التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب البكاء من خشية الله

          ░24▒ بابُ البُكَاءِ مِن خَشْيَةِ اللهِ تَعَالى.
          6479- ذكر فيه حديث أبي هُرَيْرَةَ ☺: (سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللهُ فِي ظِلِّهِ: رَجُلٌ ذَكَرَ اللهَ خَالِيًا فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ). وقد سلف [خ¦660].
          وفي الباب أحاديثُ أُخرُ منها: ما رواه أسدُ بن موسى، عن عِمْرانَ ابن يزيدَ، عن يزيدَ الرَّقَاشِيِّ، عن أنسِ بن مالكٍ مرفوعًا: ((أيُّها النَّاس، ابكُوا فإن لم تبكوا فتباكوا، فإنَّ أهل النَّار يبكون حتَّى تسيلَ دموعهم في وجوههم كأنَّها جداولُ، ثمَّ تنقطع الدموعُ وَتَسِيل الدِّماء، فَتُقَرِّحُ العيونَ، فلو أنَّ السُّفن أُجريت فيها لجَرَت)).
          وكان صلعم إذا قام إلى الصَّلاة سُمع لجوفه أزيزٌ كأزيزِ المِرْجَلِ مِن البكاء، وهذه كانت سيرة الأنبياء والصالحين، كأنَّ خوفَ الله أُشْرِبَ قلوبَهم واستولى عليهم الوَجَل حتَّى كأنَّهم عاينوا الحِسَابَ، وعن يزيدَ الرَّقَاشِيِّ قال: يا لهفاه، سبقني العابدون وقُطِع بي! نوحٌ يبكي على خطيئته، ويزيدُ لا يبكي على خطيئته، إنَّما سُمِّي نوحًا لطول ما ناحَ على نفسِهِ مِن البكاء.
          وذكر ابن المباركِ عن مجاهِدٍ قال: كان طعامَ يحيى بن زكريَّا العُشبُ، وكان يبكي مِن خشية الله ما لو / كان القارُ على عينيهِ لحرقه، ولقد كانت الدُّموع اتَّخذت في وجهه مجرى.
          وقال ابن عبَّاسٍ مرفوعًا: ((كان ممَّا ناجَى اللهُ موسى أنَّه لم يتعبَّدِ العابدون بمثل البكاء مِن خيفتي، أمَّا البكَّاؤون مِن خِيفتي فلهم الرَّفيقُ لا يُشَاركون فيه)).
          وعن وُهَيبِ بن الوردِ أنَّ زكريَّا قال ليحيى ابنه شيئًا، فقال له: يا أبَه إنَّ جبريلَ أخبرني أنَّ بين الجنَّة والنَّار مفاوزَ لا يقطعها إلَّا كلُّ بكَّاءٍ. وقال الحسن: أوحى الله إلى عيسى ◙: أَكْحِل عينيكَ بالبكاء إذا رأيت البطَّالين يَضْحَكُون. وعن وَهْبِ بن منبِّهٍ، عن رسول الله صلعم قال: ((لم يزل أخي داودُ باكيًا على خطيئته أيَّامَ حياته كلِّها، وكان يلبس الصُّوف ويفترشُ الشَّعَر ويصومُ يومًا ويفطرُ يومًا، ويأكل خبزَ الشَّعِير بالملح والرَّماد، ويمزجُ شرابه بالدموع، ولم يُر ضاحكًا بعد الخطيئة ولا شاخصًا ببصرِهِ إلى السَّماء حياءً مِن ربِّه، وهذا بعد المغفرة، وكان إذا ذَكَرَ خطيئته خرَّ مغشيًّا عليه، يضطربُ كأنَّه أُعجبَ منهُ، فقال: وهذه خطيئةٌ أخرى)).
          ورُوي عن محمَّدِ بن كعبٍ في قوله تعالى: {وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ} [ص:25] قال: الزُّلفى: أوَّل مَن يشربُ مِن الكأس يوم القيامة داودُ وابنُهُ. قال بعضهم: أرى هذه الخاصيَّةَ لشربه دموعه مِن خشية الله. وكان عثمانُ ☺ إذا وقفَ على قبرٍ بكى حتَّى يَبُلَّ لحيته، فقيل له: قد تُذْكرُ الجنَّةُ والنَّارُ ولا تبكي، وتبكي مِن هذا؟ قال: إنَّ رسول الله صلعم قال: ((إنَّ القبرَ أوَّلُ منازل الآخرة، فإن نجا منه فما بعدَهُ أيسرُ منه، وإن لم ينجُ منه فما بعدَهُ أشدُّ منه)). وقال أبو رجاءٍ: رأيتُ مجرى الدموع مِن ابن عبَّاسٍ كالشِّراك مِن البكاء.
          فَصْلٌ: ومِن أحاديث الباب قوله ◙: ((لاَ تَدْخُلُوا عَلَى هَؤُلاَءِ المُعَذَّبِينَ إِلَّا أَنْ تَكُونُوا بَاكِينَ)). يعني: أهل الحِجر. وحديث أبي هُرَيْرَةَ ☺: ((لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ لَضَحِكْتُمْ قَلِيلًا وَلبَكَيْتُمْ كَثِيرًا)). وللجُوزيِّ مِن حديث أبي ذرٍّ ☺ بزيادة: ((ولخَرَجْتُم إلى الصُّعُداتِ تَجْأَرُونَ إلى الله)). ومِن حديث يزيدَ الرَّقَاشِيِّ، عن أنسٍ ☺ مرفوعًا: ((ابكوا))، وقد سلف [خ¦6479].
