التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب: الصراط جسر جهنم

          ░52▒ بَابٌ الصِّرَاطُ جَسْرُ جَهَنَّمَ
          6573- 6574- ذَكَرَ فِيهِ حَدِيْثَ أَبِي هُرَيْرَةَ ☺قَالَ: (قَالَ نَاسٌ: يا رَسُولَ اللهِ، هَلْ نَرَى رَبَّنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟) الحَدِيْثَ بِطُولِه.
          وقد أسلفْنا / فِي تفسيرِ سورةِ النِّساء فِي: ((هَلْ تُضَارُونَ فِي رُؤْيَةِ الشَّمْسِ؟)) [خ¦4581] أربعَ رواياتٍ، أكثَرُها ضمُّ أوَّلِه وَرَائِه مِن غيرِ تشديدٍ، أَي تُضَرُّونَ لأنَّ الضَّيْرَ المضرَّةُ.
          ثانيها: فَتْحُ التَّاءِ وتشديدُ الضَّادِ والرَّاءِ مِن الضَّررِ.
          ثالثُها: فِي غيرِ هَذَا الموضِعِ: ((تُضَامُونَ)) بِضَمِّ أوَّلِه مِن الضَّيْمِ.
          رابعُها: بِفَتْحِ التَّاءِ وتشديدِ الضَّادِ والميمِ.
          وقال ابنُ التِّين: رُوِّيناه بفتْحِ التَّاءِ وتشديدِ الضَّاد والرَّاء، تَفَّاعَلُونَ. قَالَ الجَوهَرِيُّ: أَضَرَّ بي فلانٌ دنا منِّي دُنُوًّا شديدًا، قَالَ: وفِي الحَدِيْثِ: ((لا تَضَّارُّون)) بِفَتْحِ التَّاءِ أَي لا تَضَامُّون. وتَضارُّون أصلُه تَتَضَارَرُونَ، حُذِفَتِ التَّاءُ الأُولَى مثلُ:{نَارًا تَلَظَّى} [الليل:14] ومعناه لا تَنَازَعُون ولا تَجَادَلون فتكونونَ أخدانًا يضُرُّ بعضُكم بعضًا فِي الجِدالِ، يُقَالُ: ضَارَرْتُهُ مُضَارَّةً إِذَا خَالَفْتُهُ، وقيل: معناه لا يَمنَعُ أحدَكُم كثرةُ مَن ينظُرُ إليه ألَّا يراهُ أو يضرَّ به فِي نظرِه، أو يستُرُ بعضُهم عن بعضٍ.
          ثمَّ ذِكْرُ الرِّوايةِ الأُولَى مأخوذٌ مِن الضَّيْرِ، أصلُه تُضْيَرُونَ، فاستُثقِلَتِ الفتحةُ عَلَى الياء لِسُكونِ مَا قبلها فأُلقِيَتْ حركتُها عَلَى الضَّادِ وقُلِبَتِ الياءُ أَلِفًا لانفتاحِ مَا قبْلَها، ومعناه كمعنى الأول، قَالَ: فأمَّا ضمُّ التَّاءِ وتشديدُ الرَّاء فمعناه أَيضًا كذلك، أَي لا تُضَارِرُونَ أحدًا، فتُسكَّنُ الرَّاءُ الأُولى وتُدْغَمُ فِي الَّتِي بعدَها.
          فَصْلٌ: وفِيهِ رَدٌّ عَلَى المعتزلةِ فِي إحالتِهم الرُّؤيةَ، والقرآنُ والسُّنَّةُ تَرُدُّه، قال تَعَالَى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ. إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:22-23] وقال: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} [المطففين:15] وحَدِيْثُ البابِ، وَكذا نحوُ عِشرين مِن الصَّحابةِ، منهم عَلِيٌّ وجريرٌ وَصُهَيْبٌ وَأَنَسٌ ♥.
          قَالَ الدَّاودِيُّ: وهَذَا الحَدِيْثُ فِي وسطِ الَّذِي قَبْلَهُ، وكَذا هُوَ فِي «كتاب مُسلمٍ» وقد سَلَفَ شَرْحُه.
          فَصْلٌ: قَوْلُهُ: (مَنْ كَانَ يَعْبُدُ شَيْئًا فَلْيَتْبَعْهُ) يحتملُ أَنْ يُريدَ فلْيَأتِهِ، ويحتمل أَنْ يُخلَقَ فِي تلك الأشياء إدراكٌ فتسيرَ معهم.
