التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب قول النبي: بعثت أنا والساعة كهاتين

          ░39▒ بَابُ قَوْلِ النَّبِيِّ صلعم: (بُعِثْتُ أَنَا وَالسَّاعَةَ كَهَاتَيْنِ) {وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [النحل:77].
          6503- ثمَّ ساقَ حديثَ سَهْلٍ ☺ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلعم: (بُعِثْتُ أَنَا وَالسَّاعَةَ هَكَذَا) ويُشِيرُ بِإِصْبَعَيْهِ فَيَمُدُّهُمَا.
          6504- وحديثَ أَنَسٍ ☺، عَنْ رَسُولِ اللهِ صلعم قَالَ: (بُعِثْتُ أَنَا وَالسَّاعَةَ كَهَاتَيْنِ). يَعْنِي إِصْبَعَيْنِ.
          6505- وحديثَ أَبِي بَكْرٍ، عَنْ أَبِي حَصِينٍ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ☺، عَنْ رَسُولِ اللهِ صلعم قَالَ: (بُعِثْتُ أَنَا وَالسَّاعَةَ كَهَاتَيْنِ) يَعْنِي إِصْبَعَيْنِ. تَابَعَهُ إِسْرَائِيلُ عَنْ أَبِي حَصِينٍ.
          الشَّرح: قولُه: (كَهَاتَيْنِ) يعني إصبعينِ، أي السَّبَّابةَ والوسْطَى، والمعنى أنَّه ليس بينه وبينها نبيٌّ، وقيل: إنَّ بينهما يسيرًا كما بين السَّبَّابة والوسطى في الطُّول.
          ومِن هنا إلى كتابِ القَدَرِ حَذَفَهُ ابنُ بطَّالٍ، وذَكَرَ عَقِبَهُ بابَ فضائلِ القرآنِ وقد أسلفناه نحن. وعند الطَّبريِّ: زيادةٌ في الحديث: ((وإنَّما سَبَقَها بِما سبَقَتْ هذِه هذِه، يعني الوسطى والسَّبَّابةَ)) قال: وأورده مِن طُرُقٍ كثيرةٍ صحَّحَها، وأوردَ معه قولَه صلعم، يعني فيما رواه مِن حديثِ راشدِ بن سعدٍ عن سعدِ بن أبي وقَّاصٍ: ((لن يَعْجَزَ اللهُ أنْ يؤخِّرَ هذه الأُمَّةَ نِصْفَ يومٍ)) يعني خمسَ مئةِ عامٍ. وأخرجه أبو داودَ أيضًا. قال تعالى: {وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} [الحج:47].
          قال: وفي حديثِ زِمْلٍ الخُزَاعِيِّ حين قصَّ على رسولِ الله صلعم رؤياهُ، وفيها: رأيتُكَ يا رسولَ الله على منبرٍ له سبعُ درجاتٍ، وإلى جنبكَ ناقةٌ عَجْفاءُ كأنَّك تَتَّقِيها، ففسَّرَ له صلعم النَّاقةَ بقيامِ السَّاعةِ الَّتي أَنذَرَ بها، وقال في المنبر ودرجاتِه: ((الدُّنيا سَبعةُ آلافِ سنةٍ، بُعِثْتُ في آخِرِها)) والحديثُ وإنْ كان ضعيفَ الإسنادِ فقد رُوِيَ عن ابنِ عبَّاسٍ مِن طرقٍ صِحاحٍ أنَّه قال: الدُّنيا سبعةُ أيَّامٍ، كلُّ يومٍ ألفُ سنةٍ، وبُعِثَ رسولُ الله صلعم في آخِرِ يومٍ منها.
          وصحَّح الطَّبريُّ هذا الأصلَ وعَضَدَهُ بآثارٍ ثمَّ قال: وهذا فيما مَضَى، ما قَبْلَه يشهدُ له، وبيَّنه أنَّ الوسطى تزيدُ على السبَّابَةِ بنِصْفِ سُبْعٍ، كما أنَّ نِصْفَ يومٍ مِن سبعةٍ نصفُ سُبْعٍ، قال: وليس قولُه: ((لن يَعجز اللهُ أن يؤخِّرَ هذه الأُمَّةَ نصفَ يومٍ)) ما ينفي الزِّيادةَ على النِّصْفِ، ففي قولِه: (بُعِثْتُ أَنَا وَالسَّاعَةَ كَهَاتَيْنِ) ما يُقْطَعُ به على صِحَّةِ تأويلِها.
          وقد قيل في تأويلِه غيرُ هذا، وهو أنَّه ليس بينه وبين الساعة نبيٌّ غيرَه ولا شرعٌ غيرَ شَرْعِهِ مع التَّقريبِ بِحينِها، قال تعالى: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ} [القمر:1] و{أَتَى أَمْرُ اللهِ} [النحل:1] ولَمَّا نزلت هذه وثبَ رسولُ الله صلعم، فلمَّا نزلتْ {فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ} [النحل:1] جلس. قال بعضُهم: إنَّما وَثَبَ خوفًا أن تكونَ قد قامتْ.
