التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب قول الله تعالى: {ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون}

          ░47▒ بَابُ قَوْلِ اللهِ تَعَالَى: {أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ. لِيَوْمٍ عَظِيمٍ. يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [المطففين:4-6]
          وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ☻:{وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ} [البقرة:166] الوُصُلَاتُ فِي الدُّنْيَا.
          6531- ذَكَرَ فِيه حَدِيْثَ ابْنِ عُمَرَ ☻، عَنِ النَّبِيِّ صلعم: {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [المطففين:6] قَالَ: (يَقُومُ أَحَدُهُمْ فِي رَشْحِهِ إِلَى أَنْصَافِ أُذُنَيْهِ).
          ولمسلمٍ: ((يغيبُ)) بَدَلَ (يَقُومُ)، وقد سَلَفَ في تفسيرِ سورةِ: {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ} أيضًا بإسنادٍ آخَرَ إلى ابْنِ عُمَرَ [خ¦4938].
          6532- وحَدِيْثَ أَبِي هُرَيْرَةَ ☺ أَنَّ رَسُولَ الله صلعم قَالَ: (يَعْرَقُ النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يَذْهَبَ عَرَقُهُمْ فِي الْأَرْضِ سَبْعِينَ ذِرَاعًا، وَيُلْجِمُهُمْ حَتَّى يَبْلُغَ آذَانَهُمْ).
          الشَّرح: (الْوُصُلَاتُ) ضبطْناه بِضَمِّ الصَّادِ ويجوزُ إسكانُها وَفتْحُها أَيضًا كما نبَّه عليه ابنُ التِّين، وقَالَ الجَوهَرِيُّ: جمعُ وُصْلَةٍ وُصَلٌ. و(يَعْرَقُ) بفتْحِ الرَّاء فِي مستقبَلِه، وَكسْرِها فِي ماضيه. (وَيُلْجِمُهُمْ) بضمِّ الياءِ مِن ألجَمَ يُلجِمُ. والرَّشْحُ العَرَقُ.
          ولفظُ الْبَيْهَقِيِّ فِي حَدِيْثِ ابنِ عُمَرَ ☻: ((إنَّ الشَّمس لتدنو حَتَّى يبلُغَ العَرَقُ نِصْفَ الأُذُنِ)). وله مِن حَدِيْثِ إبراهيمَ الهَجَرِيِّ عن أبي الأَحْوَصِ عن عَبْدِ اللهِ مرفوعًا: ((إنَّ الكافر ليُلْجَمُ بِعَرَقهِ يومَ القيامةِ مِن طولِ ذَلِكَ اليومِ حَتَّى يقولَ: رَبِّ أَرِحْنِي ولو إِلَى النَّار)).
          ومِن حَدِيْث أبي خالدٍ الدَّالانيِّ عن المِنْهَالِ بن عَمْرٍو عن عَبْدِ الله بن الحارثِ عن أبي هُرَيرةَ ☺ قَالَ: يُحشَرُ النَّاسُ حُفَاةً عُرَاةً مُشَاةً غُرْلًا، قيامًا أربعين سنةً شاخصةً أبصارُهم إِلَى السَّماء. قَالَ: فَيُلْجِمُهُمُ العرَقُ مِن شِدَّةِ الكَربِ. الحديثَ. وكَانَ كَعْبُ الأحبارِ يزعُمُ أنَّهم يقومون مِقدارَ ثلاثِ مئة عامٍ.
          ورَوَى مُسلمٌ مِن حَدِيْثِ المِقدادِ ☺ مَرفوعًا: ((إِذَا كَانَ يومُ القيامةِ أُدنيتِ الشَّمسُ مِن العبادِ حَتَّى تكونَ منهم كمِقدارِ مِيلٍ أو ميلين)) قال سُليمٌ: لا أدري أرادَ أيَّ الميلينِ، أمسافةَ الأرضِ أَمِ الْمِيلَ الَّذِي تَكْتَحِل به العين؟ قَالَ: ((فَتَصْهَرُهم الشَّمسُ فيكونونَ فِي العَرَقِ بِقَدْرِ أعمالِهم، فمنهم مَن يأخذُهُ إِلَى حَقْوَيْهِ، ومنهم مَن يُلْجِمُه إلجامًا)) قَالَ: فرأيتُ رَسُوْلَ الله صلعم وَهو يشيرُ بِيَدِهِ إِلَى فِيْهِ.