          فَصْلٌ: والطَّاغُوتُ الشَّيطانُ فِي قولِ عُمَرَ، والطَّاغوتُ فِي قَوْلِه: {يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ} [النساء:60] كعبُ بنُ الأشرفِ، قاله مُجَاهِدٌ. قال سِيبَوَيْه: الطَّاغوتُ اسمُ واحدٍ يَقَعُ عَلَى الجَمْعِ، وقال أبو عُبَيدٍ: هُوَ والجِبْتُ كلُّ مَا عُبِدَ مِن دونِ الله. وَقال محمَّدُ بن يزيدَ: الصَّوابُ عندي أَنَّ الطَّاغوتَ جماعةٌ بِخلافِ قول سِيبَوَيْه، وَقال ابنُ عُزَيرٍ: الطَّاغوتُ مِن الجِنِّ والإنسِ شَياطينُهم، قَالَ: ويكون واحدًا وَجمعًا. قال أبو جعفرٍ النَّحَّاسُ: فعلى قولِ سِيبَوَيْه إِذَا جُمِعَ فِعْلُه ذُهِبَ به إِلَى الشَّياطينِ، وإِذَا وُحِّد ذُهِبَ به إِلَى الشَّيطانِ.
          فَصْلٌ: قَوْلُهُ: (فَيَأْتِيهِمُ اللهُ فِي غَيْرِ الصُّورَةِ الَّتِي يَعْرِفُونَ) قيل: يحتملُ أَنْ تأتيِهُم صورةُ مخلوقٍ، (فَيَقُولُ أَنَا رَبُّكُمْ) عَلَى سبيلِ الامتحانِ، (فَيَقُولُونَ: نَعُوذُ بِاللهِ مِنْكَ) فَيَأْتِيهِمُ اللهُ فِي صُورَتِه الَّتِي يَعْرِفُوْنَهَا، والإتيانُ هُنا عبارةٌ عَن رؤيتِهم اللهَ تَعَالَى، وجَرَتِ العَادةُ فِي المُحدِّثينَ أَنَّ مَن كَانَ غائبًا عَن غيرِه لا يُتوصَّلُ إليه إِلَّا بالإتيانِ، فعبَّر عَن الرُّؤيةِ به مجازًا، وَقيل: معناه ظهورُ فِعْلِهِ لنا مثل قولِه تَعَالَى: {فَأَتَى اللهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ} [النحل:26]، وقَوْلِه: {وَجَاءَ رَبُّكَ} [الفجر:22].
          فَصْلٌ: قَوْلُهُ: (فِي الصُّورَةِ) يحتملُ وُجوهًا كما قال ابن فُورَك، منها أَنْ يكون (فِي) بمعنى الباءِ، كقولِ ابنِ عبَّاسٍ: {فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ} [البقرة:210] أَي بِظُللٍ، وبَدَلُ أَحَدِهما بالآخَرِ سائغٌ فِي الكلامِ، تقولُ: الحركةُ فِي التَّحريكِ وبالتَّحريكِ، وتقديرُه: أَنَّ اللهَ يأتِيهِم بِصُورةٍ غيرِ صُورتِه الَّتِي يعرفونَ فِي الدُّنيا، وتكون الإضافةُ فِي الصُّورةِ إليه مِن طريقِ المُلْكِ والتَّدبيرِ كما يُقَالُ: سماءُ اللهِ وأرضُه وبيتُ الله، فيكون المعنى أَنَّ الخَلْقَ عَرَفُوا اللهَ فِي الدُّنيا بِدِلالتِه المنصوبةِ وآياتِه الَّتِي ركَّبَها فِي الصُّوَرِ، وهي الأعراضُ الدَّالةُ عَلَى حُدُوثِ الأجسامِ واقتضائِها مُحدِثًا لها مِن حيث كانوا مُحدَثين.
          فَصْلٌ: قَوْلُهُ: (ثم يَقُولُ: أَنَا رَبُّكُمْ) قال بعضُ العلماء: هذه آخِرُ محنةِ المؤمنِ فإنَّه يظهرُ هَذَا القولُ فِعلًا مِن الله فِي بعضِ هذه الصُّور محنةً للمكلَّفين فِي الدُّنيا مِن المؤمنين، فيظهرُ منهم عن صِدْقِ توحيدِهم وصِحَّةِ إيمانِهم مَا يكون بإنكارٍ لذلك، والفائدةُ فِيْهِ تعريفُنا مَا قدَّر اللهُ سبحانه لأهلِ الإيمانِ به فِي الدُّنيا والآخرة، أَي يثبِّتُهم فِي الدُّنيا عَلَى الحقِّ عند الفِتَنِ ويثبِّتُهم فِي العُقبَى أَيضًا فِي مواضع المِحَنِ.
