التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب ما يتقى من فتنة المال

          ░10▒ بابُ مَا يُتَّقَى مِن فِتْنَةِ المَالِ، وَقَوْلِ اللهِ ╡: {أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ} [الأنفال:15]
          ذكر فيه أحاديث:
          6435- أحدها: حديث أبي بكرٍ، عن أبي حُصَينٍ، عن أبي صالحٍ، عن أبي هُرَيْرَةَ ☺ قال: قال رسول الله صلعم: (تَعِسَ عَبْدُ الدِّينَارِ...) الحديثَ. وسلف في الجهاد في باب: الحراسة في الغزو في سبيل الله [خ¦2886].
          و (أبو بكر) هذا هو: ابن عيَّاشِ بن سالمٍ الأسديُّ الحنَّاطُ أحدُ الأعلام، مولى وَاصِلِ بن حيَّانَ، الأحدبُ الأسديُّ الكوفيُّ، انفرد به البخاريُّ، وروى له الأربعةُ، مات سنة ثلاثٍ وتسعين ومئةٍ، ومات عن ستٍّ وتسعين. قال أحمد: ربَّما غلط. وقال أبو حاتمٍ: هو وشَرِيكٌ في الحفظ سواءٌ.
          6436- ثانيها: حديث ابن عبَّاسٍ ☻ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلعم يَقُولُ: (لَوْ كَانَ لِابْنِ آدَمَ وَادِيَانِ مِنْ مَالٍ لاَبْتَغَى ثَالِثًا، وَلاَ يَمْلَأُ جَوْفَ ابْنِ آدَمَ إِلَّا التُّرَابُ، وَيَتُوبُ اللهُ عَلَى مَنْ تَابَ).
          6437- وفي روايةٍ: ((لو كان لابن آدمَ مثلُ وادٍ مالًا لأحبَّ أنَّ له إليه مِثْلَهُ..)).
          قال ابن عبَّاسٍ: فما أَدْرِي مِن القُرْآنِ هُوَ أَمْ لَا؟ وسمعتُ ابن الزُّبير يقولُ ذلك على المنبر.
          6438- ثمَّ ساقه إلى عبَّاسِ بن سهلِ بن سعدٍ قالَ: سَمِعْتُ ابْنَ الزُّبَيْرِ، عَلَى مِنْبَرِ بِمَكَّةَ فِي خُطْبَتِهِ، يَقُولُ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ رسول الله صلعم كَانَ يَقُولُ: (لَوْ أَنَّ ابْنَ آدَمَ أُعْطِيَ وَادِيًا مَلآنَ مِنْ ذَهَبٍ أَحَبَّ إِلَيْهِ ثَانِيًا، وَلَوْ أُعْطِيَ ثَانِيًا أَحَبَّ إِلَيْهِ ثَالِثًا، وَلاَ يَسُدُّ جَوْفَ ابْنِ آدَمَ إِلَّا التُّرَابُ، وَيَتُوبُ اللهُ عَلَى مَنْ تَابَ).
          6439- رابعها: حديث أنسٍ ☺ أنَّه صلعم قال: (لَوْ أَنَّ لِابْنِ آدَمَ وَادِيًا مِنْ ذَهَبٍ أَحَبَّ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَادِيَانِ، وَلَنْ يَمْلَأَ فَاهُ إِلَّا التُّرَابُ، وَيَتُوبُ اللهُ عَلَى مَنْ تَابَ).
          6440- وقال لنا أبو الوليد: حدَّثنا حمَّادُ بن سَلَمَةَ، عن ثابتٍ، عن أنسٍ ☺، عن أُبيٍّ ☺ قال: كنَّا نُرَى هذا مِنَ القُرآن حَتَّى نَزلَت: {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ} [التكاثر:1].
          وهذا مِن أفرادِهِ.
          الشَّرح: (تَعِسَ): رُوِّيناه بكسر العين، وفي «الصِّحاح»: تَعَس بالفتح يَتْعَسُ وأَتْعَسَهُ الله، قال: والتَّعْسُ: الهلاك، وأصله: الكبُّ، وهو ضدُّ الانتعاش. وقيل: التَّعْسُ: أن يخرَّ على وجهه. ففيه ذَمٌّ مَن فتنة متاع الدنيا الفاني.
          وقوله: (إِنْ أُعْطِيَ رَضِيَ) أي: إن أعطاه المتولِّي.
