التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب من جاهد نفسه في طاعة الله

          ░37▒ بابُ مَن جَاهَدَ نَفْسَهُ في طَاعِةِ اللهِ تَعَالَى.
          6500- ذَكَرَ فيه حديثَ مُعَاذِ بن جبلٍ ☺ قال: بَيْنَا أَنَا رَدِيفُ النَّبِيِّ صلعم لَيْسَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ إِلَّا آخِرَةُ الرَّحْلِ، فَقَالَ: (يَا مُعَاذُ) قُلْتُ: لَبَّيْكَ رَسُولَ اللهِ وَسَعْدَيْكَ، ثُمَّ سَارَ سَاعَةً ثُمَّ قَالَ: (يَا مُعَاذُ) قُلْتُ: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللهِ وَسَعْدَيْكَ، ثُمَّ سَارَ سَاعَةً ثُمَّ قَالَ: (يَا مُعَاذُ بْنَ جَبَلٍ) قُلْتُ: لَبَّيْكَ رَسُولَ اللهِ وَسَعْدَيْكَ، قَالَ: (هَلْ تَدْرِي مَا حَقُّ اللهِ ╡ عَلَى عِبَادِهِ). الحديث.
          وسَلَفَ في الاستئذانِ [خ¦6267] ويأتي في الاعتصام في باب وكان عرشُهُ على الماء.
          و(آخِرَةُ الرَّحْلِ) ما يَستندُ إليها الرَّاكبُ، قال يعقوبُ: ولا تقلْ مُؤَخِّرَة، وقال غيرُه: هي لغةٌ قليلةٌ، وقال الدَّاودِيُّ: إنَّها العُودُ الذي يكونُ بين وَرِكَيِ الرَّاكب، قال: والرَّحْلُ سَرْجُ الجَمَلِ، وقال الجَوْهَرِيُّ: الرَّحلُ رَحْلُ البعيرِ وهو أصغرُ مِن القَتَبِ.
          وقولُه: (مَا حَقُّ العِبَادِ عَلَى اللهِ؟) يحتملُ وجهين:
          أحدُهما: أن يكونَ خَرَجَ مخرجَ المقابلةِ في اللَّفظِ كقولِه تعالى: {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللهُ} [آل عمران:54] لأنَّه قال في أوَّلِه: (مَا حَقُّ اللهِ عَلَى عِبَادِهِ؟) فأَتْبَعَ الثَّاني الأوَّلَ.
          والثَّاني: أن يكونَ أرادَ حقًّا شرعيًّا لا واجبًا بالعقلِ كقولِ المعتزلة، وكأنَّه لَمَّا وَعَدَ تعالى صار حقًّا مِن هذه الجهة لأنَّه لا يُخلِفُ الميعاد. وقال الدَّاودِيُّ: فيه أنَّه جَعَلَ على نفْسِه حقًّا بِفضْلِه وعدْلِه، خلافًا لِقولِ بعض النَّاسِ: إنَّه لو شاء عذَّبَ الخلْقَ جميعًا وفيهم مَن لا ذنبَ له. قلتُ: وهذا هو مذهبُ أهلِ الحقِّ.
          فَصْلٌ: وجهُ مناسبةِ هذا الحديثِ للتَّرجمةِ مجاهدةُ النَّفسِ بالتَّوحيدِ؛ فإنَّه لا يأمر إلَّا بالخير. وجهادُ المرْءِ نفْسَهُ هو الجهادُ الأكبرُ وحربُ العَدُوِّ الأصغرُ، قال تعالى: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى. فَإِنَّ الجنَّة هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات:39-40] ورُوِيَ عن رسولِ الله صلعم أنَّه قال لأصحابِه وقد انصرفوا مِن الجهاد: ((أتيتم مِن الجهادِ الأصغرِ إلى الجهادِ الأكبرِ)) قالوا: وما الجهادُ الأكبرُ يا رسولَ الله؟ قال: ((مجاهدةُ النفس)).
          وقال سُفْيَانُ الثَّورِيُّ: ليس عدوُّكَ الَّذي إن قتلتَهُ كان لك به أجرٌ، إنَّما عدوُّكَ نفسُكَ الَّتي بين جنبيكَ، فقاتِلْ هواكَ أشدَّ ممَّا تُقاتِلُ عدوَّكَ. وقال أُوَيسٌ القَرْنيُّ لهَرِمِ بن حَيَّانَ: ادعُ اللهَ أن يُصلِحَ قلبكَ ونِيَّتكَ، فإنَّك لن تعالجَ شيئًا أشدَّ عليكَ منهما، بينما قلبُكَ مُقبِلٌ إذْ هو مدبرٌ، فاغتنم إقبالَه قبل إدبارِه، والسَّلامُ عليك. وقال عليٌّ ☺: أوَّلُ ما تفقدونَ مِن دينكم جهادُ أنفُسِكم.
          وقد يكونُ جهادُ النَّفْسِ منعَها الشَّهواتِ المباحةَ توفيرًا لها في الآخرةِ لئلَّا تدخُلَ في معنى قولِه تعالى: {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا} الآية [الأحقاف:20] وعلى هذا جرى سلفُ الأمَّة، وقال سَلْمٌ الخوَّاصُ: أوحى اللهُ إلى داودَ: لا تَقْرَبِ الشَّهواتِ فإنَّي خَلَقْتُها لضُعَفاءِ خَلْقي؛ فإنْ أنتَ قَرُبْتَها أهونُ ما أصنعُ بكَ أَسْلُبُكَ حلاوةَ مناجاتي، يا داودُ قلْ لبني إسرائيلَ: لا تقربوا الشَّهواتِ فالقلبُ المحجوبُ بالشَّهواتِ حَجَبْتُ صوتَهُ عنِّي.