التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب الرياء والسمعة

          ░36▒ بابُ الرِّياءِ والسُّمْعَةِ.
          6499- ذكر فيه حديث جُنْدُبٍ ☺: (مَنْ سَمَّعَ سَمَّعَ اللهُ بِهِ، وَمَنْ يُرَائِي يُرَائِي اللهُ بِهِ).
          معناه: مَن سمَّع بعمله الناسَ، وقصدَ به اتِّخاذ الجاه والمنزلة عندهم، ولم يُرد به وجهَ الله؛ فإنَّ الله يُسمِّع به خلقَهُ، أي: يجعله حديثًا عند الناس الذين أراد نيلَ المنزلة عندهم بعمله، ولا ثوابَ له في الآخرة، وكذلك مَن راءى بعمله الناس راءى الله به، أي: أطلعَهم على أنَّه فعل ذلك لهم، ولم يفعله لوجهه ╡؛ فاستحقَّ على ذلك سَخَطَ الله وأليمَ عقابه، فهذا على المجازاة، كقوله: {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللهُ} [آل عمران:54] وقوله: {مُسْتَهْزِئُونَ. اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} [البقرة:14-15] وكذا: مَن عمل عملًا على غير إخلاصٍ، يريد الرِّياء جُوزي عليه بالشُّهرة والفضيحة، فيشتهرُ ما يُبطن، وذلك أن يُظهَرَ عليه في القيامة، ويظهر عمله إن كان رياءً وسُمعةً. وقد جاء في الحديث عن رسول الله صلعم أنَّه ((يُقال للعبد يوم القيامة: فعلتَ كذا وكذا ليُقال، وقد قيل اذهبوا به إلى النَّار)).
          فإن قلت: كيف يَسْلَمُ مِن الرِّياء في العمل في الظَّاهر؟ وقد رُوي عن عُمَرَ وعثمانَ وابن مسعودٍ ♥ وجماعةٍ مِن السَّلف أنَّهم كانوا يتهجَّدُونَ مِن الليل في مساجدهم بحيث يَعلم ذلك مِن فعلهم معارفُهم، وكانوا يتذاكرون إظهارَ المحاسن مِن أعمالهم مع ما تواترت به الآثارُ أنَّ أفضلَ العمل ما استتر به صاحبُهُ؟
          قلت: الناس فيه نوعان: فأمَّا مَن كان إمامًا يُقتدى به ويُستنُّ بعمله، عالمًا بما لله عليه في فرائضه ونوافله، قاهرًا لكيد عدُوِّهِ فسواءٌ عليه ما ظهرَ مِن عمله وما خفِيَ منه لإخلاصه نيَّته لله تعالى وانقطاعه إليه بعمله، بل إظهارُهُ ما يدعو عباد الله إلى الرغبة في مثل حالِهِ مِن أعماله السَّالمة أحسَنُ إن شاء الله، وإن كان ممَّن لا يُقتدى به ولا يأمنُ مِن عدوه وقهره، ومِن هواه غلبتَهُ حتَّى يُفْسِدَ عليه عمله فإخفاؤه النوافلَ أسلَمُ له، وعلى هذا كان السَّلف الصالح.
          وروى حمَّادٌ عن ثابتٍ، عن أنسٍ ☺، عن رسول الله صلعم، سمع رجلًا يقرأ ويرفع صوتَهُ بالقرآن فقال: ((أوَّابٌ)) وسمعَ آخرَ يقرأ فقال: ((مُرائي))، فنظروا فإذا الأوَّاب المقدادُ بن عَمْرٍو.
          وروى الزُّهريُّ عن أبي سَلَمَةَ، عن أبي هُرَيْرَةَ ☺، أنَّ عبدَ الله بن حُذَافةَ صلَّى فجهَرَ بالقراءة، فقال له رسول الله صلعم: ((يا ابن حُذَافةَ، لا تُسمعني وأسمعِ الله)). وقال وَهْبُ بن الوَرْدِ: لَقِيَ عالمٌ عالمًا هو فوقَه في العلم فقال: يرحمك الله، ما الذي أُخفي مِن عملي؟ قال: تخفي حتَّى يُظنَّ بك أنَّك لم تعمل حسنةً قطُّ إلَّا الفرائضَ قال: يرحمك الله ما الذي أُعْلِنُ؟ قال: الأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر.
          وقال الحسن: لقد أدركتُ أقوامًا ما كان أحدهم يقدِرُ أن يُسِرَّ عملَهُ فيعلنَهُ، لقد علموا أنَّ أحرزَ العملَين مِن الشيطان عملُ السِّرِّ، قال: وإن كان أحدُهم ليكون عنده الزَّوْرُ وإنَّه ليصلِّي وما يشعرُ به زُوَّرُهُ. وكان عمل الرَّبيع بن خُثَيمٍ سرًّا، كان يقرأ في المصحف ويدخل عليه الداخل فيغطِّيه، وقال بِشْرُ بن الحارثٍ: لَمَّا ودَّع الخَضِرُ داودَ قال له: سترَ الله عليكَ طاعتَهُ.