          فإن قلتَ: قد ثبتَ أنَّه قال: ((مَا المَسْئُولُ عَنْهَا بِأَعْلَمَ مِنَ السَّائِلِ)) وهو دالٌّ على أنَّه لم يكنْ عنده عِلْمٌ منها، وحديثُ الباب دالٌّ على أنَّه كان عالمًا بها. قيل له: قد نطقَ القرآنُ بقولِه: {إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي} [الأعراف:187] فلم يكن يعلمُها هو ولا غيرُه، وحديثُ البابِ معناه: أنا النَّبيُّ الآخِرُ فلا يليني نبيٌّ آخَرُ، إنَّما تَلِيني القيامةُ كما تلي السبَّابةُ الوُسْطَى وليس بينهما إصبعٌ. وهذا لا يوجب أن يكون له علمٌ بها.
          قال السُّهَيليُّ: ولكن إذا قلنا إنَّه بُعِثَ في الأَلْفِ الآخِرِ بعدما مضتْ منه سُنُونٌ، ونظرْنا بعده إلى الحُروفِ المقطَّعَةِ في أوائلِ السُّوَرِ وجدْناها أربعةَ عَشَرَ حَرْفًا تجمعُها: ألم يَسطَعْ نصُّ حقٍّ كره، ثم نأخذُ الحسابَ على أبي جادٍ فنجدُ قاف مئةً وراء مئتينِ وسين ثلاث مئةٍ وعين سبعين وصاد ستين ونون خمسين وكاف عشرين وميم أربعين ولام ثلاثين وياء عشَرَةً وطاء تسعةً وألِفٌ واحدٌ وحاء ثمانية وهاء خمسة، فهذه تسع مئة وثلاثة. ولمْ يُسَمِّ اللهُ سبحانه في أوائلِ السُّوَرِ إلَّا هذه الأحرف، فليس يبعُدُ أن يكون مِن بعضِ مقتضياتِها / وبعضِ فوائدِها الإشارةُ إلى هذا العددِ مِن السنين لِمَا قدَّمناه مِن حديثِ الألْفِ السَّابِعِ الذي بُعث فيه، غيرَ أنَّ هذا الحسابَ يحتملُ أن يكونَ مِن مبعثِه أو مِن وفاتِهِ، وكلٌّ قريبٌ بعضُهُ مِن بعضٍ فقد جاء أشراطُها ولكن لا تأتيكم إلَّا بغتةً.
          وقد رُوِيَ أنَّ المتوكِّلَ العبَّاسِيَّ سأل جعفرَ بنَ عبدِ الواحدِ العباسِيَّ عمَّا بَقِي مِن الدُّنيا، فَحَدَّثَهُ بحديثٍ رَفَعَهُ إلى رسولِ الله صلعم أنَّه قال: ((إن أحسنتْ أُمَّتي فبقاؤها يومٌ مِن أيَّامِ الآخرة، وذلك ألفُ سنةٍ، وإن أساءتْ فنصفُ يومٍ)) ففي هذا الحديثِ تتميمُ الحديثِ المتقدِّمِ وبيانٌ له.
          هذا كلامُه. وقد ردَدْنا عليه فيما مضى، وأنَّ قولَه: زِمْلًا صوابُه ابنُ زِمْلٍ، وأنَّ العسكريَّ وابنَ منْده وابنَ حِبَّانَ سمَّوْهُ عبدَ الله، وأنَّ الطَّبريَّ سمَّاه الضَّحَّاكَ وتبِعَهُ أبو نُعَيمٍ، قال ابنُ الأثير: وأُراهما ذَهَبَا غيرَ مذهبٍ، ولعلَّهما حفِظَا اسمَ الضَّحَّاك بنِ زِمْلٍ الَّذي مِن أتباع التابعين فظنَّاه ذاك. وقال أبو موسى المدِينيُّ: أمَّا ابنُ زِمْلٍ هذا فلا أعلمُه سُمِّي في شيءٍ مِن الرِّوايات. ثمَّ إنَّه جَعَلَهُ خُزَاعيًّا وإنَّما هو جُهَنيٌّ كما بيَّنه الكلبيُّ وغيرُه.
          وأنَّ قولَه: وإن كان حديثُ زِمْلٍ ضعيفَ الإسنادِ، لا يُقال فيه، وقد قال ابنُ الأثير في كتابِه «مَنَال الطالب» إنَّ ألفاظَه مصنوعة ملفقةٌ، قال: وذكر بعضُ الحُفَّاظ أنَّه موضوعٌ، وقال أبو حاتمٍ: لا أعتمدُ على إسنادِه؛ ولَمَّا ذكرهُ ابنُ الجوزيِّ وَصَفَ بعضَ رُواتِه بالوضْعِ. واحتجاجُه بحديثِ جعفرٍ أعجبُ منه لقولِ الدَّارَقُطنيِّ فيه: كان كثيرَ الوضعِ.