التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب القصاص يوم القيامة

          ░48▒ بَابُ القِصَاصِ يَوْمَ القِيَامةِ.
          وَهْيَ الحَاقَّةُ؛ لِأَنَّ فِيهَا الثَّوَابَ وَحَوَاقَّ الأُمُورِ، الْحَقَّةُ وَالْحَاقَّةُ وَاحِدٌ، وَالقَارِعَةُ، وَالغَاشِيَةُ، وَالصَّاخَّةُ، وَالتَّغَابُنُ غَبْنُ أَهْلِ الجنَّةِ أَهْلَ النَّارِ.
          الشَّرحُ: قال قَتَادَةُ: أحقَّتْ لكلِّ قومٍ أعمالَهم، والتَّقديرُ ذاتُ الحَاقَّة، وقال الفرَّاءُ: سُمِّيت بِذَلِكَ لأنَّ فيها حقائقَ الأمور، وقيل: لأنَّها تَحُقُّ كلَّ الكفَّارِ الَّذِين حاقُّوا الأنبياءَ إنكارًا، يُقَالُ: حَاقَقْتُهُ فَحَقَقْتُهُ أَيْ خَاصَمْتُهُ فَخَصَمْتُه. وسُمِّيتِ القِيامةُ القَارعةَ لأنَّها تَقْرَعُ القلوبَ، والغَاشِيَةَ لأنَّها تَغْشَاهُم أَي تُجلِّلُهُمْ. والصَّاخَّةُ فِي الأصلِ الدَّاهيةُ، يُقَالُ: رجلٌ أصخُّ أَي أصمُّ، وقال الحسنُ: الصَّاخَّةُ الآخِرَةُ، يُصَخُّ لها كلُّ شيءٍ أَي يُنْصَبُ. وفِي «الصِّحاح»: الصَّاخَّةُ الصَّيحةُ، يُقَالُ: صخَّ الصَّوتُ الأذنَ يَصُخُّها صخًّا، وَمِنْهُ سُمِّيت القيامةُ.
          6533- ثمَّ ساقَ حَدِيْثَ شَقِيقٍ: سَمِعْتُ عَبْدَ الله ☺، قَالَ النَّبِيُّ صلعم: (أَوَّلُ مَا يُقْضَى بَيْنَ النَّاسِ في الدِّمَاءِ).
          6534- وحَدِيْثَ أَبِي هُرَيْرَةَ ☺ أَنَّ رَسُولَ الله صلعم قَالَ: (مَنْ كَانَتْ عِنْدَهُ مَظْلِمَةٌ لِأَخِيهِ فَلْيَتَحَلَّلْهُ مِنْهَا، فَإِنَّهُ لَيْسَ ثَمَّ دِينَارٌ وَلَا دِرْهَمٌ، مِنْ قَبْلِ أَنْ يُؤْخَذَ لِأَخِيهِ مِنْ حَسَنَاتِهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ حَسَنَاتٌ أُخِذَ مِنْ سَيِّئَاتِ أَخِيهِ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ).
          6535- وحَدِيْثَ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ ☺ قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلعم: (يَخْلُصُ الْمُؤْمِنُونَ مِنَ النَّارِ، فَيُحْبَسُونَ عَلَى قَنْطَرَةٍ بَيْنَ الجنَّةِ وَالنَّارِ، فَيُقْتَصُّ لِبَعْضِهِمْ مِنْ بَعْضٍ مَظَالِمُ كَانَتْ بَيْنَهُمْ فِي الدُّنيا، حَتَّى إِذَا هُذِّبُوا وَنُقُّوا أُذِنَ لَهُمْ فِي دُخُولِ الجَنَّةِ، فَوَالَّذِي نَفْسُ محمَّدٍ بِيَدِهِ لَأَحَدُهُمْ أَهْدَى بِمَنْزِلِهِ فِي الْجَنَّة مِنْهُ بِمَنْزِلِهِ كَانَ فِي الدُّنْيَا).
          الشَّرح: حَدِيْثُ عَبْدِ اللهِ بنِ مسعودٍ فِي حقوقِ العبادِ، جاءَ فِي حَدِيْثٍ آخَرَ: ((أَوَّلُ مَا يُحَاسَبُ بِهِ الْعَبْدُ الصَّلَاةُ)) وهو فِي حقوقِ الله، فإنْ وُجدتْ كاملةً نُظِرَ فِي غيرِ ذَلِكَ فَلا تضادَّ، وَلَمَّا كَانَت الدِّماءُ / مِن أكبرِ الذُّنوبِ بعدَ الكُفْرِ ذُكِرَتْ. وفي النَّسائيِّ: ((أَوَّلُ مَا يُحَاسَبُ بِهِ الْعَبْدُ الصَّلَاةُ، وَأَوَّلُ مَا يُقْضَى بَيْنَ النَّاس فِي الدِّمَاءِ)). وفي «الموطَّأ» عن يَحيى بن سَعِيدٍ قَالَ: بَلَغني أَنَّ أوَّلَ مَا يُنظَرُ فِيْهِ مِن عَمَلِ المرءِ الصَّلاةُ. ورواه التِّرمذِيُّ مَرفوعًا مِن حَدِيْثِ أبي هُرَيرةَ، وقال: حسنٌ غريبٌ.
          وقَالَ الدَّاودِيُّ: أوَّلُ مَن يُقضَى بينهم عليٌّ وحمزةُ وعُبَيْدَةُ بنُ الحارث، وعُتبة وشيبةُ ابنَا رَبِيعةَ والوليدُ بنُ عتبةَ الَّذِين تبارزوا يومَ بدرٍ، وفيهم نَزَلَ:{هَذَانِ خَصْمَانِ} [الحج:19].
          وقد سَلَفَ الحَدِيْثُ فِي ذَلِكَ فِي البُخَاريِّ عن عليٍّ ☺: أنا أوَّلُ مَن يَجْثُو يومَ القيامةِ بين يَدَيِ الرَّحمن للخُصُومةِ [خ¦3965] [خ¦4744] يريدُ قِصَّتَه فِي مبارزتِه هُوَ والجماعة. قال أبو ذرٍّ: وفيهم نَزَلَتْ: {هَذَانِ خَصْمَانِ} [الحج:19].
