التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب حفظ اللسان

          ░23▒ بابُ حِفْظِ اللِّسَانِ.
          وقول النَّبيِّ صلعم: (مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ). وَقَوْلُهُ تَعَالى: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق:18].
          ثمَّ ساق أحاديث:
          6474- أحدها: حديث سَهْلِ بن سعدٍ ☺، عن رسول الله صلعم قال: (مَنْ يَضْمَنْ لِي مَا بَيْنَ لَحْيَيْهِ وَمَا بَيْنَ رِجْلَيْهِ أَضْمَنْ لَهُ الجنَّةَ).
          6475- ثانيها: حديث أبي هُرَيْرَةَ ☺ باللَّفظ الذي علَّقه أولًا وزيادةً: (وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ فَلاَ يُؤْذِ جَارَهُ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ).
          6476- ثالثها: حديث أبي شُرَيحٍ مثله.
          6477- رابعها: حديث أبي هُرَيْرَةَ ☺: (إِنَّ العَبْدَ يَتَكَلَّمُ بِالكَلِمَةِ، مَا يَتَبَيَّنُ فِيهَا، يَزِلُّ بِهَا فِي النَّار أَبْعَدَ مِمَّا بَيْنَ المَشْرِقِ وَالمَغْرِبِ).
          6478- خامسها: حديثه أيضًا ☺، عن النَّبيِّ صلعم: (إِنَّ العَبْدَ يَتَكَلَّمُ بِالكَلِمَةِ مِنْ رِضْوَانِ اللهِ لاَ يُلْقِي لَهَا بَالًا يَرْفَعُ اللهُ بِهَا دَرَجَاتٍ، وَإِنَّ العَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالكَلِمَةِ مِنْ سَخَطِ اللهِ لاَ يُلْقِي لَهَا بَالًا يَهْوِي بِهَا فِي جَهَنَّمَ).
          الشَّرح: المراد بحفظ اللسان: عمَّا لا ينبغي. والقول بالحقِّ واجبٌ، والصَّمت فيه غيرُ واسعٍ، رُوي عنه صلعم قال: ((أكثرُ النَّاس خطايا يومَ القيامة أكثرُهم خوضًا في الباطل)). وقال: ((التَّقيُّ مُلْجَمٌ لا يتكلَّمُ بكلِّ ما يريد))، وقال: ((مِن حسنِ إسلامِ المرءِ تركُهُ ما لا يعنيه)). وقال عيسى صلعم: ((لا تُكْثِروا الكلامَ بغيرِ ذِكر اللهِ فيُقَسِّي قلوبكم؛ فإنَّ القلبَ القاسِي بعيدٌ مِن الله)). قال مالكٌ: مَن لم يعدَّ كلامَهُ مِن عمله كَثُر كلامه، ويُقال: إنَّ مَن عَلِم أنَّ كلامه مِن عمله قلَّ كلامه. قال مالكٌ: لم يكونوا يَهْذِرُون الكلام هكذا، ومِن النَّاس مَن يتكلَّمُ بكلام شهرٍ في ساعةٍ، وذُكِر عن بعض السلف أنَّه قال: لو كانت الصُّحفُ التي تُكتب فيها أعمالنا مِن عندنا لأَقْلَلْنَا الكلامَ.
          وكان أكثرُ كلام أبي بكر ☺: لا إله إلَّا الله، يقول: كان الأمر كذا ولا إله إلَّا الله، وكان كذا ولا إله إلَّا الله.
          فَصْلٌ: والآية المذكورة أولًا قال فيها الحسنُ وقَتَادَةُ: يكتبان جميع الأشياء، وقال: وخصَّهُ عِكْرَمةُ بالخير والشرِّ. ويقوِّي الأوَّلَ تفسيرُ أبي صالحٍ في قوله تعالى: {يَمْحُو اللهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ} [الرعد:39]، إنَّ الملائكة تكتب كلَّ ما يتكلَّم به المرء، فيمحو الله تعالى منه ما ليس له ولا عليه، ويُثْبِتُ ما له وعليه.
          والعَتِيدُ: الحاضِرُ المُهَيَّأُ. وقال الدَّاوديُّ: هو الحافظ. والمعروف أنَّ الرقيبَ هو الحافظُ، وأنَّ العَتِيدَ عند أهل اللغة هو الحاضِرُ.