          وقوله: (مَلْآنُ) كذا هو في الأصول، وذكره ابن التِّين بلفظ: <مَلْأً> ثم قال: كذا وقع، وصوابه: (مَلآن). قال في «الصِّحاح»: يُقال: دلوٌ مَلأى ماءً على فَعلى، وكوزٌ: ملآنٌ ماءً، والعامَّةُ تقول: مَلي ماءً.
          و(حمَّادُ بن سَلَمَةَ) أثبتُ النَّاس في ثابتٍ، والبخاريُّ لا يأتي به إلَّا في الشواهد. قال أبو جعفرٍ: وإنَّما أُتي به في غير حديث ثابتٍ مِن قِبَل ربيبهِ عبدِ الكريمِ بن أبي العَوْجَاءِ _كان متَّهمًا بالزندقة_ ويُقال: إنَّه كان يدسُّ في كتاب حمَّادِ بن سَلَمَةَ، وهو مِن رجالِ مسلمٍ والأربعة وكان أحد الأعلام.
          قال ابن مَعِينٍ: إذا رأيتَ مَن يقعُ فيه فاتَّهمه على الإسلام. وقال عَمْرو بن عاصم:ٍ كَتَبَ عن حمَّاد بن سَلَمَة بِضْعةَ عشر ألفًا، مات سنة سبعٍ وستِّين ومئة، وكذا قال خلف الواسطيُّ: ليس للبخاريِّ عن ابن سَلَمَة محتجًّا به غيره، إنما يقول: قال حمَّادٌ: استشهادًا.
          وقال الإسماعيليُّ: أخبرنيه ابن نَاجِيةَ على شكٍّ فيه: حدَّثنا عليُّ بن مسلمٍ، حدَّثنا عفَّانُ، قال: وحدَّثنا زُهير بن محمَّدٍ، حدَّثنا أحمدُ بن إسحاقَ الحَضْرَميِّ، أخبرنا حمَّاد بن سَلَمَة، فذكره.
          فَصْلٌ: معنى الحديث موجودٌ في قوله تعالى: {وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ} [العاديات:8].
          ومعنى الفتنة في كلام العرب: الاختبارُ والابتلاءُ، ومنه قوله تعالى: {وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا} [طه:40] أي: اختبرناك. والفتنةُ: الإمالةُ عن القصد، ومنه قوله تعالى: {وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ} [الإسراء:73] أي: لَيُمِيلونك. والفتنة أيضًا: الإحراق مِن قوله تعالى: {يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّار يُفْتَنُونَ} [الذاريات:13] أي: يُحرقون، هذا قول ابن الأنباريِّ.
          والاختبار والابتلاء يجمع ذلك كلَّه، وقد أخبر الله تعالى عن الأموال والأولاد أنَّها فتنةٌ، وقال تعالى: {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ} [التكاثر:1] وخرَجَ لفظ الخطَّاب بذلك على العموم: لأنَّ الله تعالى فطَرَ العباد على حبِّ المال والولد، أَلَا ترى قوله صلعم في الواديين؟! فأخبر عن حرص العباد على الزيادة في المال، وأنَّهُ لا غاية له يقنع بها ويقتصرُ عليها، ثمَّ أتبع ذلك بقوله: (وَلاَ يَمْلَأُ جَوْفَ ابْنِ آدَمَ إِلَّا التُّرَابُ) يعني: إذا مات وصار في قبره ملأ جوفَهُ الترابُ وأغناه بذلك عن ترابِ غيره حتَّى يصير رميمًا.
          وأشار صلعم بهذا المثل إلى ذمِّ الحرص على الدُّنيا والشَّرهِ على الازدياد منها ولذلك آثر أكثر السلف التقلُّلَ من الدنيا والقناعةَ بالكفاف؛ فرارًا مِن التعرُّض لِمَا لا يُعلم كيف النَّجاةُ مِن شرِّ فتنتِهِ، واستعاذ صلعم مِن شرِّ فتنة الغنى، وقد عَلِم كلُّ مؤمنٍ أنَّ الله قد أعاذَهُ مِن شرِّ كلِّ فتنةٍ، وإنَّما دعاؤه بذلك تواضعًا لله، وتعليمًا لأمَّته، وحضًّا لهم على إيثار الزهد في الدنيا.