          وإِنَّمَا قيل للدُّنيا دارُ مِحَنٍ وتكليفٍ مطلقًا وإنْ كَانَ قد تقعُ فِي العُقبى المِحَنُ فلا يُطلَقُ عليها أنَّها دارُ تكليفٍ بل يُقَالُ دارُ جزاءٍ؛ لأنَّ ذَلِكَ الغالبُ عليها، وهَذَا كما يقعُ فِي الدُّنيا جزاءٌ ولا يُضافُ إليها لأنَّها لا يَغلِبُ عليها ولم تُبنَ له.
          فَصْلٌ: قولُه قَبْلَهُ: (فَإِذَا أَتَانَا رَبُّنَا عَرَفْنَاهُ) يحتمل أَنْ يكونَ بإظهارِ فِعْلٍ يُبْدِيهِ فِي قلوبِهم عندما يحدُثُ لهم مِن إدراكِه ومعاينتِه، أو يكون عبارةً عن رؤيتِهم إيَّاه كما تقدَّم.
          وقَوْلُهُ: (فَيَأْتِيهِمُ اللهُ فِي الصُّورَةِ الَّتِي يَعْرِفُونَها) أَي يُظهِرُ لهم نوعَ الصُّورةِ المعهودةِ لهم شكلًا وهيئةً، ويخلُقُ إدراكَهم له، وَخاطبهم بأنْ أسمعَهم كلامَه وأفهمَهم مُرادَه تثبَّتُوا وأيقنوا أَنَّ المكلِّم لهم هُوَ ربُّهم، والفَائدةُ فِي ذَلِكَ تعريفُنا مَا يفعلُه اللهُ فِي العُقبَى مِن عِصمةِ أوليائِه وتثبيتِهم وتأييدِهم، حَتَّى لا تَسْتَفِزَّهم مُشاهدةُ تلك الأحوالِ العَظيمة ولا يستَخِفَّهم أَمْرُ تلك الصُّورةِ المنكَرَةِ الَّتِي لم يعهدوا مِثلَها.
          ووجهُ معرِفَتِهم إيَّاه أنَّهم عَبَدُوهُ فِي الدُّنيا عن معرفةٍ منهم لمعبودٍ لا يُشبِهُ شيئًا ممَّا عَرَفُوهُ، فإِذَا كَانَ مرئيُّهم فِي العُقبَى معروفَهم فِي الدُّنيا أيقنُوا أنَّه هو معبودُهم، وحُكِي عن ابنِ أبي عاصمٍ أنَّه قال فِي تأويلِ هَذَا الحَدِيْثِ: إنَّ ذَلِكَ تَغَيُّرٌ يقعُ فِي عُيونِ الرَّائِين كنحوِ مَا يتخيَّلُ الإنسانُ الشَّيءَ بخلافِ مَا هُوَ به فَيَتَوَهَّمُه الشَّيءَ عَلَى الهيئة.
          فَصْلٌ: / قال ابنُ فُورَك: وإضافةُ الصُّورةِ إليه بمعنى المُلْكِ والفعلِ لا بمعنى التَّصوُّرِ بشيءٍ مِن الصُّورِ تَعَالَى الله عن ذَلِكَ، لأنَّ الهيئةَ والصُّورةَ والتَّأليفَ والتَّركيبَ إِنَّمَا تَصِحُّ عَلَى الأجسامِ المحدودةِ والجواهرِ المخلوقةِ.