          فَصْلٌ: والمَظْلَمَةُ بفتْحِ اللَّامِ وهو القياسُ، وبه ضَبَطَ ابنُ التِّين، والدِّمياطِيُّ ضبطَه بكسْرِها. قَالَ الجَوهَرِيُّ: ظَلَمَهُ ظُلْمًا ومَظْلِمَةً، وأصلُهُ وَضْعُ الشَّيءِ فِي غيرِ موضعِهِ، قَالَ: والظُّلامةُ والظَّلِيمةُ والمَظْلِمَةُ مَا تطلبُهُ عند الظَّالمِ، وهو اسمُ مَا أُخِذَ مِن ظلمةٍ.
          وقَوْلُهُ: (فَلْيَتَحَلَّلْهُ مِنْهَا) قال الهَرَويُّ: يُقال تحلَّلتُه واسْتَحْلَلْتُهُ إِذَا سألتَه أَنَّ يجعلَكَ فِي حِلٍّ مِن قِبَلِهِ.
          والدِّينَارُ أصلُه دِنَّارٌ بدليلِ جمعِه عَلَى دَنَانِير، فإنَّ الجمْعَ يردُّ الشَّيءَ إِلَى أصلِه. والدِّرْهَمُ فارسيٌّ معرَّبٌ، وكسْرُ الهاء لغةٌ، وربَّما قالوا: دِرهَامٌ، وجمعُ دِرْهَمٍ دَرَاهِمٌ، ودِرْهَامٍ دَرَاهِيمُ، وَليس فِي كلام العرب يُقال سِواهُ وسِوى هِبْلَعٍ وهو الأَكُولُ، وهِجْرَعٌ وهو الطَّويل، وبِلْعَمٌ وهو اسمُ رجلٍ، ذُكِرَ عَن الخليلِ، زاد غيرُه: ضِفْدَع، والجماعةُ عَلَى كسر دالِه.
          وقَوْلُهُ: (مِنْ قَبْلِ أَنْ يُؤْخَذَ لِأَخِيهِ مِنْ حَسَنَاتِهِ) يعني المسلم، قال بعضُهم: إذا اقتُصَّ لبعضِ العبادِ مِن بعضٍ عادَ الأمرُ فيما بينَهم وَبينَ اللهِ، وهَذَا أسلفتُه.
          فَصْلٌ: قَوْلُهُ: (يَخْلُصُ) هُوَ بفتْحِ أوَّلِه وضمِّ ثالثِه وَهو اللَّامُ، أَي يخلصوا، وَمِنْهُ خُلاصةُ السَّمْنِ مَا خَلَصَ منه؛ لأنَّهم إِذَا طَبَخُوا الزُّبْدَ ليتَّخِذوه سَمنًا طَرَحُوا فِيْهِ شيئًا مِن سَوِيقٍ وتمرٍ وأَبْعَارِ غِزْلانٍ، كما ذكره ابن التِّين، فإِذَا جَادَ وَخَلَصَ مِن الثُّفْلِ فَذَلِكَ السَّمْنُ.
          والقَنْطَرَةُ الجسرُ. والتَّهْذِيبُ _بالذَّالِ المعجَمَةِ_ التَّنقيةُ، يُقَالُ: رَجلٌ مهذَّبٌ أَيْ مُطهَّرُ الأخلاق.
          وقَوْلُهُ: (أَهْدَى بِمَنْزِلِهِ) أَي أَعْرفُ بطريقِه وموضِعِه.
          فَصْلٌ: قال البَيْهَقِيُّ: ينبغي أَنْ نعلمَ أَنَّ سيِّئاتِ المؤمنِ _عَلَى أصولِ أَهْلِ السُّنَّةِ والجماعةِ_ متناهيةُ الجزاء، وحسناتُه غيرُ متناهيةِ الجزاء لأنَّ مع ثوابِها الخلودُ فِي الجنَّةِ، فلا يأتي ما هُوَ متناهٍ عَلَى مَا ليسَ بِمُتَنَاهٍ، فعلى هَذَا وَجْهُ هذا الحَدِيْثِ عندي أنَّه يُعطَى خُصَماءُ المؤمنِ المسيءِ مِن أَجْرِ حسناتِه مَا يوازي عقوبةَ سيِّئاتِه، ((فإنْ فَنِيَتْ حسناتُه)) أَي أجْرُ حسناتِهِ الَّذِي قابَلَ عقوبةَ سيِّئاتِه أُخِذَ مِن خطايا خصومِه فطُرِحَتْ عليه، ثمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ إنْ لَمْ يَفِ عَنْهُ، حَتَّى إِذَا انتهت عقوبةُ تلكَ الخطايا رُدَّ إِلَى الجنَّةِ بما كُتِبَ له مِن الخلودِ فيها بإيمانِه، ولا يُعطَى خصماؤُه مَا زاد مِن أجْرِ حسناتِه عَلَى مَا قابَلَ عقوبةَ سيِّئاتِه، لأنَّ ذَلِكَ مِن فضْلِ الله يخصُّ به مَن وافى القِيامةَ مؤمنًا.
          فَصْلٌ: عندَ مُسلمٍ: ((أَتَدرُونَ مَن المُفلِسُ؟)) قالُوا: المُفلِسُ فِينَا مَن لَا دِرهمَ لهُ ولا مَتَاعَ، قال: ((إِنَّ المُفلِسَ مِن أُمَّتِي مَن يَأتِي يَومَ القيامةِ بِصلاةٍ وَصِيامٍ وَزَكَاةٍ، وَيَأتِي قَد شَتَمَ هذا، وَقَذَفَ هذا، وَأَكَلَ مَالَ هذا، وَسَفَكَ دَمَ هذا، وضَرَبَ هذا، فيُعطَى هذا مِن حسناتِه وهذا مِن حسناتِه فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يُقْضَى مَا عَلَيْهِ أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُم، فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ، ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّار)).
