التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب التواضع

          ░38▒ بَابُ التَّوَاضُعِ.
          6501- ذَكَرَ فيه حديثَ أَنَسٍ ☺: كَانَ لِلنَّبِيِّ صلعم نَاقَةٌ. وفي لفظٍ: كَانَتْ نَاقَةٌ لِرَسُولِ اللهِ صلعم تُسَمَّى: العَضْبَاءَ، وَكَانَتْ لاَ تُسْبَقُ، فَجَاءَ أَعْرَابِيٌّ عَلَى قَعُودٍ لَهُ فَسَبَقَهَا، فَاشْتَدَّ ذَلِكَ عَلَى المُسْلِمِينَ، وَقَالُوا: سُبِقَتِ العَضْبَاءُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلعم: (إِنَّ حَقًّا عَلَى اللهِ أَنْ لَا يَرْفَعَ شَيْئًا مِنَ الدُّنْيَا إِلَّا وَضَعَهُ).
          6502- وحديثَ عَطَاءٍ _هو ابنُ يسارٍ_ عَنْ أَبِي هُرَيرةَ ☺ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلعم: (إنَّ اللهَ ╡ قَالَ: مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالحَرْبِ، وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ، وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا، وَإِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ، وَلَئِنِ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ، وَمَا تَرَدَّدْتُ عَنْ شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي عَنْ نَفْسِ المُؤْمِنِ، يَكْرَهُ المَوْتَ وَأَنَا أَكْرَهُ مَسَاءَتَهُ).
          الشَّرح: اللَّفظُ الثَّاني لحديثِ أنسٍ أخرجه البُخاريُّ عن محمَّدٍ _وهو ابنُ سلَامٍ البِيْكَنْدِيُّ_ أَخْبَرَنَا الفَزَارِيُّ _وهو مروانُ بنُ مُعَاويةَ_ وأبو خالدٍ الأحمرُ، وهو سليمانُ بن حيَّانَ الكوفيُّ أزْدِيٌّ، نَزَلَ في بني جعفرِ بن كِلابٍ.
          فصلٌ: ومعنى: (آذَنْتُهُ بِالحَرْبِ) أعلَمْتُه، وهو ممدودٌ لأنَّهُ رُباعيٌّ. والتقرُّبُ المرادُ به قُرْبً المنزِلَةِ وقَبولُ العملِ.
          وقولُهُ: (كُنْتُ سَمْعَهُ...) إلى آخرِه، هو مِن المجازِ، يعني أنَّه يحفظُه كما يحفظُ العبدُ جوارحَه لئلَّا يقعَ في مهلَكةٍ، قاله الدَّاودِيُّ، قال الخطَّابيُّ: هذه أمثالٌ والمعنى توفيقُه في الأعمالِ التي يباشرُها بهذه الأعضاء، وتيسيرُ المحبَّةِ له فيها، فيحفظُ جوارحَه عليه ويعصِمُه مِن / مواقعةِ ما يكرهُ اللهُ مِن إصغاءٍ إلى لهوٍ، ونَظَرٍ إلى ما نُهِيَ عنه، وبطشٍ إلى ما لا يحِلُّ لهُ، وسَعْيٍ إلى باطلٍ. قال: وقد يكونُ معناهُ سرعةَ إجابةِ الدُّعاءِ، والإنجاحِ في الطَّلبِ، وذلك أنَّ مساعيَ الإنسانِ إنَّما تكونُ بهذه الجوارحِ.
          فصلٌ: وفي حديثِ أَنَسٍ بيانُ الدُّنيا عند اللهِ تعالى مِن الهوانِ والضَّعَةِ، أَلَا ترى قولَه: (إِنَّ حَقًّا عَلَى اللهِ...) إلى آخرِه، فنبَّه بذلك أُمَّتَهُ على ترْكِ المباهاةِ والفخْرِ بمتاعِ الدُّنيا، وأنَّ ما كان عندَ الله في مَنْزِلِ الضَّعَةِ فَحَقٌّ على كلِّ ذي عَقْلٍ الزُّهدُ فيه وقِلَّةُ المنافسةِ في طَلَبِه وتركُ التَّرَفُّعِ والغبطةِ بنَيْلِه؛ لأنَّ المتاعَ به قليلٌ والحسابَ عليه طويلٌ.