          قَالَ: ويحتملُ أَنْ تكون الصُّورةُ هنا بمعنى الصِّفةِ، فيكونُ تقديرُ المعنى مَا يظهر لهم مِن شِدَّةِ بأسِهِ يومَ القيامةِ وإظهارِ معايبِ الخلْقِ ومساوئِهم وفضائِحهم، وإِنَّمَا عرفوه سبحانه ستَّارًا حليمًا غفورًا، فيظهر لهم منها أَنَّ ذَلِكَ منه، وهو معنى قَوْلِهِ: (فَيَقُولُ: أَنَا رَبُّكُمْ) عَلَى معنى قولِ القائلِ: قالت رِجْلِي وقالت أُذُنِي، عَلَى معنى ظَهَرَ ذَلِكَ فِيهِ، فيقولون عند ظهورِ ذَلِكَ منه مستعيذين بالله: (هَذَا مَكَانُنَا) أَي نَثْبُتُ ونَصْبِرُ حَتَّى تَظْهَرَ رحمتُه وكرمُه، وهو إتيانُ الرَّبِّ لهم بإظهارِ جودِه لهم وعطفِه عليهم، فيأتِيهم بعد ذَلِكَ عند ثباتِهم فِي الصُّورةِ الَّتِي يعرفونَ على معنى إبداءِ عفوِه ومغفرتِه على الصِّفَةِ الَّتي عَرَفُوه بها فِي الدُّنيا مِن سِتْرِهِ ومغفرتِه وحِلْمِه، ومِن هَذَا المعنى تقولُ: عرِّفْني صورةَ هَذَا الأمرِ أَي صِفَتَهُ.
          وقيل: هُوَ صورة اعتقادي فِي هَذَا الأمر، والاعتقادُ ليس بصورةٍ مركَّبةٍ، والمعنى يَرَوْنَ الله تَعَالَى عَلَى مَا كانوا يعتقدونَه عليه مِن الصِّفَاتِ الَّتِي يعرفونها، والإمام مالكٌ نهى أَنْ يُتحدَّث بهذا الحَدِيْثِ، أَي لأجْلِ خشيةِ وقوعٍ فِي محذورٍ. وقال غيرُه: لا يُقطَعُ بأخبارِ الآحاد فِي المغيَّباتِ. قال أبو جعفرٍ: فإنْ ثَبَتَ فمعناهُ: أَنْ يُرادَ بالصُّورةِ مَا يأتي به فِي ظُلَلٍ مِن الغَمامِ والمَلائِكَةِ، أو يكونوا رأَوْهُ حين قُبِضُوا فِي الموتِ فعرفوهُ بِذَلِكَ، أو حين أخرجَهم مِن صُلْبِ آدمَ فأشهدَهم عَلَى أنفُسِهم. قَالَ: ويحتملُ المجيء والإتيانُ أَنْ يُقَرِّبَهم ولا يوصَفُ بالنَّقْلَةِ، قَالَ: وقولُهم: (نَعُوذُ بِاللهِ مِنْكَ) أي نعوذُ بالله أَنْ ندعوَا ربَّنا مَنْ لا نَعرِفُه.
          فَصْلٌ: قَوْلُهُ: (وَيُضْرَبُ جسْرُ جَهَنَّمَ) الجِسْرُ واحدُ الجُسُورِ الَّتِي يُعبَرُ عليها، بفتْحِ الجيم وكسرِها، ذكرهُ ابنُ السِّكِّيتِ والجَوهَرِيُّ. قال ابنُ فارسٍ: وهو معروفٌ، قَالَ: وقال ابن دُريدٍ: الجَسْرُ القَنْطَرةُ الَّتي يُقال لها الجَسْرُ. قال ابنُ التِّين: وقرأناه بالكسرِ.
          وقَوْلُهُ: (فَأَكُونُ أَوَّلَ مَنْ يُجِيزُ) أَي يُخَلِّفُهُ، قال ابنُ فارسٍ والجَوهَرِيُّ: جُزتُ الموضعَ أَجُوزُهُ جَوَازًا سَلَكْتُه وسِرتُ فِيهِ، وأَجَزْتُه خلَّفْتُه وقطعْتُه.
          فَصْلٌ: الكَلَالِيبُ جمعُ كَلُّوبٍ بفتْحِ الكاف، وكُلَّابٍ بضمِّها وهو المِنْشَلُ، ويُسمَّى المِهمازُ _وهو الحَدِيدةُ الَّتِي عَلَى خُفِّ الرَّائض_ كُلَّابًا، والمِنشالُ حديدةٌ يُنشَلُ بها اللَّحمُ مِن القِدْرِ. وقال الدَّاودِيُّ: الكَلاليبُ الَّتِي يُؤخذ بها الحديدُ المحمَّى. قال: وفي روايةٍ أخرى: ((خَطَاطِيف)) قَالَ: وهي أصحُّ فِي المعنى أَنْ تكون الخَطَاطِيفُ مِثْلَ شَوكِ السَّعْدَانِ، قَالَ الجَوهَريُّ: وفي المَثَلِ مَرْعًى ولا كالسَّعْدَانِ. والنُّون فِي السَّعدانِ زائدةٌ لأنَّه ليس فِي الكلامِ فَعْلال غيرَ خَزْعَالٍ وقهقار إِلَّا مِن المضاعَف، قَالَ: ولهذا النَّبْتِ شوكٌ يُقال له: حَسَكُ السَّعْدَانِ، قال غيرُه: وهي شوكةٌ حَدِيدةٌ صَلْبَةٌ.