          وفي لفظٍ: ((لَتُؤَدُّنَّ الحقوقَ إِلَى أهلِها حَتَّى يُقادَ للشَّاةِ الجَلحاءِ مِن الشَّاةِ القرناء)) وفي ابن ماجه مِن حَدِيْثِ ثَعْلَبَةَ بْنِ سَوَاءٍ: حدَّثنا عَمِّي محمَّدُ بْنُ سَوَاءٍ عَنْ حُسَيْنٍ الْمُعَلِّمِ عَنْ مَطَرٍ الْوَرَّاقِ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ ☻ يرفعه: ((مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ دِينَارٌ أَوْ دِرْهَمٌ قُضِيَ مِنْ حَسَنَاتِهِ لَيْسَ ثَمَّ دِينَارٌ وَلَا دِرْهَمٌ، مَنْ تَرَكَ دَيْنًا أَوْ ضَيَاعًا فَعَلَى اللهِ وَرَسُولِهِ)).
          فَصْلٌ: رَوَىَ الحارثُ بنُ أبي أُسَامَةَ فِي «مُسندِه» عَنْ عَبْدِ الله بْنِ أُنَيْسٍ ☺: سَمِعْتُ رَسُوْلَ الله صلعم يَقُولُ: ((يَحْشُرُ اللهُ الْعِبَادَ _أو قال: النَّاسَ، وأومَأَ بيدِهِ إِلَى الشَّامِ_ عُراةً غُرْلًا بُهْمًا)) قيل: مَا بُهْمًا؟ قَالَ: ((ليس معهم شيءٌ، فَيُنَادِيهِمْ بِصَوْتٍ يَسْمَعُهُ مَنْ بَعُدَ ومَنْ قَرُبَ: أَنَا الْمَلِكُ، أَنَا الدَّيَّانُ، لا ينبغي لِأَحَدٍ مِن أَهْلِ الجنَّةِ أَنْ يَدخلَ الجنَّةَ وأحَدٌ مِن أَهْلِ النَّارِ يطلُبُه بمَظْلَمَةٍ حَتَّى اللَّطمةَ، ولا ينبغي لِأَحَدٍ مِن أَهْلِ النَّارِ أَنْ يدخُلَ النَّارَ وأَحَدٌ مِن أَهْلِ الجنَّةِ يطلبُه بمَظلَمَةٍ حَتَّى اللَّطمةَ)) قلنا: كيف، وإِنَّمَا نأتي اللهَ حُفاةً عراةً؟ قَالَ: ((بالحسناتِ والسَّيِّئات)).
          فَصْلٌ: وَقَعَ هنا ذِكْرُ الصَّوتِ. قال البَيْهَقِيُّ: قولُه: ((بِصَوْتٍ)) لم يثبُتْ بإسنادٍ يكونُ حُجَّةً بانفرادِه، والأشبهُ أَنْ يكونَ المرادُ به نِداءً يليقُ بِصفاتِ اللهِ تَعَالَى، ويحتملُ أَنْ يأمُرَ بِه مَلَكًا فيكونَ الصَّوت مضافًا إِلَى الملَكِ فِي الحقيقةِ، وأُضيف إِلَى اللهِ لأنَّه بِأَمْرِه كَانَ.
          وقال الحافظُ أبو الحسن عليُّ بن المفضِّل المَقْدِسيُّ فِي كتابِه «الجوابُ عن أحاديثِ الأصوات» بعد أَنْ ساقها: أمَّا حَدِيْثُ جابرٍ عن ابنِ أُنَيسٍ فذكره البُخَاريُّ تعليقًا فقال: ويُذكر عن جابرٍ، وهو حَدِيْثٌ مدارُهُ عَلَى ابنِ عَقِيلٍ وهو ضعيفٌ، وتفرَّدَ به عَنْهُ القاسمُ بنُ عبدِ الواحدِ وليس ممَّن يُحتجُّ بحديثِه، ورُوي مِن طريقِ عُمَرَ بنِ صُبيحٍ عن مُقَاتلٍ عن أبي الجارودِ، وابنُ صُبيحٍ وضَّاعٌ، ورواه ابنُ لَهِيعَةَ عن يزيدَ، وابنُ لَهِيعَةَ حالُهُ مشهورٌ، والحديثُ أَيضًا مضطرِبٌ فتارةً قَالَ: قَدِمْتُ عليه الشَّامَ، وأُخرى بمصَرَ.
          وحَدِيْثُ محمَّدِ بن كَعْبٍ عن أَبِي هُرَيْرَةَ بمثلِه رواهُ خُشَيشٌ عن أبي عاصِمٍ عن إسماعيلَ بن رَافِعٍ عن محمَّدِ بن زِيادٍ، عن محمَّدِ بن كَعْبٍ، فقال: عن رجلٍ عن أَبِي هُرَيْرَةَ، ومِثْلُ هَذَا لا تقومُ به حُجَّةٌ. وحَدِيْثُ أبي سعيدٍ تفرَّدَ بلفظِ الصَّوتِ فِيْهِ حفصُ بن غِيَاثٍ عَن الأعمشِ، وَخالفهُ الحُفَّاظُ فلم يذكروه فِيْهِ، والرِّواية الصَّحيحةُ: ((يُنَادَى)) بفتْحِ الدَّالِ، نصَّ عليه أبو ذرٍّ الهَرَويُّ.
          وحَدِيْثُ ابنِ عُمَرَ موقوفٌ وضعيفٌ. وحَدِيْثُ ابنِ مسعودٍ رُوِيَ مِن طُرُقٍ مرفُوعًا وموقوفًا وليس فِيْهِ ذِكْرُ الصَّوتِ، وإِنَّمَا ذَكَرَ أبو نصرٍ السَّجْزِيُّ أنَّه وجدَه مذكورًا فِي موقوفٍ عليه، وليس بِصحيحٍ، وحَدِيْثُ النَّوَّاسِ كذلك أَيضًا، / وكَذا حَدِيْثُ بَهْزِ بن حكيمٍ عن أبيهِ عن جدِّه، ولا ذِكْرَ فيها للصَّوتِ. وحَدِيثُ أنسِ بنِ مالكٍ ضعيفٌ.
          قَالَ: وهَذَا بمعنى ألفاظِ ابنِ حِبَّانَ والأزْدِيِّ والدَّارَقُطْنِيِّ فِي الكلامِ عَلَى هَذَه الأحاديثِ.
