التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب: يقبض الله الأرض

          ░44▒ بَابٌ يَقْبِضُ اللهُ الأَرْضَ.
          رَوَاهُ نَافِعٌ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ ☻، عَنِ النَّبِيِّ صلعم.
          هذَا التَّعليقُ أخرجه مُسلمٌ في «صحيحِه» بلفظِ: ((يَطْوِي اللهُ السَّمَوَاتِ يَوْمَ القِيَامَةِ، ثُمَّ يَأْخُذُهُنَّ بِيَدِهِ ثُمَّ يَقُولُ: أَنَا الْمَلِكُ، أَيْنَ الْجَبَّارُونَ؟ أَيْنَ الْمُتَكَبِّرُونَ؟)).
          وفي حَدِيْثِ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ مِقْسَمٍ: أَنَّهُ نَظَرَ إِلَى عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ يَحْكِي رَسُولَ اللهِ صلعم قَالَ: ((يَأْخُذُ سَمَاوَاتِهِ وَأَرَضِيهِ بِيَدَيْهِ، فَيَقُولُ: أَنَا اللهُ، وَيَقْبِضُ أَصَابِعَهُ وَيَبْسُطُهَا فيقولُ: أَنَا المَلِكُ)) حَتَّى نَظَرْتُ إِلَى الْمِنْبَرِ يَتَحَرَّكُ مِنْ أَسْفَلَ، حَتَّى أَقُولُ: أَسَاقِطٌ هُوَ بِرَسُولِ اللهِ صلعم؟
          6519- ثمَّ ساق البُخَارِيُّ حديثَ أَبِي هُرَيرَةَ ☺، عَنْ رَسُولِ اللهِ صلعم قَالَ: (يَقْبِضُ اللهُ الأَرْضَ، وَيَطْوِي السَّمَاءَ بِيَمِينِهِ، ثُمَّ يَقُولُ: أَنَا المَلِكُ، أَيْنَ مُلُوكُ الأَرْضِ؟).
          وَحَدِيْثَ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ ☺ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلعم: (تَكُونُ الْأَرْضُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ خُبْزَةً وَاحِدَةً، يَتَكَفَّؤُهَا الْجَبَّارُ بِيَدِهِ) الحَدِيثَ.
          وَحَديثَ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ ☺: (يُحْشَرُ النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى أَرْضٍ بَيْضَاءَ عَفْرَاءَ كَقُرْصَةِ نَقِيٍّ). قَالَ سَهْلٌ أَوْ غَيْرُهُ: لَيْسَ فِيهَا مَعْلَمٌ لِأَحَدٍ.
          الشَّرح: معنى (يَقْبِضُ) يَجمَعُ، والخُبْزَةُ الطُّلْمَةُ، وهي عَجِينٌ يُوضَعُ في الحُفْرَةِ بَعْدَ إيقادِ النَّارِ فيها. قال الْجَوْهَرِيُّ: والنَّاسُ يُسمُّونَ الخُبْزَةَ المَلَّةَ، وإنَّما المَلَّةُ الحُفرةُ نفْسُها، والَّتي تُمَلُّ فيها هي الطُّلْمَةُ والخُبْزَةُ والمَلِيلُ.
          وقَوْلُهُ: (كَمَا يَكْفَأُ أَحَدُكُمْ خُبْزَتَهُ فِي السَّفَرِ) يريدُ خُبْزَةَ الملَّةِ الَّتِي يصنعُها في السَّفَرِ فإنَّها لا تُدْحَى كالرُّقَاقَةِ، وإنَّما تُقلَبُ عَلَى الأيدي حَتَّى تستويَ، قَالَ ابنُ التِّين: كذا فسَّره الخَطَابِيُّ، وروِّينا <السُّفَرَ> بضمِّ السِّين عَلَى أنَّه جمعُ سُفْرةٍ، قَالَ الجَوهَرِيُّ: السُّفْرةُ بالضِّمِّ طعامٌ يتَّخِذُه المسافرُ، وَمِنْهُ سُمِّيت السُّفْرَةُ.
          وقَوْلُهُ: (يَتَكَفَّؤُهَا) أي يَقْلِبُهَا ويُمِيلُهَا مِن كَفَأتُ الإناءَ قَلَبْتُهُ، ويُقَالُ أَيضًا: أَكْفَأْتُ الإناءَ مِثْلُ كَفأتُه، وقَالَ الدَّاودِيُّ: يُصْلِحُها بِقُوَّتِهِ، لا يوصَفُ تَعَالَى بمماسَّةٍ.
          وقَوْلُهُ: (نُزُلًا لِأَهْلِ الجنَّةِ) النُّزُلُ مَا يُعدُّ للضَّيفِ مِن الطَّعامِ والشَّرابِ، يُقَالُ: نُزْلٌ ونُزُلٌ بِسُكونِ الزَّاي وضمِّها وقد قُرِئَ بهما، وخطٌّ نَزِيلٌ مُجْتَمِعٌ، وقيل النُّزُلُ الثَّواب، وقيل الرِّزقُ، وقيل في قَوْلِه تَعَالَى: {أَذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا} [الصافات:62] أنَّه الرَّيْعُ والفَضْلُ، يُقَالُ: أقمتُ للقوم نُزُلَهم أَيْ مَا يَصْلُحُ أَنْ ينزِلوا عليه مِن الغَدَاء.