          ورَوَى البَيْهَقِيُّ مِن حَدِيْث عُقْبَةَ بنِ عامرٍ مرفوعًا: ((تدنو الشَّمسُ مِن الأَرْضِ يومَ القيامة فَيَعْرَقُ النَّاسُ، فمِنَ النَّاسِ مَن يبلُغُ عَرَقُهُ عَقِبَهُ، ومنهم مَن يبلُغُ نِصفَ سَاقِهِ، وَمنهم مَن يبلُغُ رُكْبَتَيهِ، ومنهم مَن يبلُغُ فخِذَه، ومنهم مَن يبلُغُ خاصِرَتَهُ، ومنهم مَن يبلُغُ مَنْكِبَه، ومنهم مَن يبلُغُ فاهُ _فأشارَ بيدِه فأَلْجَمَها_ ومنهم مَن يغطِّيهِ عَرَقُه)) وضرَبَ بِيَدِهِ عَلَى رأسِه هَكذا.
          وعن ابنِ مسعودٍ ☺ أنَّه قَالَ: الأَرْضُ يومَ القيامة نارٌ كلُّها، وَالجنَّةُ مِن ورائِها تُرى كواكِبُهَا وَكواعِبُها، فَيَعْرَقُ الرَّجُلُ حَتَّى يَرْشَحَ عَرَقُهُ فِي الأَرْض قَدْرَ قامَةٍ، ثمَّ يرتفعُ حَتَّى يبلُغَ أنفَه، وَمَا مسَّه الحِسابُ.
          وعن عَبْدِ الله بن عَمْرٍو ☻ قَالَ: يشتدُّ / كرْبُ ذَلِكَ اليومِ حَتَّى يُلْجِمَ الكافرَ العَرَقُ، قيل له: فأين المؤمنون؟ قَالَ: عَلَى كراسِيَّ مِن ذَهبٍ، ويُظِلُّ عليهم الغَمامُ. وعن أبي ظُبْيَانَ قال أبو موسى: الشَّمسُ فوقَ رؤوسِ النَّاسِ، وأعمالُهم تُظِلُّهُم.
          ورَوَى ابنُ المبارَك فِي «رقائقِه» مِن حَدِيْثِ شَهْرٍ حَدَّثَنِي ابنُ عبَّاسٍ ☻: تُحشَرُ الأمم مِن الإنس والجنِّ عُراةً أذلَّاءَ، قد نُزع المُلك مِن مُلوك أهل الأَرْض، ولَزِمَهُم الصَّغَارُ بعد عُتُوِّهم والذِّلَّةُ بعد تَجَبُّرِهم عَلَى عبادِ اللهِ فِي أَرْضِه، حَتَّى إِذَا وافَى الموقفَ أهلُ السَّماواتِ السَّبْعِ والأرضينَ السَّبعِ كُسِيتِ الشَّمسُ حرَّ سبْعِ سنين، ثمَّ أُدنيتْ مِن الخلائقِ قابَ قوسٍ أو قوسينِ. الحَدِيْثَ بطوله.
          وفي «كشْفِ علومِ الآخرة» للغَزَالِيِّ: الخَلْقُ يتداخلُ حتَّى يبقى عَلَى القَدَمِ أَلْفُ قَدَمٍ لِشِدَّةِ الزِّحام، ويخوضُ النَّاسُ فِي العَرَقِ فِي أنواعٍ مختلفةٍ، فمنهم مَن يُصيبُه يَسِيرٌ كَالقاعدِ فِي الحمَّامِ، ومنهم مَن يُصيبُه البلَّةُ كَالعاطِشِ إِذَا شرِبَ الماءَ، وكيف لا يكونُ القَلقُ والعَرَقُ وقد قرُبَتِ الشَّمسُ مِن رؤوسِهم حَتَّى لو مَدَّ أحدُهم يدَه لنالَها معَ تضاعُفِ حَرِّها إِلَى سبعين مرَّةً.
          قال بعضُ السَّلف: لو طَلعتِ الشَّمسُ عَلَى الأَرْضِ كهيئتِها يومَ القيامة لاحترقَتِ الأَرْضُ وذابَ الصَّخْرُ ونَشِفَتِ الأنَّهارُ، فيقفونَ كذلك ألْفَ عامٍ، فإِذَا بالعرْشِ يحملُه ثمانيةُ أملاكٍ، فَلا يزالون كذلك يموجُ بعضُهم فِي بعضٍ أَلْفَ عامٍ، والجليلُ جلَّ جلالُه لا يُكلِّمهم كلمةً واحدةً، فحينئذٍ يذهبُ النَّاسُ إِلَى آدَمَ فيسألونَه الشَّفاعةَ فِي فَصْلِ القضاءِ.