          فَصْلٌ: رُوِّينا فِي «جزء الأنصاريِّ» بِعُلوٍّ: حدَّثنا محمَّد بن عَمْرٍو عن يحيى بن عبدِ الرَّحمن عن عبدِ الله بنِ الزُّبير عن الزُّبير قال: لَمَّا نزلتْ هذه الآية: {ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ} [الزمر:31] قَالَ: قال الزُّبيرُ: يا رسولَ الله، أَيُكرَّرُ علينا مَا كان بيننا في الدُّنيا مع خواصِّ الذُّنوب؟ قال: ((نعم، لِيُكرَّرَنَّ عليكم ذلك حتَّى تؤدُّوا إلى كلِّ ذي حقٍّ حقَّه)) قال الزُّبير: واللهِ إنَّ الأمرَ لَشديدٌ.
          ومِن حَدِيْثِ إبراهيمَ الهَجَرِيِّ عَن أبي الأحْوصِ عن عَبْدِ الله يرفَعُهُ: ((اتَّقوا الظُّلمَ مَا استطعتم؛ فإنَّ العبدَ لَيجيءُ بالحسناتِ الكثيرةِ يومَ القِيامةِ فيرى أنَّهنَّ سَيُنجينَهُ، فمَا يزالُ عبدٌ يَجِيءُ فيقولُ: يا ربِّ إنَّ فلانًا ظلمَني بمَظلَمَةٍ، فيقول: اجْتَحْ مِن حسناتهِ، فما يزال كذلك حَتَّى مَا يُبقي مِن حسناتِه شيئًا، وإنَّ مَثَل ذَلِكَ مَثَلُ سَفْرٍ نزلُوا بفلاةٍ مِن الأَرْض ليس معهم حطبٌ فتفرَّق القومُ فَحَطَبوا، فلم يلبَثُوا أَنْ أَعْظَمُوا نارَهم وصَنعُوا مَا أرادُوا، وَكذلك الذُّنوبُ)).
          ومِن حَدِيْث عاصمٍ الأحْولِ وخالدٍ الحذَّاء قالا: سمعْنا أبا عثمانَ عَن سَلْمانَ وحُذَيفةَ وسَعْدِ بن مالكٍ وابْنِ مسعودٍ حَتَّى عدَّ ستَّةً أو سبعةً مِن الصَّحابة قالوا: إنَّ الرَّجلَ ليُرفَعُ له يومَ القيامة صحيفةٌ حَتَّى يَرى أنَّه ناجٍ، فما تزالُ مظالمُ بني آدمَ تتبعُه حَتَّى مَا تُبقي له حسنةً، وتُحمَلُ عليه مِن سيِّئاتِهم.
          ومِن حَدِيْث زِيادٍ النُّميرِيِّ عن أنسٍ ☺رَفَعه: ((الظُّلمُ ثلاثةٌ: ظُلمٌ لا يغفِرُه اللهُ وهو الشِّرْكُ، وظُلْمٌ يغفِرُه اللهُ وهو ظُلْمُ العِبادِ أنفسَهُم، وظُلْمٌ لا يتركُه اللهُ وَهو ظُلْمُ العبادِ بعضَهم بعضًا حَتَّى يَدِينَ بعضَهم مِن بعضٍ)).
          قال البَيْهَقِيُّ: ورواه صَدَقَةُ بْنُ مُوسَى عَن أبي عِمْرَانَ الجَوْنِيِّ عن يَزِيدَ بْنِ بَابَنُوسَ عن عَائِشَة ♦ عن رَسُوْلِ الله صلعم مرفُوعًا، وَقد رُوِيَ عن بعضِ التَّابعين. وقَالَ: البُخَاريُّ: سَعِيدُ بنُ أَنَسٍ عن أَنَسٍ عن رَسُوْلِ اللهِ صلعم فِي المظالِمِ لا يُتابَع عليه، قاله عَبْدُ الله بن بكرٍ: حدَّثنا عبَّاد بن شَيْبَةَ عَنْ سَعِيدٍ، وقد رُوِيَ ذَلِكَ أَيضًا عَن زِيَادِ بْنِ مَيمُونٍ البَصرِيِّ عن أَنَسٍ، إِلَّا أَنَّ زِيَادًا متروكٌ، لا تُغني متابعتُه شيئًا.
          ومِن حَدِيْثِ ابنٍ لِكِنَانةَ بنِ عبَّاسِ بنِ مِرْدَاسٍ السُّلمِيِّ _عند أبي داودَ السِّجستانيِّ_ عن أبيه عن جدِّه عبَّاسٍ: أنَّه ◙ دعا عشيَّةَ عرَفَةَ لِأُمَّتِه بالمغفرةِ والرَّحمةِ فأكثرَ الدُّعاءَ فأجابهُ الله تعالى: ((إنِّي قد فعلتُ إِلَّا ظُلمَ بعضِهم بعضًا)) قال: ((أَيْ ربِّ، إنَّكَ قادرٌ أنْ تُثِيبَ المظلومَ خيرًا عن مَظْلَمَتِهِ وتغفرَ لهذا الظَّالمِ)) فَلَمْ يُجِبهُ تلك العشيَّةَ، فلما كَانَ غدَاةَ المزدَلِفةِ أعادَ الدُّعاءَ فأجابَهُ: ((إنِّي قد غَفرتُ لهم)).
          قال الْبَيْهَقِيُّ: كَانَ البُخَاريُّ يُضعِّف إسنادَ حَدِيْثِ العبَّاسِ هَذَا ويقول: لا يصحُّ حديثُه فِي قصَّةِ يومِ عَرَفةَ، باطلٌ. قال الْبَيْهَقِيُّ: ويحتمل أَنْ تكونَ الإجابةُ إِلَى المغفرة بعد أَنْ يُذيقَهم شيئًا مِن العذابِ دون الاستحقاق، فيكون الخبرُ خاصًّا في وقتٍ دونَ وقتٍ، ويحتمل أَنْ تكونَ الإجابةُ إِلَى المغفرةِ لبعضِهم فيكون الخبرُ خاصَّا فِي قومٍ دونَ قومٍ، ثُمَّ مَن لا يَغفِرُ له يُذيقُه مِن العَذابِ بما اكتسب، ويحتملُ أَنْ يكونَ عامًّا، ونصُّ القُرآنِ يدُلُّ عَلَى أنَّه مفوَّضٌ إِلَى المشيئةِ فِي قَوْلِهِ: {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48] فلا ينبغي لمسلمٍ أَنْ يغُرَّ نفْسَه فإنَّ المعصيةَ شؤمٌ، وخلافُ الجَبَّارِ فِي أوامِرِه ونواهيهِ عظيمٌ.
