التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب: «الجنة أقرب إلى أحدكم من شراك نعله والنار مثل ذلك»

          ░29▒ باب (الجنَّةُ أَقْرَبُ إِلَى أَحَدِكُمْ مِنْ شِرَاكِ نَعْلِهِ، وَالنَّار مِثْلُ ذَلِكَ).
          6488- ذكر فيه حديث أبي وائلٍ، عن عبدِ اللهِ ☺ قال: قال النَّبيُّ صلعم، باللفظ المذكور.
          6489- وحديث أبي هُرَيْرَةَ ☺، عن النَّبيِّ صلعم قال: (أَصْدَقُ بيتٍ قَالَهُ الشَّاعِرُ: أَلاَ كُلُّ شَيْءٍ مَا خَلاَ اللهَ بَاطِلٌ).
          هذان الحديثان ذكرهما ابن بطَّالٍ في الباب الذي قبلَه، وحديث الترجمة والحديث الأوَّل دليلٌ واضحٌ أنَّ الطاعاتِ الموصِلةَ إلى الجنَّة، والمعاصي المقرِّبة مِن النَّار قد تكون في أيسر الأشياء.
          أَلَا ترى قوله ◙: ((إنَّ الرجل ليتكلَّم بالكلمة مِن رضوان الله لا يلقي لها بالًا يكتب الله له بها رِضْوَانَه إلى يوم يلقاه، وإنَّ الرجل ليتكلَّم بالكلمة مِن سَخَطِ الله ما يُلقي لها بالًا يكتب الله له بها سَخَطَهُ إلى يوم يلقاه)). /
          فينبغي للمؤمن أن لا يزهد في قليلٍ مِن الخير يأتيه، ولا يستقلَّ قليلًا مِن الشرِّ يجتنيه فيحسبَهُ هيِّنًا وهو عند الله عظيم فإنَّ المؤمن لا يعلمُ الحسنةَ التي يرحمه الله بها، ولا يعلمُ السيئةَ التي يَسخط الله عليه بها، وقد قال الحسن البصرِيُّ: مَن تُقبِّلت منه حسنةٌ واحدةٌ دخل الجنَّةَ.
          فَصْلٌ: وقوله: (أَصْدَقُ بَيْتٍ..) إلى آخره، رُوِّينا مِن طريق ابن إسحاقَ، عن صالحِ بن إبراهيمَ بن عبد الرَّحمن بن عوفٍ عمَّن حدَّثه عن عثمانَ ☺ قال: لَمَّا رأى عثمانُ بن مَظْعُونٍ ما فيه الصَّحابةُ مِن البلاء وهو يغدو ويروحُ في أمانٍ مِن الوليدِ بن المغيرة ردَّ عليه جِوَاره، ثمَّ انصرفَ ولَبِيدُ بن ربيعةَ بن مالكِ بن كِلَابٍ في مجلسٍ مِن مجالس قُرَيشٍ وهو يُنشدهم، فجلس عثمانُ معهم فقال لبيدٌ:
أَلَا كُلُّ شَيءٍ مَا خَلَا اللهَ بَاطِلُ
          فقال عُثْمَانُ: صَدَقتَ، فقال لَبِيدٌ:
وكلُّ نَعِيمٍ لَا مَحَالَةَ زَائِلُ
          فقال عُثمانُ: كَذَبتَ؛ نعيمُ الجنَّةِ لا يَزولُ، فقال لَبِيدٌ: يا مَعْشرَ قُرَيشٍ واللهِ ما كان يُؤتى جَلِيسُكُم، فمتى حَدَثَ هذا فيكم؟ فقال رجلٌ مِن القوم: هذا سفيهٌ مِن سفهائنا فلا تجدنَّ في نفسِكَ مِن قوله، فردَّ عليه عثمان حتَّى شَرَى أمرَهُما، فقام ذلك الرَّجُلُ فَلَطَم عَيْنَهُ.
          ورُوِّينا في «الشعراء» تأليف أبي زُرعةَ أحمدَ بن الحسين الرَّازيِّ، عن أبي بكرٍ يُوسُفَ بن يعقوب بن إسحاقَ بن بُهْلُولٍ الأَزْرَقِ، حدَّثنا جدِّي عن أبيه، عن أبي شيبة، عن هِشَامِ بن عُرْوةَ عن أبيه، عن عائِشَةَ ♦ قالت: قال رسول الله صلعم: ((إنَّ مِن الشِّعر حُكْمًا، وأصدقُ بيتٍ تكلَّمت به العرب:
أَلَا كُلُّ شَيءٍ مَا خَلَا اللهَ بَاطِلُ))
          قال ابن بطَّالٍ: والمراد بقوله: (أَلاَ كُلُّ شَيْءٍ...) إلى آخره الخصوص؛ لأنَّ كلَّ ما قرَّب مِن الله تعالى فليس بباطلٍ، وإنَّما أراد أنَّ كلَّ شيءٍ ما خَلَا اللهَ باطلٌ مِن أمر الدُّنيا التي لا تؤولُ إلى طاعة الله ولا تقرِّبُ منه تعالى فهي باطِلٌ.
          وكذا قال الدَّاوديُّ: إنْ أراد به ما عَدَا الأنبياءَ والرُّسلَ والملائكةَ والكتبَ والبعثَ حقٌّ، وأراد ما خلا اللهَ: ما لم يكن لله، قال: وقوله: (بَيْت) وفي رواية ((كلمة)) فإن أراد بالبيت كلمةً فهي كلمةٌ وإن أراد به الشَّطر؛ فلأنَّ بعضَهُ يدلُّ على بعضٍ، والزيادة مقبولةٌ والذي في اللَّغة أنَّه الكلمةَ بطولها.