          وقال الأَخْفَشُ في قَوْلِهِ تَعَالَى: {جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا} [الكهف:107] هُوَ مِن نزولِ النَّاسِ بعضِهم عَلَى بعضٍ، يُقَالُ: مَا وجدْنا عندكم نُزُلًا، وقيل: النُّزُلُ مَا يُقام للضَّيفِ وأهلِ العَسْكرِ. قَالَ الدَّاودِيُّ: ومعنى ذَلِكَ إنَّما يأكُلُ منها في المحشَرِ مَن يصيرُ إِلَى الجنَّةِ لِثوابِهم يأكلون منها فيها.
          وقَوْلُهُ: (فَضَحِكَ حَتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ) قال الأَصْمَعِيُّ: هي الأضْراسُ، وقال غيرُه: هِي المضاحِكُ، وقال أبو العبَّاس: هي الأنْيابُ لأنَّ ضَحِكَه ◙ كَانَ تبسُّمًا، وقال ابنُ فارسٍ: النَّاجِذُ السِّنُّ بين النَّابِ والضِّرسِ، وقاله الدَّاودِيُّ. وفي «الصِّحاح» وغيرِه أنَّه أحدُ الأضْراسِ، وللإنسانِ أربعةُ نَوَاجِذٍ في أقصى الأسْنانِ بعدَ الأَرْحَاءِ، يُقَالُ: ضَحِكَ حَتَّى بدتْ نَوَاجِذُهُ: إِذَا أَسْفَرَتْ منهُ.
          وقَوْلُهُ: (أَلاَ أُخْبِرُكَ بِإِدَامِهِمْ؟) الإدامُ مَا يُؤتدَمُ به، يُقَالُ: أَدَمَ الخبزَ باللَّحمِ يَأْدِمُهُ بالكسرِ.
          وقَوْلُهُ: (إِدَامُهِمْ بَالَامٌ وَالنُّونُ) قَال الخَطَّابِيُّ: كذا رُوُّوه لنا، يريدُ بالباءِ المعجَمَةِ بواحدةٍ. وكذا رُوِّيناهُ. قال: وتأمَّلْتُ النُّسَخَ المسموعةَ مِن أبي عَبْدِ الله مِن طريقِ حمَّادِ بن شاكرٍ وإِبْرَاهِيمَ بْنِ مَعْقِلٍ والْفَرَبْرِيِّ فاتَّفَقَتْ عَلَى نحوٍ واحدٍ: (بَالَامٌ وَالنُّونُ) فأمَّا (النُّونُ) فالحوتُ، وأمَّا (بَالَامٌ) فشيءٌ مُبهَمٌ، وقد دلَّ الجوابُ مِن اليَهُودِيِّ عَلَى أنَّه اسمُ الثَّورِ، وهو مَا لم يَنتظِمُ، لَمْ يَصِحَّ أَنْ يكونَ عَلَى التَّفْرِقَةِ اسمًا لشيءٍ، فيُشبِهُ أن يكونَ اليَهُودِيُّ أرادَ أَنْ يعمِّيَ الاسمَ بِقَطْعِ الهِجَاءَ وقدَّمَ أحدَ الحرفين فقال: يَالَامٌ، وإنَّما هُوَ في حقِّ التَّرتيبِ لَامُ أِلِفٍ وياءُ هِجَاءٍ: لَأَى عَلَى وزن لَعَاَ أَيْ ثَوْرٌ، ويُقال للثَّورِ الوَحْشِيِّ: لَأَى وجمعُه ألْآء، فصحَّفَ فِيْهِ الرُّواةُ فقالوا: (بَالَامٌ)، وإنَّما هُوَ يَالَام؛ فكتبوهُ بالهِجَاءِ المضاعفِ فأَشكَلَ واستَبهَمَ كما ترى، وهَذَا أقرب مَا يقعُ لي فِيْهِ، إلَّا أَنْ يكون ذَلِكَ بغيرِ لسانِ العربِ، فإنَّ المخبرَ به يَهُودِيٌّ فلا يَبْعُدُ أَنْ يكونَ إنَّما عبَّر عَنْهُ بلسانِه، ويكونُ ذَلِكَ في لسانِهم يَلَأ، وأكثرُ العِبرانيَّةِ _فيما يقولُه أهلُ المعرفة بها_ مقلوبٌ عَلَى لسانِ العربِ بتقديمِ الحروفِ وتأخيرِها، وقد قيل: إنَّ العِبران هُوَ العربَان، فقدَّموا الباءَ وأخَّرُوا الرَّاء.