          وروى ابن سِيرينَ قال: نُبِّئت أنَّ أبا بكرٍ ☺ كان إذا صلَّى خفضَ صوتَهُ، وكان عُمَرُ ☺ يرفعُ صوتَهُ، فقيل لأبي بكرٍ: لِمَ تصنعُ هذا؟ قال: أُناجي رَبِّي، وقد عَلِم حاجتي، قيل: أحسنتَ. وقيل لعُمَرَ: لِمَ تصنعُ هذا؟ قال: أَطْرُدُ الشَّيطانَ، وأُوْقِظُ الوَسْنَانَ، قال: أحسنتَ، فلمَّا نزلت: {وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ}الآية [الإسراء:110]. قيل لأبي بكرٍ: ارفع شيئًا، وقيل لعُمَرَ: اخفض شيئًا. فهؤلاء الأئمَّة المُقْتَدَى بهم، وأصل هذا قوله تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا} إلى قوله: {وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [هود:15-16] قال مجاهِدٌ: هؤلاء أهل الرِّياء.
          فَصْلٌ: رُوِّينا في كتاب «الرِّقاق» لابن المباركِ بإسنادٍ جيِّدٍ عن ابن مسعودٍ ☺ أنَّه قال: مَن راءى راءى الله ╡ به، ومَن سمَّع سمَّع الله به، ومَن تطاولَ تعظيمًا خفضَهُ الله، ومَن تواضعَ تخشُّعًا رفعَهُ الله. وفي «جامع التِّرْمِذيِّ» صحيحًا عن أبي سعيد مرفوعًا: ((مَنْ يُرَائِي يُرَائِي اللهُ بِهِ، وَمَنْ يُسَمِّعْ يُسَمِّعِ اللهُ بِهِ)).
          فَصْلٌ: روى التِّرْمِذيُّ غريبًا مِن حديث أبي هُرَيْرَةَ ☺: ((قال رجلٌ: يا رسول الله، الرجل يعمل العمل فيسرُّه، فإذا اطُّلع عليه أعجبَهُ. فقال ◙: له أجران: أجرُ السِّرِّ وأجرُ العلانية)). قال التِّرْمِذيُّ: فسَّره بعض أهل العلم، / فقال: معناه: أن يُعجبَهُ ثناء الناس عليه لهذا، فأمَّا إذا أعجبَهُ ليعلم النَّاس منه الخيرَ، فَيُكرَمَ على ذلك ويُعظَّمَ عليه فهذا رِياءٌ، وقال بعضهم: إذا اطُّلع عليه فأعجبَهُ رجاءَ أن يُعْملَ بعمله فيكونُ له مثل أجرهم فهذا له مذهبٌ أيضًا.
          فَصْلٌ: ورُوِّينا في «الرِّقاق» لابن المبارك عن كَهْمَسِ بن الحَسنِ، عن أبي السَّلِيل قال: قال رجلٌ لسعيدِ بن المسيَّبِ: الرجل يعطي الشيء ويصنع المعروف ويحبُّ أن يُؤجر ويُحمد، قال: أفتحبُّ أن تُمْقَتَ؟ وأخبرنا كَهْمَسُ عن ابن بُحَينةَ المكِّيِّ أنَّ رجلًا جاء إلى رسول الله صلعم فقال: إنِّي أُعطي الشيء مِن مالي، وأحبُّ أن أُؤجرَ عليه وأُحمد فلم يردَّ عليه شيئًا حتَّى نزلت: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ} الآية [الكهف:11].
          وقال أميرُ المؤمنين عُثمانُ بن عفَّانَ ☺: لو أنَّ عبدًا أُدخل بيتًا في جوفٍ فأدمَن هناك عملًا، يُوشك النَّاس أن يتحدَّثوا به! وما مِن عاملٍ يعمل إلَّا كساه الله رداءَ عَمَلِهِ، إنٍ خيرًا فخيرٌ وإن شرًّا فشرٌّ. رواه عن عوفٍ عن مَعْبَدٍ الجُهَنيِّ، عنه. قال: وحدَّثنا محمَّدُ بن سَليم، عن عُقبَةَ الرَّام، عن أبي الجَوْزاءِ قال: قال رسول الله صلعم: ((أَلَا أُخبركم بأهل الجنَّةِ وأهل النَّارِ؟ أهل الجنَّة مَن مُلئت مسامعُهُ مِن الثناءِ الحسنِ وهو يسمعُ، وأهل النَّار مَن مُلئت مسامعه مِن الثناء السَّيِّئ وهو يَسْمَعُ)).