التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب قول النبي: لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلًا ولبكيتم كثيرا

          ░27▒ بابُ قَوْلِ النَّبيِّ صلعم: (لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ لَضَحِكْتُمْ قَلِيلًا وَلبَكَيْتُمْ كَثِيرًا).
          6485- ذكره من طريق أبي هُرَيْرَةَ وأنسٍ ☻.
          وروى سُنيدٌ، عن هُشَيمٍ، عن كَوْثرِ بن حَكِيمٍ، عن نافعٍ، عن ابن عُمَرَ ☻: خرج رسول الله صلعم إلى المسجد، فإذا قومٌ يتحدَّثُون ويَضْحَكُونَ، فقال: ((أَكْثِرُوا ذِكْرَ المَوْتِ، أَمَا وَالَّذِيْ نَفْسِيْ بِيَدِهِ لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ لَضَحِكْتُمْ قَلِيلًا وَلَبَكَيْتُمْ كَثِيرًا)).
          وخشيةُ الله تعالى إنَّما تكون على مِقْدار العِلْم، كما قال تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:28] ولَمَّا لم يعلم أحدٌ كعلمه صلعم لم يخشَ كخشيتِهِ، فمَن نوَّر الله قلبه وكشف الغطاء عن بصيرته، وعلم بحبِّ ما هو لله تعالى مِن النعم، وما تجبُ عليه مِن الطاعة والشكر وادَّكر لِما يستقبل مِن أهوال يوم القيامة، وما يلقى العِبادُ في تلك المواقف مِن الشدائد، وما يعاينوه مِن مساءلة الله عبادَهُ عن مثاقيل الذرِّ وعن النَّقِير والقِطْميرِ، كان حقيقًا بطول الحزن وكثرة البكاء، ولهذا قال أبو ذرٍّ ☺: لو تعلمون العِلم لَمَا ساغَ لكم طَعَامٌ ولا شرابٌ، ولا نَمْتِم على الفُرُشِ، ولا أَحْبَبتُم النِّساء، ولخرجتم إلى الصُّعُداتِ تَجْأَرُون وتَبْكُونَ.
          وقال عبدُ الله بن عَمْرٍو: ابكوا، فإن لم تجدوا بكاءً فَتَباكُوا، فلو تعلمون العِلمَ لصلَّى أحدكم حتَّى ينكسِرَ ظهرُهُ، ولبكى حتَّى ينقَطِعَ صوتُهُ.
          وقال الفُضَيلُ: بلغني عن طَلْحةَ أنَّه ضَحِك يومًا فوثَبَ على نفسه فقال: فيمَ تضحكُ؟ إنَّما يَضْحَكُ مَن قطع الصِّراط، ثمَّ قال: آليتُ على نفسي أن لا أكون ضاحكًا حتَّى أعلمَ متى تقعُ الواقعةُ، فلم يُرَ ضاحكًا حتَّى صار إلى الله.
          وقال الحسن: يحقُّ لمن عرف أنَّ الموتَ مَوْرِدُهُ، والقيامةَ مَوْعِدُهُ، وأنَّ الوقوف بين يدي الله تعالى مشهدُهُ، أن يطولَ في الدُّنيا حزنُهُ، وقال سُفْيَانُ: في قوله تعالى: {وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} [الأنبياء:9] قال: الحزن الدائم في القلب، وقال: إنَّما الحزنُ على قَدْر البصر، وقال بعضهم: الحزنُ والخشيةُ مِن مواريث القلوب التي يُنال بها ما قِبَلَها مِن الأعمال، فمن رامَ أن يقيم فرضهُ تامًّا فيصلِّي لله بكمال الصَّلاة، ويصوم بكمال الصيام، ويؤدِّي كذلك سائر الفرائض، ويقوم بالحقِّ على نفسه وأهله ومَن يسأل عنه في مخالطته ومداخلته، ويُقيم ما أُمر به في لسانه وسمعه وبصره وجميع جوارحه حتَّى يدخل في قوله تعالى: {الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} [فصلت:30] وجَدَ نفسه عن ذلك عاجزًا مقصِّرًا، وإذا رأى ذلك بعينٍ جليَّةٍ وعَلِم قُربَ أجلِهِ وعِظَم خَطِيئته، وأنَّ الوقوف بين يدي الله تعالى مِن ورائه، حَزِنَ على نفسه بتخلُّفه عن السَّابقة التي يسمعها لغيره، ووجبَ عليه الجدُّ في أمره واستجلابُ معونة الله بالاعتصام به. قال تعالى: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} [الأنبياء:9].
          وقال مُطَرِّفُ بن عبدِ اللهِ: دَعْ أَعْمالَ الشرِّ، فإنَّ في الخير شرًّا كثيرًا، فلو لم يكن لنا ذنوبٌ إلَّا أنَّ الله تعالى يُؤاخذنا بصحَّة أعمالنا وإتقانها وإحكامها وإصلاحها وصوابها لكان في هذا شغلٌ كثيرٌ لمن يَعْقِل. وقد سلف في كتاب: الإيمان، في باب: خوف المؤمن أن يحبط عملَهُ ولا يشعر ما يشبه هذا المعنى [خ¦48].