          وقَوْلُهُ: (يَأْكُلُ مِنْ زَائِدَةِ كَبِدِهِمَا سَبْعُونَ أَلْفًا) زائدةُ الكَبِدِ هِي القِطْعَةُ الصَّغيرةُ كالإصبعِ الَّتِي تكونُ في طرَفِ الكَبِدِ. قَالَ الدَّاودِيُّ: يعني أَنَّ ذَلِكَ أوَّلُ مَا يأكلُ / أَهْلُ الجنَّة، يَلعبُ الثَّورُ وَالحوتُ بين أيديهِم فيُذَكِّي الثَّورُ الحوتَ بِقَرْنِهِ فيأكلون منه، ثمَّ يعيدُه الله تَعَالَى فيلعبانِ فيذكِّي الحوتُ الثَّورَ بذَنَبِهِ فيأكلون منه، ثمَّ كذلك مَا شاء الله. وفيه ترشيحٌ لحديثِ: ((سيِّدُ إِدَامِ الدُّنيا والآخرةِ اللَّحْمُ)) وقال كَعْبٌ فيما ذكرَهُ ابنُ المبارَكِ: إنَّ الله يقول لأهلِ الجنَّةِ إِذَا دَخَلُوها: إنَّ لكلِّ ضيفٍ جَزُورًا وإنِّي أُجْزِرُكُم اليومَ حوتًا وثَورًا فَيُجْزَرُ لِأهلِ الجنَّةِ.
          فَصْلٌ: وقَوْلُهُ: (عَفْرَاءَ كَقُرْصَةِ نَقِيٍّ) قَالَ الدَّاودِيُّ: (عَفْرَاءَ) يعني شِدَّةَ البياض، وكذا قال ابنُ فارسٍ: شاةٌ عَفْرَاءُ أَيْ خالصةُ البياض، وقال الخطَّابِيُّ: العُفْرَةُ البياضُ ليس بالنَّاصع، وقال الْجَوْهَرِيُّ نحوَه، قَالَ: وشاةٌ عَفْرَاءُ يعلو بياضَها حُمْرةٌ. والقُرْصَةُ والقُرصُ مِن الخبزِ. والنَّقِيُّ الحُوَّارِيُّ، يعني مِن القشِّ والنُّخَالةِ
          وقَوْلُهُ: (لَيْسَ فِيهَا مَعْلَمٌ لِأَحَدٍ) يريدُ أَنَّ الأَرْضَ مستويةٌ ليس فيها مَا يسترُ البَصرَ. وقَالَ الدَّاودِيُّ: أَيْ لا يَحُوزُ أحدٌ منها شيئًا يكون له دون غيرِه، إنَّما لكلِّ واحدٍ منهم مَا أدركَ. وقَالَ الجَوهَرِيُّ: المعْلَمُ الأثَرُ الَّذي يُستدلُّ به عَلَى الطَّريق، أَيْ كلُّها سواءٌ.
          فَصْلٌ: أحاديثُ البابِ دالَّةٌ عَلَى أَنَّ الرَّبَّ جلَّ جلالُه يُفني جميعَ خلقِه أجمعَ، كما سلفَ في حَدِيْثِ أَبِي هُرَيْرَةَ وغيرِه، وقيل: إنَّ المنادي يُنادي بعد حَشْرِ الخَلْقِ عَلَى أرضٍ بيضاءَ مثلِ الفضَّةِ لم يُعصَ الله عليها: لمن المُلكُ اليومَ؟ فيجيبُه العِبَادُ: لله الواحدِ القهَّارِ. رواه أبو وائلٍ عن ابْنِ مَسْعُودٍ ☺.
          قال الْقُرْطُبِيُّ: وليس هُوَ ممَّا يُؤخَذُ بالقياسِ ولا بالتَّأويلِ، والقولُ الأوَّلُ أظهرُ لأنَّ المقصودَ إظهارُ انفرادِه تَعَالَى بالمُلك عند انقطاعِ دعاوَى المدَّعين وانتسابِ المنتسبين، إذْ قد ذهبَ كلُّ مَلِكٍ ومُلْكُه وكلُّ جبَّارٍ ومتكبِّر وانقطعتْ نِسْبَتُهم ودعاويهم، وهَذَا ظاهرٌ، وهو قولُ الحَسَنِ ومحمَّدِ بن كَعْبٍ، وهو معنى قَوْلِه: (أَنَا المَلِكُ أَيْنَ مُلُوكُ الأَرْضِ) وعندَ قَوْلِه: {لِمَنِ المُلْكُ اليَوْمَ} [غافر:16] وهُوَ انقطاعُ زمنِ الدُّنيا، وبعدَهُ يكونُ البعثُ والنُّشورُ والحشرُ.
          فَصْلٌ: فإنْ قلتَ: فما تأويل اليَدِ عندَكم؟ وحقيقتُها في الجارحةِ المعلومةِ عندَنا، وتلك الَّتِي يكونُ القبضُ والطَّيُّ بها. فالجواب: أَنَّ لفظَ الشِّمالِ أشدُّ إشكالًا، وذلك في الإطلاقِ عَلَى الله مُحَالٌ.
          ثمَّ اعلمْ أَنَّ لليدِ في كلامِ العربِ معانٍ خمسةٌ: القوَّةُ وَمِنْهُ: {ذَا الْأَيْدِ} [ص:17] والمُلْكُ وَمِنْهُ: {قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللهِ} [آل عمران:73] والنِّعمةُ، تقول: كم يدٍ لي عندَ فلانٍ، أَيْ كم مِن نعمةٍ أسديتُها إليه. والصِّلَةُ وَمِنْهُ: {مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا} [يس:71] أَيْ ممَّا عملْنَا نحنُ، وقال تَعَالَى: {أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} [البقرة:237] أَيْ له النِّكاح. والجارِحَةُ وَمِنْهُ: {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا} [ص:44].