          قلتُ: ورُوِّينا عن أبي داودَ الطَّيالسِيِّ مَا يُقوِّيه فقال: حدَّثنا صَدَقَةُ بْنُ مُوسَى حدَّثنا أَبُو عِمْرَانَ الْجَوْنِيُّ عن زيدِ بنِ قيسٍ _أو قيسِ بن زيدٍ_ عَنْ قَاضِي المِصْرِيينَ شُريحٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحمن بنِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيق، أنَّ النَّبيَّ صلعم قال: ((إنَّ اللهَ تبارك وتعالى يدعو صَاحبَ الدَّيْنِ يومَ القيامة فيقولُ: يا ابنَ آدمَ فيمَا أضعْتَ حقوقَ النَّاسِ وأموالَهم؟ فيقول: يا ربِّ لم أُفْسِدْ، ولكنِّي أُصِبْتُ إمَّا غَرَقًا أو حَرْقًا، فيقولُ: أنا أحقُّ مَن قَضَى عنك اليومَ، فتَرْجَحُ حسناتُهُ على سيِّئاتِه، ويُؤمَرُ به إلى الجنَّةِ)).
          ورَوَى الْبَيْهَقِيُّ مِن حَدِيْثِ عَبْدِ الله بن بكرٍ السَّهمِيِّ حدَّثنا عبَّادُ بن شَيْبَةَ الحَبَطِيُّ عن سَعِيدِ بن أنسٍ عن أنسٍ قال: بينما رسولُ الله صلعم جالسٌ إذْ رأيناه ضَحِكَ حتَّى بَدَتْ ثَنَاياهُ، فقال عُمَرُ: ما يُضحِكُكَ يا رسولَ الله؟ قال: ((رجُلانِ مِن أُمَّتي جَثَيا بين يَدَيْ رَبِّ العِزَّةِ، فقال أحدُهما: يا ربِّ خذْ لي مَظْلَمَتِي مِن أخي، فقال الله تعالى: أَعْطِ أخاكَ مَظْلَمَتَهُ، فقال: يا ربِّ لم يبقَ مِن حسناتي شيءٌ، فقال اللهُ للطَّالِبِ: كيف تفعلُ ولم يَبْقَ مِن حسناتِه شيءٌ؟ قال: يا ربِّ يتحمَّلُ مِن أوزارِي)) قال: وفاضتْ عينا رسولِ الله صلعم بالبكاء، ثمَّ قال: ((إنَّ ذَلِكَ يومٌ عظيمٌ، يومٌ يحتاج النَّاسُ إلى أنْ يُحْمَل عنهم مِن أوزارِهم، قال: فقال اللهُ للطَّالِبِ: ارْفَعْ رأسَكَ، فرَفع رأسه، فقال: يا ربِّ أرى مَدائنَ مِن فِضَّةٍ مرتفعةً، وقصورًا مِن ذهبٍ مكلَّلةً باللؤلؤِ، فَلِأَيِّ نبيٍّ أو صِدِّيقٍ أو شَهِيدٍ هذا؟ قال: هذا لمَن أَعطَى الثَّمنَ، قال: يا ربِّ، ومَن يملِكُ ذلك؟ قال: أنتَ تملِكُهُ، قال: بمَ يا ربِّ؟ قال: بعفوِكَ عن أخيكَ، قال: يا ربِّ إنِّي قد عفوتُ عنه، قال الله: خُذْ بِيَدِ أخيكَ فأدخلهُ الجنَّة)) ثمَّ قال رسولُ الله صلعم عندَ ذلك: ((اتَّقوا الله، وأَصْلِحُوا ذَات بَينِكم فَإِنَّ اللهَ يُصْلِحُ بَينَ الْمُؤْمِنِينَ يَومَ الْقِيَامَةِ)).
          فَصْلٌ: رَوَى ابنُ عبدِ البَرِّ مِن حَدِيْثِ البَرَاءِ بنِ عَازِبٍ ☻ مرفُوعًا: ((صَاحِبُ الدَّينِ مَأْسُورٌ يَومَ الْقِيامَةِ بِالدَّينِ)).
          ورَوَى أبو نُعَيمٍ مِن حَدِيْثِ زَاذان أبي عُمَرَ عَن ابنِ مَسْعُودٍ ☺ قَالَ: يُؤخَذُ بِيَدِ العبدِ أو الأَمَةِ فيُنصَبُ عَلَى رُؤوسِ الأوَّلينَ والآخِرين، ثمَّ ينادِي منادٍ: هَذَا فلانُ بنُ فلانٍ فمَن كَانَ له حقٌّ فليأتِ إِلَى حقِّه، فتفرحُ المرأةُ أَنْ يدور لها الحقُّ عَلَى أبيها أَو أخيها أَو عَلَى زوجِها، ثمَّ قرأ عَبْدُ الله: {فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ} [المؤمنون:101] فيقولُ الرَّبُّ تَعَالَى للعبدِ: آتِ هؤلاءِ حقوقَهم، فيقول: يا ربِّ فَنِيَتِ الدُّنيا فمِن أين أُوْتيهُم؟! فيقولُ للمَلائِكَةِ: خذوا مِن أعمالِه الصَّالحةِ فأعطُوا كلَّ إنسانٍ بِقَدْر طِلْبَتِه، فإنْ كَانَ وليًّا لله فَضَلَتْ مِن حسناتِه مثقالُ حبَّةٍ مِن خَرْدَلٍ مِن خيرٍ فيضاعفُها الله حَتَّى يُدخلَه بها الجنَّةَ، ثمَّ قرأَ: {إِنَّ اللهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} الآية [النساء:40] ورُوِيَ نحوُه مرفُوعًا أَيضًا.