          وللترْمِذيِّ مِن حديث ابن عبَّاسٍ مرفوعًا: ((عينانِ لا تمسُّهما النَّارُ: عينٌ بكت مِن خشية الله، وعينٌ حَرَسَت في سبيل الله)). ثمَّ قال: حسن غريبٌ. وبعضهم رواه عن ابن عبَّاسٍ، عن العبَّاسِ، ذكره أبو مُوسَى المَدِينيُّ. وله مِن حديث أبي هُرَيْرَةَ ☺: ((ثلاثةُ أعينٍ لا تمسُّها النَّار)) فذكرهما وزاد: ((وعينٌ فُقئت في سبيل الله)). قال المَدِينيُّ: فُقئت غريبٌ لا أعرفه إلَّا مِن هذا الوجه. وذلك نحو ما رُوي عن عثمانَ بن مَظْعُونٍ، وقَتَادَةَ بن النُّعمانِ ☻ وغيرهما، ورُوي هذا العدد أيضًا عن مُعَاوِيَة بن حَيْدَةَ وابن عبَّاسٍ وأبي رَيْحَانةَ إلَّا أنَّهم قالوا بدل فَقْءِ العين: الغضُّ عن محارم الله، وفي حديث أسامةَ بن زيدٍ مرفوعًا: ((كلُّ عينٍ باكيةٌ يومَ القيامة إلَّا أربعةَ أعينٍ: عينٌ بكت مِن خشية الله، وعينٌ عفَّت عن محارم الله، وعينٌ حَرَسَت في سبيل الله، وعينٌ باتت ساهرةً فباتت ساجدةً لله تعالى)).
          ومِن حديث أبي هُرَيْرَةَ ☺ مرفوعًا: ((لا يدخل النَّارَ عينٌ بكت مِن خشية الله حتَّى يعودَ اللَّبَنُ في الضِّرع)) قال أبو موسى: وهو على شرط التِّرْمِذيِّ والنَّسائيِّ. ومِن حديث زيدِ بن أرقمَ: ((قال رجلٌ: يا رسول الله بم أتَّقِي النَّار؟ قال: بدموع عينيك فإنَّ عينًا بكت مِن خشية الله لا تمسُّها النَّارُ أبدًا)). وقال: هذا إسنادٌ غريبٌ، ويُروى مِن حديث ابن عُمَرَ ☻ أيضًا.
          ومِن حديث ابن مسعودٍ مرفوعًا: ((ما مِن عبدٍ مؤمنٍ يخرجُ مِن عينيه دموعٌ وإن كانت مثلَ رأسِ الذُّباب مِن خشية الله لم تُصب شيئًا مِن حرِّ وجهه إلَّا حرَّمه الله على النَّار)).
          ثمَّ قال: هذا الحديث مِن هذا الوجه يُعرف بمحمَّدِ بن أبي حُمَيدٍ رواه جماعةٌ عنه، ومِن حديث قَتَادَةَ، عن أنسٍ رفعه: ((ما اغْرَوْرَقَت عينٌ بمائها إلَّا حرَّمه الله على النَّار)).
          ورواه عُبَيْدَةَ بن حسَّانَ، عن النَّضر بن حُمَيدٍ رفَعَهُ فزاد فيه: ((مِن خشية الله إلَّا حرَّم الله جسدها على النَّار فإن فاضت على وجهه لم يَرْهَق وَجْهَهُ قَتَرٌ ولا ذِلَّةٌ)).
          ومِن حديث أنسٍ مرفوعًا: ((إنَّ العبدَ ليمرض المرض فيرقُّ قلبُهُ فيذكرُ ذنوبه التي سلفت منه، فيقطُرُ مِن عينه مثلُ رأس الذباب مِن الدمع، فيطهِّره الله مِن ذنوبه فإن بعثَهُ بُعِث مطهَّرًا وإن قَبضَهُ قبَضَهُ مطهَّرًا)).
          ومِن حديث ثابتٍ عنه: ((نزل جبريل على رسول الله صلعم: قال الله: وعزَّتي وجلالي لا تبكينَّ عينُ عبدٍ في الدنيا مِن خشيتي إلَّا أكثرتُ ضَحِكَها في الجنَّة)).
          ومِن حديث القاسم، عن أبي أُمَامةَ رَفَعَه: ((ليس شيءٌ أحبُّ إلى الله مِن قَطْرَتينِ وأَثَرِين: قطرةُ دمعٍ مِن خشية الله، وقطرةُ دمٍ تُراقُ في سبيل الله، وأمَّا الأثران: فأثرٌ في سبيل الله وأثرٌ في فريضة مِن فرائض الله)). وقال أبو موسى: رواه أبو النَّضْر، عن الوليد، عن القاسم، عن أبي أُمامةَ موقوفًا.
          وذكر ابن فَنْجُويه الدِّيْنَورِيُّ في كتاب «الوجل» مِن حديث العبَّاس مرفوعًا: ((إذا اقشعرَّ جلدُ العبد مِن خشيةِ الله تحاتَّتْ عنه خطاياهُ كما تحاتَّ عن الشجرة اليابسةِ ورقُها)). قال أبو موسى: لا أعرفه إلَّا مِن حديث عبد العزيز بن محمَّدٍ الدَّرَاوَرْدِيِّ. قلت: أخرجه ابن فَنْجُويه أيضًا مِن حديث اللَّيث بن سعدٍ أيضًا.