          قلتُ: ولليدِ معانٍ أُخَرُ: الذُّلُّ وَمِنْهُ: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ} [التوبة:29] قال الْهَرَوِيُّ: أي عن ذُلٍّ واعترافٍ أَنَّ دينَ الله عالٍ عَلَى دينِهم، وقَوْلُهُ: {يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} [الفتح:10] قيل في الوفاءِ، وقيل في الثَّواب. وفي الحَدِيْثِ: ((هذه يَدِي لك)) أي استسلمتُ وانقدتُ لك، وقد يُقَالُ ذَلِكَ للغائبِ. واليدُ الاستسلامُ، قال الشَّاعر:
أَطَاعَ يَدًا بالقَوْلِ فَهُوَ ذَلُوْلُ
          أَي انقادَ واستسلمَ. واليدُ القُدرةُ وَمِنْهُ الآيةُ السَّالفةُ، والسُّلطانُ، والسَّخاءُ، والحِفْظُ، والوقايةُ وَمِنْهُ الحَدِيْثُ: ((يدُ اللهِ عَلَى الفُسطاطِ)) والطَّاعةُ، والطَّاقةُ، والجماعةُ، والأكلُ، والنَّدمُ، وفي الحَدِيْثِ: ((أَخَذَ بِهم يَدَ البحرِ)) يريد طَرَفَ السَّاحلِ، ويُقالُ للقومِ إِذَا تفرَّقوا وتمزَّقوا في الآفاقِ: صاروا أَيْدِي سَبَأ.
          وفي «المحكم»: يدُ القوسِ أعلاها، وقال أبو حنيفة: السِّيَةُ اليمنَى، يرويهِ عن أبي زِيَادٍ الكِلَابيِّ، ويدُ السَّيفِ مِقْبَضُهُ، ويدُ الرَّحَى العُودُ الَّذِي يَقْبِضُ عليه الطَّاحن، ويدُ الطَّائرِ جناحُهُ، وقالوا: لا آتيهِ يدَ الدَّهرِ أَي الدَّهرَ، هَذَا قولُ أبي عُبَيدٍ. وقال ابنُ الأعرابيِّ: معناه لا آتيهِ الدَّهرَ كلَّه، ولِقِيتُه أوَّل ذاتِ يَدَيَّ أَيْ أوَّلَ شيءٍ، وحَكَى اللِّحْيَانِيُّ: أمَّا أوَّلُ ذاتِ يَدَيَّ فإنِّي أحمدُ اللهَ.
          وفي «المغيث»: وفي الحَدِيْثِ: اجعلِ الفُسَّاق يدًا يدًا ورِجْلًا رِجْلًا. أَي فَرِّقْ بينهما في الهجرةِ. وابتعتُ الغَنَمَ باليدينِ، أَي بثمنين مختلفَينِ بعضُها بثمَنٍ وبعضُها بِثَمَنٍ آخرَ، ويدُ الثَّوبِ: مَا فَضَلَ مِنه إِذَا تغطَّيتَ به والتحفتَ. وعندَ القزَّاز: وأعطاهُ عن ظَهْر يدٍ، أي ابتداءً لا عن بيعٍ ولا عَن مكافأةٍ. ويَدُ الشَّيءِ أمامَهُ، ويُقال لمن أتى شيئًا: قد ألقى يدَه في كذا، وهَذَا عيشٌ يدِيٌّ أَي واسعٌ. وفي «المُغرِبِ»: بايعتُه يدًا بيدٍ أَيْ بالنَّقدِ.
          فهذه معانٍ شتَّى لها، واليدُ هنا القُدرةُ وإحاطتُه بجميعِ مخلوقاتِه، يُقال: مَا فلانٌ إلَّا في قبضتِي بمعنى قُدرتِي، والنَّاسُ يقولون: الأشياءُ في قبضةِ الله، يريدونَ في مُلكِه وقُدرتِه.
          فَصْلٌ: قد سلفَ معنى القبضِ أنَّه الجمعُ وكَذا الطَّيُّ، وقد يكون معناها إفناءُ الشَّيء وإذهابُه بقولِه تَعَالَى: {وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ} [الزمر:67] يحتمل أَنْ يكون المرادُ به والأَرْض جميعًا ذاهبةٌ فانيةٌ يومَ القيامةِ. وقَوْلُهُ: {وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} [الزمر:67] ليس يريدُ به طيًّا بعلاجٍ وانتصابٍ، وإنَّما المرادُ بِذَلِكَ الذَّهابُ والفَناءُ، يُقَالُ: قد انْطوى عنَّا مَا كنَّا فِيهِ وجاءَنا غيرُه، وانطوَى عنا الدَّهرُ بمعنى المضيِّ والذَّهَابِ.
