها: (إِذًا لَا يَخْتَارُنَا) تُقرأُ برفعِ الرَّاءِ مِن يختار لأنَّه فِعْلُ حَالٍ، و(إِذًا) إنَّما تنصُبُ الفعلَ المستقبَل / إذا لم يعتمِدْ ما بعدَها على ما قبْلَها، وإذا لم يكن معها حرفُ عطفٍ فإنْ كان معها حرفُ عطفٍ جاز الوجهانِ الرَّفعُ والنَّصبُ، وإذا لم يكن الفعلُ فعلَ _وهو هنا فِعْلُ_ حالٍ لأنَّها قالت: (إِذًا لَا يَخْتَارُنَا) أي هو في هذه الحالةِ غيرُ مختارٍ لنا؛ لأنَّ الحالَ لا تعملُ فيها العواملُ الماضية.
          وقولُها: (وَرَأْسُهُ عَلَى فَخِذِي) لا يخالفُ حديثَها الآخَرَ: ((ماتَ بين سَحْري ونَحْرِي)) لجوازِ أن يكونَ رفعَ رأسَهُ بعدُ إليه، ولم يتكلَّم ثمَّ ماتَ.