          فصلٌ: وفي حديثِ أَبِي هُرَيْرَةَ ☺ مِن معنى البابِ أنَّ التَّقرُّبَ إلى اللهِ بالنَّوافِلِ حتَّى يستحقَّ المحبَّةَ منه تعالى لا يكونُ ذلك إلَّا بغايةِ التَّواضُعِ والتَّذلُّلِ له وهذا وجه مناسبتِه للبابِ، وإنْ قال الدَّاودِيُّ: إنَّه ليس مِن البابِ، وقال في حديثِ أَنَسٍ أيضًا: إنَّ إدخالَه هنا ليس مِن شَكْلِه، وقد يحتمل أن يريد أنَّ قولَه: (إِلَّا وَضَعَهُ) فيه تواضُعُه ◙ وإعلامُه أنَّ أُمورَ الدُّنيا ناقصةٌ، ففي مضمونِه الأمْرُ بالتَّواضُعِ وأنْ يكونَ المرْءُ يجتنبُ التَّعاظُمَ والكِبْرَ ويستعملُ الخضوعَ.
          فَصْلٌ: فيه أنَّ النَّوافِلَ إنَّما يزكو ثوابُها عند الله لمن حافظَ على فرائضِه وأدَّاها، قال ابنُ بطَّالٍ: ورأيتُ لبعضِهم أنَّ وجه البصَرِ _وكذا الأُذُنِ في روايةٍ_ واليدِ والرِّجْلِ أنَّه لا يحرِّكُ جارحةً مِن جوارحِه إلَّا للهِ وفي اللهِ، فجوارحُه كلُّها تعملُ بالحقِّ، فمَن كان كذلك لم تُردَّ له دعوةٌ.
          فَصْلٌ: وفيه جوازُ المسابقةِ بالإبِلِ وهو الإجماعُ، ولا بأس بالرَّهن فيه، ولم يقل مالكٌ بالمحلِّلِ والحديثُ جاء به. قال الدَّاودِيُّ: وليس سَبْق العَضْبَاءِ يَنْقُصُ مِن فضلِهِ ◙ ولا يزيدُ في صاحب القَعُودِ.
          و(الْعَضْبَاءُ) الَّتي قُطِعَ طرفُ أُذُنِها أو شُقَّ، ولم تكن عَضْبَاءَ بل كان عَلَمًا لها، وعبارةُ ابنِ فارسٍ: شاةٌ عَضْبَاءُ مكسورةُ القَرْنِ.
          والقَعُودُ: النَّاقَةُ الكبيرةُ الَّتي طَعَنَتْ في السِّنِّ، بفتْحِ القافِ. قال في «الصِّحاح»: وهو مِن الإبِلِ البَكْرُ حين يُركب، أي يمكن ظهرُه مِن الرُّكوبِ وأدنى ذلك أنْ تأتِيَ عليه سنتانِ، إلى أن يُثْنِيَ فإذا أَثْنَى سُمِّيَ جملًا، ولا تكونُ البكْرَةُ قَعُودًا بل قَلُوصًا. قال أبو عُبَيدٍ: القَعُودُ مِن البعير الَّذي يَقْتَعِدُهُ الرَّاعي في كلِّ حاجةٍ. قال: وهو بالفارِسِيَّةِ رَخْتْ، ويُقالُ له: قُعْدةٌ بِضَمِّ القاف. وقال ابنُ فارسٍ: القَعُود الدَّابَّةُ المُقْتَعَدَةِ للرُّكوبِ خاصَّةً، والقَعُودُ مِن الإبِلِ كذلك.