          فإنْ قلتَ: قد جاء في الحَدِيْثِ: ((يقبضُ أصابعَهُ ويَبْسُطُها)) وهذه صِفةُ الجارحةِ. فالجواب: أَنَّ هَذَا مذهبُ المجسِّمَةِ مِن اليهود والحَشويَّةِ، تَعَالَى الله عن ذَلِكَ، وإنَّما المعنى حكايةُ الصَّحابيِّ عن رَسُوْلِ الله صلعم: ((يقبِضُ أصابعَه ويبسُطُها)) وليس اليدُ في الصِّفاتِ بمعنى الجارحةِ حَتَّى يُتوَهَّمَ / بثبوتِها ثبوتُ الأصابعِ، فدلَّ عَلَى أنَّه ◙ هُوَ الَّذِي كان يقبِضُ أصابعَه ويبسُطُها.
          قال الْخَطَّابِيُّ: وذِكْرُ الأصابعِ لم يُوجَدْ في شيءٍ مِن الكتابِ والسُّنَّةِ المقطوعِ بصِحَّتها. فإنْ قلتَ: قد ورد ذِكْرُ الإصبعِ في غيرِ مَا حَدِيْثٍ كحديثِ «الصَّحيحين»: ((أنَّه ◙ أتاه رجلٌ مِن أَهْلِ الكتاب فقال: يا أبا القاسم، أَبَلَغَكَ أَنَّ الله تَعَالَى يحملُ السَّماواتِ عَلَى إصبعٍ، والأرَضينَ عَلَى إصبعٍ، والشَّجرَ عَلَى إصبعٍ، والثَّرى عَلَى إصبعٍ، والخلائقَ عَلَى إصبعٍ؟ فضحِكَ رَسُولُ الله صلعم حَتَّى بدتْ نَوَاجِذُهُ، فنزلَ: {وَمَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [الزمر:67])).
          وحَدِيْثِ «الصَّحيحين» مِن طريق عَبْدِ الله بنِ عمرٍو أنَّه سَمِعَ رَسُوْل الله صلعم يُقول: ((إنَّ قلوبَ بني آدمَ كلَّها بين إصبعين مِن أصابعِ الرَّحمن كقلبٍ واحدٍ، يُصَرِّفُها حيثُ يشاء)) ثمَّ قال ◙: ((اللَّهُمَّ مُصَرِّفَ القُلُوبِ صَرِّفْ قُلُوبَنَا عَلَى طَاعَتِكَ)) ومثلُهُ كثيرٌ.
          فالجواب: أمَّا إطلاق الجارحة هنا فمُحَالٌ تقدَّس الله عَن ذَلِكَ، وهو هنا بمعنى القُدرةِ عَلَى الشَّيء ويُسْرِ تقليبِهِ، وهو كثيرٌ في كلامِهم، فلمَّا كَانَت السَّماواتُ والأَرْضُ أعظمَ الموجوداتِ قدْرًا وأكثرَها خَلْقًا كَانَ إمساكُها بالنِّسبةِ إِلَى الله كالشَّيءِ الحقيرِ الَّذِي نجعلُه نَحنُ بين أصابعِنا ونتصرَّفُ فِيهِ كيف شئنا، فتكونُ الإشارةُ بقولِه: ((ثمَّ يقبَضُ أصابِعَهُ ويبسُطُها، ثمَّ يَهُزُّهُنَّ)) كما في بعضِ ألفاظ مُسلمٍ، أَي هذه في قُدرتِه كالحبَّةِ مثلًا في كفِّ أحدِنا الَّتِي لا يبالي بإمساكِها ولا بِهَزِّها ولا تحرُّكِها ولا القبضِ والبسْطِ عليها، ولا يجدُ في ذَلِكَ صعوبةً ولا مشقَّةً.
          وقد تكون الإصبعُ في كلامِ العربِ بمعنى النِّعمةِ، وهو المرادُ بقولِه: ((إنَّ قُلُوبَ بَنِي آدَمَ بَيْنَ إِصْبَعَينَ مِن أَصَابِعِ الرَّحْمَنِ)) أَي بين نعمتينِ مِن نِعَمِه، يُقال: لِفُلانٍ عَلَيَّ إصبعٌ، أَي أثَرٌ حَسَنٌ إِذَا أنعمَ عليه نعمةً حسنةً، وللرَّاعي عَلَى ماشيتِه إصبعٌ، أي أَثرٌ حَسَنٌ، وفيه عِدَّة أشعارٍ.
          فَصْلٌ: فإنْ قلتَ: كيف يجوزُ إطلاقُ الشِّمالِ عَلَى اللهِ تَعَالَى وذَلِكَ يقضي بالنَّقْصِ؟ فالجوابُ: أنَّه ممَّا تفرَّد به عُمَرُ بْنُ حَمْزَةَ عن سَالِمٍ، وقد رَوَى هَذَا الحَدِيثَ نَافِعٌ وابْنُ مِقْسَمٍ عن ابنِ عُمَرَ فلم يَذْكُرَا فِيهِ الشِّمالَ، ورواهُ أَيضًا أَبُو هُرَيرَةَ وغيرُه عن رَسُوْلِ الله صلعم ولم يذكُرْ واحدٌ منهم الشِّمالَ.