          وقَوْلُهُ: (غَيْرَ أَنَّهُ لاَ يَعْلَمُ قَدْرَ عِظَمِهَا إِلَّا اللهُ) قال ابنُ التِّين: قرأناه بضمِّ العينِ وسكون الظَّاء، وفي روايةٍ أخرى: بكسْرِ العينِ وفتْحِ الظَّاء، وهو أشبهُ لأنَّه مصدرٌ. قَالَ الجَوهَرِيُّ: عَظُمَ الشَّيءُ عِظَمًا أَي كَبُرَ، فتقديرُه: لا يَعلم قَدْرَ كِبَرِها، قَالَ: وعظَّمَ الشَّيءَ أَكْبَرَهُ.
          وقَوْلُهُ: (وَمِنْهُمُ المُخَرْدَلُ) أَيْ المقطَّع صِغارًا صِغارًا، قال ابنُ التِّين: بالدَّال والذَّالِ جميعًا، وقرأناه بالمهملة، وهُو فِي «الصِّحَاحِ» أيضًا كَذَلِك، حيثُ قال: خَردَلْتُ اللَّحمِ قطَّعته صِغارًا، بالدَّالِ والذَّال جميعًا.
          فَصْلٌ: وقَوْلُهُ: (وَحَرَّمَ اللهُ عَلَى النَّارِ أَنْ تَأْكُلَ مِنَ ابْنِ آدَمَ أَثَرَ السُّجُودِ) أَي لم يجعلْ لها قُدرةً عَلَى ذَلِكَ، ويجوز أَنْ يخلُقَ اللهُ فيها إدراكًا يحرِّم عليها ذَلِكَ، وآثارُ السُّجودِ فِي الجبهةِ والأنفِ والكفَّينِ وأطرافِ القدمين مِن باطنِهما والرُّكبتن.
          وفيه دليلٌ عَلَى تبعيض المرءِ فِي النَّار، وكذا قولُه ◙: ((مَن أعتقَ مسلمًا أعتقَ اللهُ بكلِّ عضوٍ منه عضوًا مِنه مِن النَّارِ، حَتَّى الفرْجَ بالفرْجِ)) فعلى هَذَا إِذَا كَانَ المعتِقُ ناقِصَ عضوٍ كَانَ مَا قابل ذَلِكَ العضوَ النَّاقِصَ فِي النَّارِ.
          فَصْلٌ: وقَوْلُهُ: (قَدْ قَشَبَنِي رِيحُهَا) هُوَ بفتْحِ الشِّينِ ونحفظُه مخفَّفًا، وقال ابن التِّين: هُوَ بتشديدِها، أَي آذاني، كأنَّه قَالَ: سمَّني، يُقَالُ: قَشَبه: سَقَاه السَّمَّ، وكلُّ مسمومٍ قَشِيبٌ.
          وقَوْلُهُ: (وَأَحْرَقَنِي ذَكَاهَا) وفِي بعض النُّسخ بالمدِّ، يُقَالُ: ذَكَتِ النَّار تَذْكُو ذَكًا _مقصورٌ_ اشتعلتْ، والمدُّ فِيْهِ لُغَةٌ، وقال ابنُ التِّين: قرأناه بالمدِّ وفتْح الذَّال، قال ابنُ ولَّادٍ: ذَكَا النَّارِ التهابُها، مقصورٌ يُكتَبُ بالأَلِفِ لأنَّه مِن الواو، يُقَالُ: ذَكَتْ تَذْكُو. وَكذا ذكره الجَوهَرِيُّ. وقال ابنُ فارسٍ: ذُكَاء اسمُ الشَّمس، قَالَ: وذَلِكَ أنَّها تذكو كالنَّار، والصُّبح ابنُ ذُكاء لأنه مِن ضوئها.
          وقَوْلُهُ: (حَتَّى يَضْحَكَ) الضَّحِكُ مِن الله محمولٌ عَلَى إظهارِ الرِّضا والقَبولِ.