          وعن أَبِي هُرَيْرَةَ ☺ قَالَ: ((كنَّا نسمَعُ أَنَّ الرَّجُلَ / يتعلَّقُ بالرَّجُلِ يومَ القيامةِ وَهو لا يعرفُه، فيقول: مَا لك إليَّ وما بيني وبينَكَ معرفةٌ؟ فيقول: كنتَ تراني عَلَى الخطايا والمنكَرِ ولا تَنْهَاني)).
          فَصْلٌ: إيَّاكَ أَنْ تَعْتَرِضَ عَلَى هذه الأحاديثِ بقولِه تَعَالَى: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام:164] وبقولِه: {وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ} [فاطر:18] كما توهَّمه بعضُ السُّخفاء؛ لأنَّ اللهَ تَعَالَى لم يَبْنِ أمورَ الدِّينِ عَلَى عقولِ العِبادِ بل أوعدَ وَوَعَدَ بمشيئتِه وإرادتِه، وأَمَرَ ونَهَى بحِكمَتِه، لا يُسأَلُ عما يفعلُ وهم يُسألون، ولو كَانَ كلُّ مَا لا تدركُه العقولُ مردودًا، لكان أكثرُ الشَّرعِ مستحيلًا عَلَى موضوع عقولِهم، فقد أوجبَ بخروجِ المَنيِّ _وهو طاهرٌ عند جماعةٍ_ الغُسلَ، وبخروج الأحداثِ عينًا وريحًا غَسْلَ الأعضاءِ الأربعةِ، والتَّسليمُ متعيِّنٌ، فكذا القِصاصُ بالحسناتِ والسَّيِّئات.
          وقد قال تَعَالَى: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا} [الأنبياء:47] وقال: {وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ} [العنكبوت:13] وَقال: {لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ} [النحل:25] وهَذَا يبيِّنُ معنى قَوْلِه: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} أَيْ لا تحمِلُ حاملةٌ حِمْلَ أُخرى إِذَا لم تتعدَّ، فإنْ تعدَّت حَمَلَتْ وأُخِذَ منها بغيرِ اختيارِها، قال تَعَالَى: {وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا} [البقرة:48].
          فَصْلٌ: فيجِبُ عَلَى كل مُسلمٍ البِدَارُ إلى محاسبةِ نَفْسِه، كما قال عُمَرُ ☺: حاسِبُوا أنفُسَكُم قبل أَنْ تحاسَبُوا، وزِنوها قبل أَنْ تُوزَنُوا. فإنَّ المرء إِذَا ماتَ وليس عليه فريضةٌ وَلا مَظلَمةٌ دَخَلَ الجنَّةَ بغيرِ حِسابٍ، فإنْ ماتَ قبل ردِّ المظالِم أحاطَ به خصماؤُه وأنشبُوا فيه مخاليبَهم وهو مبهوتٌ متحيِّرٌ مِن كثرتِهم حَتَّى لمْ يبقَ فِي عُمُرِهِ أحدٌ عاملَهُ عَلَى دِرْهمٍ أو جالَسَهُ فِي مجلسٍ إِلَّا وَقد استحقَّ عليه مَظْلَمةً بِغِيبةٍ أو خيانةٍ أو نظرةٍ بعينِ استحقارٍ إذْ قَرَعَ سَمْعَهُ نداءُ الجبَّار: {الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [غافر:17] فعند ذَلِكَ ينخلِعُ قلبُه مِن الهَيبةِ ويُوقِنُ بالبَوَارِ، فَعند ذَلِكَ يُؤخَذُ مِن حسناتِكَ الَّتِي تَعِبْتَ فيها عمرَكَ، وتُنقَلُ إِلَى خصمائِكَ عِوَضًا مِن حقوقِهم كما ورد فِي الأحاديثِ الَّتِي سُقناها.
          وقد قيل: لو أَنَّ رَجُلًا له ثوابُ سبعين صِدِّيقًا، وله خصمٌ بنصفِ دَانِقٍ لم يَدخل الجنَّةَ حَتَّى يُرضيَ خصمَه. وقيل: يُؤخَذُ بدانِقٍ واحِدٍ سبعُ مئة صلاةٍ مقبولةٍ فيُعطَى للخصمِ، ذكرَهُ القُشيرِيُّ فِي «تحبيره».
          فَصْلٌ: اختلفَ النَّاسُ فِي حشْرِ البهائمِ وفي القِصاصِ بعضِها مِن بعضٍ، فرُوِيَ عن ابنِ عبَّاسٍ: أَنَّ حَشْرَ الدَّوابِّ والطَّيرِ موتُها، وقاله الضَّحَّاكُ، وفي روايةٍ أخرى عَن ابن عبَّاسٍ أنَّها تُحشَرُ وتُبعَثُ، وَقاله أبو ذرٍّ وأبو هُرَيرةَ وعَمْرُو بن العاصِي والحسنُ البَصرِيُّ، وهو الصَّحيحُ لقولِه: {وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ} [التكوير:5] وقَوْلِه: {ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ} [الأنعام:38].
          قال أبو هُرَيرةَ: يَحشُرُ اللهُ الخلْقَ كلَّهم يومَ القيامةِ البهائمَ والطَّيرَ والدَّوابَّ وكلَّ شيءٍ، فيبلُغُ مِن عَدْلِ اللهِ أَنْ يَأخُذَ للشَّاةِ الجَمَّاءِ مِن القَرْناءِ، ثمَّ يقول: كوني ترابًا. ونحوُه عن عَبْدِ الله بن عُمَرَ وعبدِ الله بن عمرٍو. وفي بعضِ الأخبارِ أَنَّ البهائمَ إِذَا صارت ترابًا يومَ القيامةِ حوَّل اللهُ ذَلِكَ التُّرابَ فِي وجوهِ الكفَّارِ، فذلك قَوْلُهُ:{وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ} [عبس:40] أي غُبارٌ.