          وقال البَيْهَقِيُّ: رُوِيَ ذِكْرُ الشِّمالِ في حَدِيْثٍ آخرَ في غيرِ هذه القصَّةِ إلَّا أنَّه ضعيفٌ بمرَّةٍ، وكيف يصحُّ ذَلِكَ مع مَا صحَّ عَنْهُ أنَّه سمَّى كِلتا يديْهِ يمينًا، وكأنَّ مَن قال ذَلِكَ أرسله مِن لفظِه عَلَى مَا وقعَ له، أو عادةُ العرب ذِكْرُها في مقابلةِ اليمين.
          قَال الخَطَّابِيُّ: ليس فيما يُضافُ إِلَى اللهِ تَعَالَى مِن صِفةِ اليَدِ شِمالٌ لأنَّ الشِّمالَ محلُّ النَّقْصِ والضَّعفِ، وليس معنى اليدِ عندَنا الجارحةُ وإنَّما هِي صِفةٌ جَاء بِها التَّوقيفُ فَنَحن نُطْلِقُها عَلَى مَا جَاءتْ وننتهي إِلَى حيثُ ينتهِي بها الكِتابُ والسُّنَّةُ المأثورةُ الصَّحيحةُ، وهو مذهبُ أَهْلِ السُّنَّة والجماعة.
          وقد تكون اليمينُ في كلام العربِ بمعنى القُدرةِ والمُلكِ، وَمِنْهُ قوله تَعَالَى: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء:3] يريد المُلك، وقال: {لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ} [الحاقة:45] أَي بالقوَّةِ والقُدرةِ، أَي أخذْنَا قوَّتَه وقدرتَه، كَذا ذكره الفرَّاء، وأنشد فِيْهِ للشَّمَّاخِ وغيرِه، وقد تكون في كلامِهم بمعنى التَّبجيلِ والتَّعظيم، تقول: فلانٌ عندَنا باليمين، أَي بالمحلِّ الجليل، وأنشدَ عليه.
          وأمَّا قَوْلُهُ: ((كِلْتَا يَدَيْهِ يَمِيْنٌ)) فإنَّه أرادَ بِذَلِكَ التَّمامَ والكَمالَ.
          فَصْلٌ: إنْ قلتَ: أين يكون النَّاسُ عند طَيِّ الأَرْضِ؟ قلت: يكونون عَلَى الصِّراطِ كما رواه مُسلمٌ مِن حَدِيْثِ عائِشَةَ ♦. وفي رواية ثَوْبَانَ عندَه أَيضًا: ((هُم في الظُّلْمَةِ دونَ الجِسْر)) وهَذَا نصٌّ عَلَى أَنَّ الأَرْضَ والسَّماءَ تُبدَّلُ وتُزالُ ويخلُقُ الله أرضًا أُخرى يكونُ عليها النَّاسُ بعدَ كونِهم عَلَى الصِّراطِ، لا كما قال كثيرٌ مِن النَّاس: إنَّ تبديلَ الأَرْضِ عبارةٌ عَن تغييرِ صفاتِها وتَسويةِ آكَامِهَا وَنسْفِ جبالِها ومدِّ أرضِها.
          فَصْلٌ: قد سلفَ حَدِيْثُ سَهْلٍ عند البُخَاريِّ: (أَرْضٍ بَيْضَاءَ عَفْرَاءَ كَقُرْصَةِ نَقِيٍّ) وروى الْبَيْهَقِيُّ مِن حَدِيْثِ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ جَرِيرِ بْنِ أَيُّوبَ عن عَمْرو بْنِ مَيْمُونٍ سمعتُ ابْنَ مَسْعُودَ ☺ رَفَعَهُ في قولِه تَعَالَى: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ} [إبراهيم:48] قَالَ: ((أَرْضٌ بَيْضَاءَ كَأنَّهَا فِضَّةٌ، لَمْ يُسْفَكْ عَلَيهَا دَمٌ حَرَامٌ، / وَلَمْ يُعْمَلْ فِيهَا خَطِيئَةٌ)).
          قال الْبَيْهَقِيُّ: كَذا رواهُ جَرِيرُ بْنُ أَيُّوبَ وَليس بالقويِّ، وَخالفه أصحابُ أَبِي إِسْحَاقَ فرواه إسرائيلُ عَنْهُ موقوفًا عَلَى عَبْدِ الله، ورواهُ شُعْبَةُ عن أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ _قال مَرَّةً: عن عَبْدِ الله_ قال: ولم يجاوِزْ به عَمْرَو بْنَ مَيْمُونٍ، وكذا رواهُ الثَّورِيُّ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عن عَمْرٍو. ومِن حَدِيْثِ ابْنِ مَسعُودٍ وابنِ عبَّاسٍ قالا: تُبدَّل الأَرْضُ أرضًا بيضاءَ كالفضَّة، لم يُسفَك عَلَيهَا دمٌ حرامٌ، ولم يُعمَل عَلَيهَا خطيئةٌ قطُّ.