          ورَوَى ابنُ أبي شَيْبَةَ عَن أبي مُعَاويةَ عن عاصِمٍ عن أبي عُثمَانَ عن سَلْمَانَ الخيرِ قَالَ: تُعطَى الشَّمسُ يومَ القيامةِ حَرَّ عشْرِ سنينَ، ثمَّ تُدنَى مِن جماجِمِ النَّاسِ حَتَّى تكون قابَ قوسينِ، قَالَ: فَيَعْرَقُون حَتَّى يَرْشَحَ العَرَقُ فِي الأَرْضِ قامةً، ثمَّ يرتفعُ حَتَّى يُغَرْغِرَ الرَّجُلُ، قال سَلْمَانُ: حَتَّى يقول الرَّجُلُ: غَرْ غَرْ.
          ورَوَى هنَّادُ بن السَّرِيِّ حدَّثنا قَبيصَةُ عَن سُفْيانَ عَن سُليمَانَ التَّيْمِيِّ عن أبي عُثمانَ عن سَلْمَانَ بلفظ: ولا يجدُ حَرَّها مؤمنٌ ولا مؤمنةٌ، وأمَّا الكفَّارُ فتطبُخُهُم طَبْخًا حَتَّى يُسمَعَ لأجوافِهم غِقْ غِقْ. والمرادُ مِن هَذَا: لا تَضِيرُ مؤمنًا كامِلَ الإيمانِ، أو مَن استظلَّ بالعرشِ كما سلف مِن حَدِيْث المقدادِ.
          ورَوَى ابنُ المبارَكِ عن مَالِكِ بْنِ مِغْوَلٍ عن عُبَيدِ الله بن العَيْزارِ قَالَ: يُزادُ فِي حرِّ الشَّمسِ يومئذٍ تسعةٌ وسِتُّون ضِعفًا. ورَوَى الوَائِليُّ مِن حَدِيْثِ عَبْدِ الله بن عَمْرٍو قَالَ: تلا رَسُوْلُ الله صلعم: {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [المطففين:6] ثمَّ قَالَ: ((كيف بكم إِذَا جَمَعَكُم اللهُ كما يُجْمَعُ النَّبْلُ فِي الكِنَانَةِ خمسينَ ألْف سنةٍ لا يَنظُرُ إليكم؟!)).
          فَصْلٌ: قال ابنُ العَرَبيِّ: كلُّ أحدٍ يقومُ عَرقُهُ معَه فَيغرَقُ فِيْهِ إِلَى أنصافِ سَاقيْهِ وإِلَى جانبيهِ كما سَلفَ، قَالَ: وهَذَا خِلافُ المعتادِ فِي الدُّنيا فإنَّ الجماعةَ إِذَا وقفُوا فِي الأَرْضِ المستويةِ أخذَهم الماءُ أَخْذًا وَاحدًا ولا يتفاوتون، وهَذَا مِن القُدرةِ الَّتِي تخرِقُ العاداتِ.
          ومثَّلَه ابنُ بَرَّجَانَ فِي «إرشادِه» بالمؤمنِ فِي الدُّنيا يمشي بنورِ إيمانِه فِي النَّاس، والكافرِ فِي ظلماتِ كُفرِه، والمؤمنُ فِي وقايةِ الله وكِفايتِه، والكافرُ والعاصي فِي خِذلانِه لهما وعدمِ العِصْمةِ، والمؤمن السُّني يَكْرَعُ فِي السُّنَّةِ ويَرْوَى ببَرْدِ اليقين، ويمشي في سبيلِ الهداية بحُسْنِ الاقتداء، والمبتدعُ عَطشانُ إِلَى مَا يرويه.
          فَصْلٌ: قال الغَزَالِيُّ: واعلمْ أَنَّ كلَّ عَرَقٍ لا يُخرجه التَّعبُ فِي سبيلِ الله مِن جهادٍ وَحجٍّ وقيامٍ وصيامٍ وتَرَدُّدٍ فِي قضاءِ حَاجةِ مُسْلمٍ وتحمُّلِ مشقَّةٍ فِي أمرٍ بمعروفٍ أو نهيٍ عن مُنكرٍ، فيستَخرِجُه الحياءُ والخوفُ فِي صَعِيدِ القيامةِ ويطولُ فِيْهِ كَرْبُه، ولو سَلِمَ ابنُ آدَمَ مِن الجهلِ والغرورِ لَعَلِمَ أَنَّ تَعَبَ العَرَقِ فِي حمْلِ مصاعِبِ الدُّنيا أهونُ أمرًا وأقصرُ زَمانًا مِن عَرَقِ الكَرْبِ والانتظارِ يومَ القيامة.
          فَصْلٌ: سَلَفَ حَدِيْثُ ابنِ عُمَرَ ☻ أَيضًا فِي التَّفسيرِ، فِي تفسيرِ: {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ} [المطففين:1] وتكلَّمنا عليه أَيضًا هناك، وأعدْناهُ لِبُعدِهِ [خ¦4938].