          فَصْلٌ: وقوله: (مَنْ يَضْمَنْ لِي) هو بفتح الميم في مستقبله، وبكسرها في ماضيه، تقول: ضَمِنتُ الشيءَ أي: كَفَلْتُ بِهِ.
          واللَّحْيُ: مَنْبَتُ الشَّعرِ مِن الإنسان وغيره. / و(مَا بَيْنَ لَحْيَيْهِ): هو لسانُهُ. وعلى هذا أورده البخاريُّ هنا وغيره مِن العلماء. وقال الدَّاوديُّ: (مَا بَيْنَ لَحْيَيْهِ) يعني: الفمَ، مِن ضِمن ما يكون منه مِن الشرِّ مِن قولٍ أو فعلٍ بأكلٍ أو شربٍ أو غيرهما.
          قال: (وَمَا بَيْنَ رِجْلَيْهِ) يعني: الفَرْجَ. فمن حَفِظ هذين سَلِم مِن الشرِّ كلّه لأنَّه لم يبقَ إلَّا السَّمع والبصر، فإذا سمع أو رأى صار الفعل إلى الفم أو الفَرْجِ، فمن حفظَهما كان أصلُ حفظِهِ أن يحميَ سمعَه وبصرَه ممَّا يؤدِّيه إلى فعل الفم والفَرْج.
          فَصْلٌ: رواية أبي سَلَمَةَ عن أبي هُرَيْرَةَ ☺: (فَلاَ يُؤْذِ جَارَهُ) وليس ذلك في رواية المَقْبُرِيِّ، عن أبي شُرَيحٍ كما سقناه، ووقع في كلام الدَّاوديِّ أنَّ روايةَ المَقْبُرِيِّ عن أبي هُرَيْرَةَ: (فَلْيُكْرِمْ جَارَهُ). وليس كذلك فاعلمه، وإنَّما فيه: (فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ) كما سُقناه.
          فَصْلٌ: السُّخط، والسَّخَط خلاف الرِّضا، ومعنى: (لاَ يُلْقِي لَهَا بَالًا) لا يظنُّ أنَّها بلغتْ ما هي بَالِغَتُهُ، وقيل: إنَّ أكثرَ ذلك في مجالس ذوي الأمر المطاعِ. وقال ابن وَهْبٍ: يريد مِن اللفظ بالسُّوء لم يُرِد بذلك الحجَّة لأمر الله في الدِّين، وقيل: هي التكلُّمُ عند ذي السُّلطان يرضيه بها فيما يُسخِط الله.
          وقوله: (يَهْوِي بِهَا) أي: يَسْقطُ، وهو بفتح الياء من مستقبله، ثلاثيٌّ، ومنه: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى} [النجم:1].
          وقوله: (يَزَلْ بِهَا) أي: يدخل بها. قال الجَوْهَرِيُّ: تقول: زَلَلتَ يا فلانُ زَليلًا، إذا زلَّ في طِينٍ أو منطقٍ. وقال القزَّاز: زَلِلت بالكسر يَزِلُّ زلَلًا، والاسم: الزَّلَّةُ والزِلِّيلَى، وقرأناه بكسر الزَّاي.
          فَصْلٌ: وما أحقَّ مَن علِمَ أنَّ عليه حفظةً موكَّلينَ به يُحْصُون عليه سَقْطَ كلامهِ وعَثَراتِ لسانه، أن يَحْزُنَه ويُقِلَّ كلامَهُ فيما لا يَعْنِيه، وما أحراه بالسَّعي في أن لا يرتفعَ عنه ما يطوِّلُ عليه ندمَهُ مِن قول الزُّور والخوض في الباطل، وأن يجاهدَ نفسه في ذلك ويستعين بالله ويستعيذَ مِن لسانه.
          فَصْلٌ: وقوله: (مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ).
          يعني: مَن كان يؤمن بهما الإيمانَ التامَّ، فإنَّه ستبعثُهُ قوَّةُ إيمانه على محاسبة نفسه في الدُّنيا، والصَّمت عمَّا يعود عليه حسرةً وندامةً يوم القيامة، وكان الحسن يقول: ابنَ آدمَ، نهارُكَ ضيفُكَ فأَحْسِن إليه فإنَّكَ إن أحسنتَ إليه ارتحلَ يَحْمَدُكَ، وإن أَسَأْتَ إليه ارتحلَ يذمُّك.