          وعن ابْنِ مَسْعُودٍ أَيضًا: تُبدَّل الأَرْضُ نارًا، والجنَّةُ مِن ورائِها تُرَى أكوابُها وكواعبُها. وقال أبو الجَلْدِ جِيْلَانُ بن فَرْوَةَ: إنِّي لأجدُ فيما أقرأُ مِن كُتُبِ الله أَنَّ الأَرْضَ تشتعلُ نارًا يومَ القيامة. وقال عليٌّ: تُبدَّلُ الأَرْضُ فِضَّةً والسَّماءُ ذهبًا. وقال أبو جعفرٍ محمَّدُ بن عليِّ بن حسينٍ: تُبدَّل خُبْزةً يأكُلُ منها الخلقُ يومَ القيامةِ، ثمَّ قرأ: {وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لَا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ} [الأنبياء:8] وقال سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ ومُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ: تُبدَّلُ خُبْزةً بيضاءَ فيأكلُ المؤمنُ مِن تحتِ قدمِهِ.
          وروى البَيْهَقِيُّ عن عِكْرَمَةَ قَالَ: تُبدَّلُ بيضاءَ مِثْلَ الخُبزةِ يأكلُ منها أَهْلُ الإسلامُ حَتَّى يَفرغوا مِن الحساب. وروى ابنُ المبارك مِن حَدِيْث شَهْرِ بنِ حَوْشَبٍ قَالَ: حَدَّثَنِي ابنُ عبَّاسٍ ☻ قَالَ: إِذَا كَانَ يومُ القيامةِ مُدَّتِ الأَرْضُ مَدَّ الأديمِ وزِيدَ في سَعَتِها كَذا وكَذا وجُمِعَ الخلائقُ في صَعيدٍ واحدٍ، ثمَّ ذَكَرَ قَبْضَ السَّماواتِ عَلَى أهلِها.
          وفي روايةِ ابنِ السَّائبِ عن أبي صالحٍ عَنْهُ، وسُئِلَ عن هذه الآيةِ فقال: يُزادُ فيها ويُنقَصُ منها، وتذهبُ آكَامُهَا وجبالُها وأوديتُها وشَجَرُها وما فيها، وتُمَدُّ مَدَّ الأديمِ العُكاظيِّ، أرضٌ بيضاءُ مِثْلُ البَيْضَةِ، لم يُسفَكْ عليها دمٌ حرامٌ، ولم يُعمَلْ عليها خطيئةٌ، والسَّماوات يَذهب شمسُها وقمرُها ونجومُها.
          وقد يُقَالُ: {السَّمَاوَاتُ} [إبراهيم:48] مُستَأنَفَةٌ لا يُبدَّل مِنها شيءٌ، ويُقال: تُبدَّل فتذهبُ وتُجعل سماءٌ أخرى غيرَها. قال اْلقُرْطُبِيُّ: وهَذَا مَرْويٌّ في «الصَّحيح» وإليه ذهب ابن بَرَّجَانَ في كتاب «الإرشاد» له، وأنَّ المؤمنَ يَطْعَمُ يومئذٍ مِن بين رجليهِ ويَشرَبُ مِن الحوض، وهذه أقوالُ الصَّحابة والتَّابعين دالَّةٌ عَلَى مَا ذكرنا، ورَوَى أَبُو هُرَيرَةَ ☺ أَنَّ رَسُوْل الله صلعم قَالَ: ((تُبدَّل الأَرْضُ غيرَ الأَرْض فيبسُطُها ويَمُدُّها مَدَّ الأديم)) ذكره الثَّعْلَبِيُّ في «تفسيره» ورُوي عن عَلِيِّ بن حُسَينٍ أنَّه قَالَ: إِذَا كَانَ يومُ القيامة مَدَّ الله الأَرْضَ مَدَّ الأديم حَتَّى لا يكونَ لأحدٍ مِن البشرِ إلَّا موضِعُ قدميْهِ، ذكَره الماوَرْدِيُّ في «تفسيره» والصَّوابُ مَا أسلفناه.
          فإنْ قلتَ: بَدَّلَ في كلامِ العربِ معناه تغيير الشَّيءِ، وَمِنْهُ: {بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا} [النساء:56] و:{فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ} [البقرة:59] ولا يقتضي هَذَا إزالةَ العين، وإنَّما معناهُ تغييرُ الصِّفَةِ، ولو كَانَ المعنى الإزالةُ لَقال: يومَ تُبْدَلُ، بالتَّخفيفِ مِن أبْدلْتُ الشَّيءَ إِذَا أزلتُ عينَه وشخصَه.
          قيل: قد قُرِئَ قولُه تَعَالَى: {أَنْ يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِنْهَا} [القلم:32] بالوجهين بمعنًى واحدٍ، وقال: {وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا} [النور:55] وقال: {فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ} [الفرقان:70] كَذا ذَكَرَهُ في «الصِّحاح»، وبدَّلَهُ اللهُ مِن الخوفِ أمْنًا، وتَبْدِيل الشَّيء أَيضًا تغييره، فقد دلَّ القرآنُ وكلامُ العربِ أَنَّ بدَّل وأَبْدَلَ بمعنًى، وقد فسَّر الشَّارعُ أَحَدَ المعنيين فتعيَّن.