          وقالت طائفةٌ: الحشرُ فِي قَوْلِه: {ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ} [الأنعام:38] للكفَّارِ، وَأنَّ مَا تخلَّل مِن قَوْلِهِ: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ} [الأنعام:38] كلامٌ معترِضٌ وإقامةُ حُجَج، وأمَّا الحَدِيْثُ فالمقصودُ منه التَّمثيلُ عَلَى جِهَةِ تعظيمِ أَمْرِ الحِسابِ والقِصاصِ وأنَّه لا محيصَ لمخلوقٍ عَنْهُ، وعَضَدُوا ذَلِكَ بما رُوِيَ: ((حتَّى يُقاد للشَّاةِ الجَلحاءِ مِن الشَّاةِ القَرْناءِ، وللحَجَر لِمَ ركب الحَجَر، والعُودِ لِمَ خدشَ العُودِ)) قالوا: فَظَهَرَ مِن هَذَا أَنَّ المقصودَ التَّمثيلُ المفيدُ التَّهويلَ لأنَّ الجماداتِ لا تَعْقِلُ خطابَها ولا عقابَها وثوابَها، ولم يَصِرْ إليه أحدٌ مِن العقلاء، ومُتَخَيِّلُهُ مِن جُملةِ المعتوهين الأغبياء.
          أجاب مَن قَالَ: إنَّها تُحشَرُ وتُبعثُ بأنْ قَالَ: مِن الحكمةِ الإلهيَّةِ أَلَّا يجريَ أمرٌ مِن أمور الدُّنيا والآخرةِ إِلَّا عَلَى سنَّةٍ مسنونةٍ وحكمةٍ موزونةٍ، ومَن قال هنا بما قالتْه طَائفةٌ مِن المُتَّسِمِين بالعِلمِ: إِنَّ الجامدَ لا يفقَهُ، والحيوانَ غيرَ الإنسان لا يَعْقِلُ، وإنَّما هُوَ مُيِّزَ فِي الحيوانِ ولسانُ حالٍ فِي الجامد والنَّامي، وقال: إنَّ الله تَعَالَى يقول فِي الظَّالمين المكذِّبين: {إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا} [الفرقان:44] وَلو كَانَ عندَها عقلٌ أو فهمٌ مَا نَزَلَ بالكافِرِ الفَاسقِ إِلَى درجتِها فِي موضع التَّنقيصِ والتَّقصيرِ، واللهُ تَعَالَى قد وَصَفَهُ بالصَّمَمِ وَالموتِ فِي موضع التَّبصيرِ وَالتَّذكيرِ فقال: {وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ} [النمل:80] وقال: {أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ} [الزخرف:40] وقال: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ} [البقرة:171].
          قيل له: ليسَ الأمر كما ذكرْتَ، وإنْ شئتَ فارْجِعْ بَصَرَكَ فِي الَّذِي رَأيتَ تجدْه قَد وَصَفَهُمْ بالموتِ والصَّمَمِ كَما وَصَفَهُم بالعَمَى والبَكَمِ، وليسوا فِي الحقيقة الظَّاهرةِ بموتَى ولا صُمٍّ ولا عميانَ ولا بُكمٍ، وإِنَّمَا هم أمواتٌ بالعقولِ والأذهانِ عن صفةِ الإيمانِ وحياةِ دارِ الحَيَوان، صمٌ عَن كلمةِ الأحياءِ، عُمْيٌ عن النَّظرِ فِي مرآةِ وجوهِ الأخلَّاء، كَذلك وَصَفَ الأنعامَ بِضلالٍ وليست فِي الحقيقةِ بِضلالٍ مِن حيث شِرعتِها وحِكمتِها، وإِنَّمَا ذَلِكَ مِن حيث واقعها، وكيف يكون ذَلِكَ كذلكَ واللهُ تَعَالَى يقولُ: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ} إِلَى قَوْلِه:{يُحْشَرُونَ} [الأنعام:38] فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُم جَمًّا غفيرًا، ولنُحاسِبَنَّ حسابًا يسيرًا، {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} [النساء:82]. /
          وإنَّ اللهَ لا يسأل إِلَّا عاقلًا، وجَعَلَ لكلِّ موجودٍ مِن موجوداتِه فِي أشتاتِ الخلائقِ وأجناسِ العالَم دارَ دُنيا وَدارَ آخرةٍ، فمَن نَظَرَ إِلَى الأنْعامِ وجدَها مِن حيثُ نحنُ لا مِن حيثُ فَلَكِها، فكلُّ حيوانٍ وَجمادٍ محشورٌ لِمَا عندَه مِن الإدراكِ والمشاهدةِ والحضورِ مِن حيث هي لا مِن حيث نحن، قال تَعَالَى: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} [الإسراء:44] وقال: {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلَالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ} [الرعد:15]، وقال: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمس وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ} [الحج:18].
          قالوا: لا يُقال: هَذَا بلسانِ الحالِ دُون المقال، قلنا: نقول هَذَا مجازٌ، واللهُ يقصُّ الحقَّ كما أخبر فِي كتابه: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ} [الأنعام:57] ومَن نَظَرَ بنورِ الله حلَّ الرَّمزَ وفكَّ المعمَّى، وَهُم إِنَّمَا نظرُوا مِن حيث هُم ومِن حيثُ العقل، {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} [النور:40].
          قال القُرْطُبِيُّ: وهذا كلُّه صحيحٌ لحديثِ أبي سعيدٍ الخُدْريِّ وحَدِيْثِ أَبِي هُرَيْرَةَ ☻ فِي شهادةِ الأَرْضِ بما عُمِلَ عليها، وهما صَحيحان، وقد رَوَى ليثُ بنُ أبي سُلَيمٍ عن عبدِ الرَّحمن بن مروانَ عن الهُذيل عن أبي ذرٍّ ☺ قَالَ: رَأَى رَسُوْلُ الله صلعم شاتين تنتَطِحانِ فقال: ((لَيَقْضِ اللهُ يومَ القيامةِ لهذه الجمَّاءِ مِن هذه القَرْناء)).