          فصلٌ: وقد جاءَ في فضلِ التَّواضُعِ آثارٌ كثيرةٌ، فَرَوَى الطَّبريُّ مِن حديثِ شُعْبَةَ عن العلاء بن عبد الرَّحمن عن أبيه عن أبي هُرَيْرَة ☺ رفعه: ((ما تواضَعَ رجلٌ إلَّا رفعه الله بها درجةً)) وعن عِكْرَمةَ عن ابنِ عبَّاسٍ ☻ رَفَعَهُ: ((ما مِن بني آدمَ أحدٌ إلَّا وفي رأسِه سِلْسِلَتِانِ: إحداهُما في السَّماءِ السَّابعةِ، والأُخرى في الأرضِ السَّابعة، فإذا تواضَعَ رَفَعَهُ الله بالسِّلسِلَةِ الَّتي في السَّماءِ، وإذا أراد أن يرفعَ رأسَه وَضَعَهُ الله)).
          وفي «كتابِ الجوزيِّ»: قالت عائِشَةُ ♦: إنَّكم لتغفلونَ عن أفضلِ العبادةِ التواضعِ. وفيه مِن حديثِ إسماعيلَ بنِ عيَّاشٍ عن مُطْعِمِ بن المِقدَام الصَّنْعانيِّ وعنْبَسةَ بنِ سعيدٍ عن نَصِيحٍ العَنْسِيِّ عن رَكْبٍ الحِمْيَريِّ قال رسولُ الله صلعم: ((طوبى لمن تواضعَ مِن غيرِ منقصةٍ، وذلَّ في نفْسِه مِن غيرِ مسكنةٍ)) الحديث. ومِن حديثِ الحجَّاجِ بن يُوسُفَ الأَصْبَهانيِّ عن بِشْرِ بن الحسين حدَّثنا الزُّبيرُ بن عَدِيٍّ عن أنسٍ رَفَعَه: ((إنَّ التَّواضُعَ لا يزيدُ العبدَ إلَّا رِفْعَةً، فتواضعوا يرفَعْكُم الله تعالى)).
          ومِن حديثِ نُعَيمِ بن مورِّقٍ عن هشامٍ عن أبيه عن عائِشَةَ مرفوعًا: ((مَن تواضع لله رفَعَهُ اللهُ، ومَن تكبَّر وضَعَهُ الله)) ومِن حديثِ محمَّد بن طَلْحَةَ بن يَحيى بن طَلْحَةَ عن أبيه عن جدِّه عن طَلْحَةَ بنِ عُبَيدِ اللهِ بمثْلِه مرفوعًا. وعن الحسنِ: قال رسولُ الله صلعم: ((أوحَى اللهُ إليَّ أنْ تَواضَعُوا حتَّى لا يبغي أحدٌ على أحدٍ، ولا يفخَرَ أحدٌ على أحدٍ)) ورُوِّينا في «رقائق ابن المبارك» عن معاذِ بن جبلٍ أنَّه قال: لن يبلُغَ ذِروةَ الإيمان حتَّى تكون الضّعَةُ أحبَّ إليهِ مِن الشَّرَفِ، وما قلَّ مِن الدُّنيا أحبَّ إليه مما كثُرَ.
          فَصْلٌ: قال الطَّبريُّ: التَّواضُعُ مِن المحنِ الَّتي امتحنَ اللهُ بها عبادَه المؤمنين لينظُرَ كيف طاعتُهم إيَّاه فيها، ولِمَا عَلِمَ تعالى مِن مصلحةِ خَلْقِه في ذلك في عاجلِ دنياهم وآجِلِ أُخراهم، فمصلحةُ الدُّنيا به لو استعمله النَّاسُ لارتفعَ واللهُ أعلمُ الشَّحناءُ بينهم والعداوةُ واستراحوا مِن تَعَبِ المباهاةِ والمفاخرةِ والْتَذُّوا بما قُسِمَ لهم، وكان لهم فيه صلاحُ ذاتِ البَيْنِ وارتفاعُ الحسدِ والشُّحِّ. رَوَى النُّعمانُ بن بَشِيرٍ عن رسولِ الله صلعم أنَّه قال: ((للشيطان مصائدُ وفخوخٌ، منها البَطَرُ بِأَنْعُمِ الله، والفخرُ بعطاءِ الله، والتكبُّر على عبادِ الله)).