          فَصْلٌ: وأمَّا تبديلُ السَّماءِ فقيل: تكويرُ شمسِها وقمرِها وتناثُرُ نجومِها، قاله ابن عبَّاسٍ، وقيل اختلافُ أحوالِها، فتارةً كالمُهْلِ وتارةً كالدِّهانِ، حكاه ابنُ الأنْبارِيِّ، وقال كَعْبٌ: تصيرُ السَّماءُ دُخانًا وتصيرُ البِحارُ نيرانًا، وقيل: تبديلُها أَنْ تُطوَى كَطَيِّ السِّجلِّ للكتاب.
          وَذَكَرَ ابنُ حَيْدَرةَ شَبِيبٌ في «إفصاحِه» أنَّه لا تعارُضَ بين هذه الآثارِ، وأنَّ الأَرْضَ والسَّماواتِ تُبدَّلُ كَرَّتينِ هذه الأولى، وأنَّه سبحانَهُ قَبْلَ نفخةِ الصَّعق يغيِّرُ صفاتِها فتنتَثِرُ أوَّلًا كواكبُها وتَنْكَسِفُ شمسُها وقَمَرُها وتصيرُ كالمُهل، ثمَّ تُكشَطُ عن رؤوسِهم، ثمَّ تُسَيَّرُ الجبالُ، ثمَّ تَمُوجُ الأَرْضُ، ثمَّ تصيرُ البِحارُ نيرانًا، ثمَّ تَنْشَقُّ الأَرْضُ مِن قُطْرٍ إِلَى قُطْرٍ فتصيرُ الهيئةُ غيرَ الهيئةِ والبِنيةُ غيرَ البِنيةِ، ثمَّ إِذَا نُفِخَ في الصُّور نفخةُ الصَّعقِ طُويتِ السَّماءُ ودُحِيَتِ الأَرْضُ وبُدِّلَتِ السَّماءُ سماءً أُخرى، وهو قَوْلُهُ: {وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا} [الزمر:69] وبُدلِّتْ الأَرْض وأُعيدتْ كما كَانَتْ فيها القبورُ والبشرُ عَلَى ظهرِها وفي بطْنِها، وتُبدَّل الأَرْضُ أيضًا تبديلًا ثانيًا، وذَلِكَ إِذَا وُقِفُوا في المحشر فتُبدَّل لهم الأَرْضُ الَّتِي يُقالُ لها: السَّاهرةُ، يُحاسَبونَ عليها، وَهي أرضٌ عَفراءُ _وهي البيضاءُ مِن فِضَّةٍ_ لم يُسفَكْ عليها دمٌ حرامٌ قطُّ ولا جرى عليها ظلمٌ قطُّ، وحينئذٍ يقوم النَّاسُ عَلَى الصِّراطِ وهو لا يَسَعُ جميعَ الخلقِ، وإنْ كَانَ قد رُوِيَ أَنَّ مسافتَه ألفُ سنةٍ صعودًا وألفُ سنةٍ هبوطًا وألفُ سنةٍ استواءً، ولكنَّ الخلْقَ أكثرُ مِن ذَلِكَ، فيقومُ مَن فَضَلَ على الصِّراطِ عَلَى متنِ جَهنَّمَ وهي كإهالةٍ، وهي الأَرْضُ الَّتِي قال عَبْدُ الله: إنَّها أرضٌ مِن نارٍ يَعرَقُ فيها البَشَرُ، فإذا حُوسِبَ النَّاسُ عليها _أعني الأَرْضَ المسمَّاةَ بالسَّاهرةِ_ وجاوَزُوا الصِّراطَ وجُعِلَ أَهْلُ الجِنانِ مِن وراءِ الصِّراط وأهلُ النِّيرانِ في النَّارِ، وقام النَّاسُ عَلَى حِيَاضِ الأنبياءِ يشربون، وبُدِّلَتِ الأَرْضُ كقُرْصَةِ النَّقِيِّ فأكلوا مِن تحتِ أرجُلِهم، وعندَ دخولِهمُ الجنَّةَ كَانَت خُبْزةً واحدةً يأكلُ منها جميعُ الخلْقِ ممَّن دخلَ الجنَّةَ وإِدَامُهُم زيادةُ كَبِدِ ثَورِ الجنَّةِ وزيادةُ كَبِدِ النُّونِ.
          وفي حَدِيْثِ ثَوْبَانَ مرفوعًا الثَّابتِ في مُسلمٍ: ((تُحْفَتُهُم يومَ يدخُلُونَ الجنَّةَ زيادةُ كَبِدِ النُّونِ))، قَالَ: مَا غِذَاؤهم عَلَى إثْرِها؟ قَالَ: ((يُنْحَرُ لهم ثورُ الجنَّة الَّذِي كَانَ يأكُلُ مِن أطرافِها)) قَالَ: فما شرابُهم عَلَى إثْرِها؟ قَالَ: ((مِن عينٍ فيها تُسمَّى سَلْسَبيلًا)) وهَذَا أَبْيَنُ مِن حَدِيْث أَبِي هُرَيرَةَ الَّذِي أخرجهُ البُخَاريُّ في الباب لأنَّ هَذَا مرفوعٌ، وذَلِكَ آخرُه مِن قولِ اليَهُودِيِّ، وهو داخلٌ في المسنَدِ لإقرارِه ◙ إيَّاه على ذَلِكَ.