          وذكَرَ ابنُ وَهْبٍ، أخبرَني ابنُ لَهِيعَةَ وعَمْرُو بن الحارثِ عن بَكْرِ بن سَوَادَةَ أَنَّ أبا سالمٍ الجَيْشَانِيَّ حدَّثه أَنَّ ثابتَ بنَ طَرِيفٍ استأذنَ عَلَى أبي ذرٍّ ☺ فَسمِعَهُ رافعًا صوتَه يقول: واللهِ لولا يومُ الخصومةِ لسُؤتُكِ، قال ثابتٌ: فقلتُ: يا أبا ذرٍّ مَا شأنُكَ؟ فقال: والَّذِي نفْسِي بيده لتُسألَنَّ الشَّاةُ فيما نَطَحَتْ صاحبتَها، وليُسألنَّ الجمادُ فيما نَكَتَ إصبع الرَّجُلِ.
          وروى شُعْبَةُ عن الأعمشِ عن إبراهيمَ التَّيْمِيِّ عن أبي ذرٍّ قَالَ: رَأى رسولُ الله صلعم شاتينِ تنتطحانِ فقال: ((يا أَبا ذرٍّ أتدري فيمَ تنتطحانِ؟)) قلتُ: لا، قَالَ: ((لكن الله يعلم، وسيقضي بينهما يوم القيامة)).
          ويُروى فِي بعضِ الأخبارِ كما قال القُشَيْرِيُّ فِي «تحبيرِه»: تُحشَرُ البهائمُ والوحوشُ يومَ القيامةِ فتسجدُ لله سجدةً، فتقولُ الملائكةُ: ليس هَذَا يومَ سجودٍ، هَذَا يومُ الثَّوابِ والعِقابِ، فتقولُ البهائمُ: هَذَا سجودٌ حيث لم يجعلْنا اللهُ مِن بني آدمَ. ويُقَالُ: إنَّ المَلائِكَة تقولُ للبهائم: إنَّ الله لم يحشرْكم لثوابٍ ولا عقابٍ، وإِنَّمَا حَشَرَكُم تَشهدونَ فضائحَ بني آدمَ.
          فَصْلٌ: وذَكَرَ أبو عَمْرٍو الدَّقَّاقُ فِي «أهوالِه وألويته» عَن ابنِ عبَّاسٍ ☻ أَنَّ المؤمنين لَمَّا أُمِرَ بهم إِلَى الجنَّةِ، وكَانَ بين قومٍ وآخَرينَ دعوى وضغائنُ وتَبِعاتٌ، فَطَفِقوا ينظُرُ بعضُهم إِلَى بعضٍ كالطَّالبِ الَّذِي يطلُبُ صَاحِبَه فَمَحَى اللهُ تلك الضَّغائنَ والتَّبعاتِ والدَّعوى مِن قلوبِهم، وَعقد لهم لواءً ونَادى المنادي: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ. ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آمِنِينَ} [الحجر:45-46] فاتَّبع القومُ لواءَهم حَتَّى دخلوا منازلَهم مِن الجنَّة.
          فَصْلٌ في زيادةٍ تنعطفُ عَلَى حَدِيْثِ ابْنِ مَسْعُودٍ ☺ فِي البابِ: (أوَّلُ مَا يُقضَى بَيْنَ النَّاسِ بِالدِّمَاءِ): رُوِّينا فِي كتابِ ابنِ غَيْلَانَ مِن حَدِيْثِ محمَّد بن كعبٍ القُرَظِيِّ عن رجلٍ عن أَبِي هُرَيْرَةَ ☺ حدَّثنا رَسُوْلُ الله صلعم: ((أوَّلُ مَا يُقضَى بين النَّاسِ فِي الدِّماء، ويأتي كلُّ قتيلٍ قُتِلَ فِي سبيلِ الله قد حَمَلَ رأسَهُ تَشْخُبُ أوْداجُهُ، فيقولُ: يا ربِّ سَلْ هَذَا فيمَ قَتَلَنِي؟ فيقولُ اللهُ تَعَالَى وهو أعلَمُ: فيمَ قتلْتَهُ؟ فيقول: يا ربِّ قتلْتُهُ لِتَكونَ العزَّةُ لك، فيقولُ: صدقتَ، فيجعل اللهُ وجهَه مِثْلَ نورِ الشَّمسِ، وتُشيِّعُه المَلائِكَةُ إِلَى الجِنان، ثمَّ يأتي كلُّ مَن قُتِلَ عَلَى غيرِ ذَلِكَ، فيقولُ: يا ربِّ: سلْ هَذَا فيمَ قتلني؟ فيقول له وهو أعلَمُ: لِمَ قتلْتَهُ؟ فيقولُ: لِتَكونَ العِزَّةُ لكَ، فيقولُ تَعَالَى: تَعِسْتَ، ثمَّ لا تبقى قِتْلَةٌ إِلَّا قُتِلَ بها، وَلا مَظلَمَةٌ ظَلَمَها إِلَّا أُخِذَ بها، وكَانَ فِي مشيئةِ اللهِ إنْ شاءَ عذَّبَه وإنْ شاءَ رَحِمَهُ)).
          ورَوَى القاضي إسماعيلُ مِن حَدِيْثِ نافِعِ بن جُبَيرِ بن مُطْعِمٍ عن ابنِ عبَّاسٍ ☻: سمعتُ نبيَّكُم صلعم يقول: ((يَأْتِي الْمَقْتُولُ مُعَلِّقٌ رَأْسُهُ بِإِحْدَى يَدَيْهِ مُلَبِّبًا قَاتِلَهُ بِيَدِهِ الأُخْرَى، تَشْخُبُ أَوْدَاجُهُ دَمًا، حَتَّى يَقِفَا بين يَدَيِ اللهِ، فَيَقُولُ الْمَقْتُولُ: هَذَا قَتَلَنِي، فَيَقُولُ اللهُ تعالى لِلْقَاتِلِ: تَعِسْتَ، وُيَذْهَبُ بِهِ إِلَى النَّارِ)).
          ورواه ابنُ المبارَكِ عن حمَّادِ بنِ سَلمَةَ عن عاصِمٍ عن أبي وائلٍ عن عَبْدِ الله ☺ مرفُوعًا، ورواه التِّرمذِيُّ بمعناه مِن حَدِيْثِ وَرقاءَ بنِ عُمَرَ عن عَمْرِو بن دِينَارٍ عنه، وقال: حسنٌ غريبٌ.