          فَصْلٌ: وتواضعُه صلعم معلومٌ لا يَخفَى، ومنه أنَّه لَمَّا دخلَ مكَّةَ جعل النَّاسُ يقولون: هو هذا، هو هذا، فجعل يَحنِي ظَهْرَهُ على الرَّحْل، ويقول: ((اللهُ أعلى وأجلُّ)) وهذه سيرة السَّلِفِ المهديِّين: رَوَى سُفْيانُ عن أيُّوبَ الطَّائيِّ عن قيسِ بن مُسْلِمٍ عن طارق بن شِهَابٍ قال: لَمَّا قَدِمَ عُمَرُ الشَّامَ عرَضَتْ له مَخاضةٌ، فَنَزَلَ عن بعيرِه ونَزَعَ خُفَّيْهِ فأمسكهما بِيَدِه وخاض الماءَ ومعه بعيرُه، فقال له أبو عُبَيدة: قد صنعتَ اليوم صنعًا عظيمًا عند أهلِ الأرضِ، فَصَكَّ في صدْرِه، وقال: لو غيرُكَ قالها يا أبا عُبَيدةَ، إنَّكم كنتم أذلَّ النَّاسِ وأحقرَ النَّاسِ فأعزَّكم اللهُ بالإسلام، فمهما تطلبون العِزَّ في غيرِه يذلُّكم الله. /
          ورَوَى ابنُ وَهْبٍ بإسنادِه عن أبي هُرَيْرَة ☺ أنَّه أقبلَ في السُّوقِ يحمِلُ حُزمَةَ حَطَبٍ وهو يومئذٍ خليفةٌ لمروانَ، فقال: أَوْسِعُوا الطَّريقَ للأميرِ فقيل له: تُكفَى أصلحكَ الله، فقال: أَوْسِعِ الطَّريقَ، والحُزْمَةُ عليه. وعن عبدِ الله بنِ سَلَامٍ أنَّه خَرَجَ مِن حائطٍ له بحُزمةِ حطبٍ يحملُها، فقيل له: قد كان في ولَدِكَ وعبيدِكَ مَن يكفيك هذا قال: أردتُ أنْ أجرِّبَ قلبي هل يُنكِرُ هذا. وعن سالمِ بن عبدِ الله أنَّه كان يخرُجُ إلى السُّوقِ فيشترِي حوائجَ نفْسِه، وكان الرَّبيعُ بن خُثَيْمٍ يَكْنُسُ الحُشَّ بنفْسِه، فقيل له: إنك تُكْفَى هذا، فقال: أُحِبُّ أن آخُذَ نصيبي مِن المهنةِ. واستقصاءُ ذلك ممَّا يَطُولُ.
          فَصْلٌ: وقولُه: (وَمَا تَرَدَّدْتُ عَنْ شَيْءٍ...) إلى آخرِه، أي ما عَطَفْتُ وشَفِقْتُ، والكراهيةُ مِن الله والمحبَّةُ والرِّضا والسَّخَطُ والغضبُ ما يكون منه مِن ذلك قد سَبَقَ في عِلْمِه فليس هو محتمِلَ الحوادثِ. وقال الخطَّابيُّ: هو مَثَلٌ، والتردُّدُ في صفاتِ الله غيرُ جائزٍ، والبُداءُ عليه في الأمورِ غيرُ ثابتٍ، وتأويلُه على وجهين:
          أحدُهما: أنَّ العبدَ قد يُشرِفُ مرَّاتٍ على المهالِك فيدعو اللهَ فيشفيه، يكون ذلك مِن فِعْلِه كتردُّدِ مَن يريد أمرًا ثمَّ يبدو له ولا مردَّ له إذا بَلَغَ الكتابُ أجلَه فإنَّه كَتَبَ الفَنَاءَ على خَلْقِه، وهذا على معنى ما وردَ أنَّ الدُّعاءَ يَرُدُّ البلاء.
          والثَّاني: ما رَدَّدْتُ رُسُلِي في شيءٍ أنا فاعِلُه تَردِيدِي إيَّاهم في ذلك، كمَا رُوِيَ في قِصَّةِ موسَى ومَلَكِ الموتِ، وما كان مِن لَطْمِه وترَدُّدِه إليه، وحقيقةُ المعنى في الوجهين بقاءُ عَطْفِ اللهِ على العبدِ وشَفَقَتِه عليه.