          وقال عُمَرُ بن عبد العزيز لرِبَاحِ بن عُبَيدٍ: بَلَغَني أنَّ الرَّجُل ليُظْلَمُ بالمظْلَمةِ، فما يزال المظلومُ يشتمُ ظالمَهُ حتَّى يستوفيَ حقَّه ويَفْضُلَ للظالم عليه، وروى أسدٌ عن الحسن البصرِيِّ قال: لا يبلغُ أحدٌ حقيقةَ الإيمان حتَّى لا يعيب أحدًا بعيبٍ هو فيه، وحتَّى يبتدئ بصلاح ذلك العيب مِن نفسه، فإنَّه إن فعل ذلك لم يصلح عيبًا إلَّا وجد في نفسه عيبًا آخرَ، فينبغي له أن يُصْلِحَه، فإذا كان المرء كذلك كان شغلُهُ في خاصَّتِهِ واجبًا، وأحبُّ العبادِ إلى الله مَن كان كذلك.
          فَصْلٌ: قد أسلفنا أنَّ المراد بـ (مَا بَيْنَ لَحْيَيْهِ): اللِّسان، فلم يتكلَّم بما يكتبُ عليه صاحب الشِّمال، وبـ (ما بَيْنَ رِجْلَيْهِ) فرجَه، فلم يستعمله فيما لا يحلُّ، ودلَّ بهذا الحديث أنَّ أعظم البلاء على العبد في الدنيا اللَّسانُ والفرجُ، فمن وقي شرَّهما فقد وُقِيَ أعظم الشرِّ، أَلَا ترى قوله: (إِنَّ العَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالكَلِمَةِ مِنْ سَخَطِ اللهِ، مَا يُلْقِي لَهَا بَالًا...) إلى آخره.
          وقال أهل العلم: هي الكلمة عند السلطان بالبغي والسَّعي على المسلم، فربَّما كانت سببًا لهلاكه وإن لم يُرِد ذلك السَّاعي، لكنَّها آلَتْ إلى هلاكه فكُتِب عليه إثمُ تلك. والكلمة التي يكتب الله له بها رضوانه، الكلمةُ يريد بها وجه الله بين أهل الباطل، أو الكلمةُ يدفعُ بها مَظْلَمةً عن أخيه المسلم، ويفرِّجُ عنه بها كُربةً مِن كُرَبِ الدُّنيا، فإنَّ الله يُفَرِّج عنه كُربةً مِن كُرَبِ الآخرة ويَرْفَعُهُ بها درجاتٍ يومَ القيامة.
          فَصْلٌ: أفردَ ابن أبي الدُّنيا للصمت مؤلَّفًا كبيرًا فذكر فيه حديث عُقْبةَ بن عامرٍ ☺: يا رسول الله، ما النَّجاةُ؟ قال: ((امْلِكْ لسانك وليسعْكَ بيتُكَ وابكِ على خطيئتك)). ومنها حديث أسودَ بن أَصْرمَ المحارِبيِّ: أوصني يا رسول الله؟ فذكر له بعد أن قال: أملِكُ يدي ولساني: ((لا تبسطْ يدَك إلَّا إلى خيرٍ، ولا تَقُل بلسانك إلَّا معروفًا)). ومنها حديث معاذٍ: ((يا رسول الله، أنؤاخذُ بما نقول؟ فقال: ثكلتك أمُّكَ يا ابن جبلٍ، وهل يكبُّ النَّاس في النَّار على مناخِرِهم إلَّا حَصَائِدُ ألسنتهم)). ومنها حديث أنسٍ ☺ مرفوعًا: ((لا يستقيمُ إيمانُ عبدٍ حتَّى يستقيمَ قَلْبُهُ، ولا يَسْتقيمُ قَلْبَهُ حتَّى يستقيمَ لسانُهُ)). ومنها حديث عبدِ اللهِ بن عَمْرٍو ☻ مرفوعًا: ((مَن صَمَتَ نَجَا)). وغير ذلك ممَّا يطولُ.