التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب ما يحذر من زهرة الدنيا والتنافس فيها

          ░7▒ بابُ مَا يُحْذَرُ مِن زَهْرَةِ الدُّنْيَا.
          6425- 6432- ذكر فيه حديث عَمْرو بن عَوْفِ (أنَّه صلعم بَعَثَ أَبَا عُبَيْدَةَ إِلَى البَحْرَيْنِ يَأْتِي بِجِزْيَتِهَا..) الحديثَ. سلف في الجِزية [خ¦3158].
          6426- وحديث عُقْبَةَ بن عامرٍ: / (وَلَكِنْ أَخَافُ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنَافَسُوا فِيهَا). وسلف في الجنائز [خ¦1344].
          6427- وحديث أبي سعيدٍ: (إِنَّ أَكْثَرَ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمْ مَا يُخْرِجُ اللهُ لَكُمْ مِنْ بَرَكَاتِ الأَرْضِ). وسلف في الزَّكاة، في باب: الصَّدقة على اليتامى [خ¦1465].
          6428- وحديث عِمْرَانَ بن حُصَينٍ: (خَيْرُ القرون قَرْنِي) سلف في الفضائل [خ¦3650].
          6429- وكذا حديث ابن مسعودٍ.
          6430- 6431- وحديث خبَّابٍ سلف قريبًا [خ¦4082].
          وفي هذه الأحاديث: التنبيهُ على أنَّ زهرة الدُّنيا ينبغي أن يخشى سوءَ عاقبتِها وشرَّ فتنتِها مَن فتح الله عليه الدنيا ويحذرَ التنافُسَ فيها والطمأنينةَ إلى زُخرفها الفاني؛ لأنَّهُ صلعم خشي ذلك على أُمَّتِهِ، وحذَّرَهم منه لعلمِهِ أنَّ الفتنة مقرونةٌ بالغنى.
          ودلَّ حديث عِمْرانَ وعبدِ الله أنَّ فتنة الدنيا لمن يأتي بعد القرن الثالث أشدُّ، حيث قال في سبق الشهادة وظهور السِّمَن، فجعل ظهورَ السِّمَن فيهم وشهادتَهم بالباطل وخيانتَهم الأمانة، ومنافستَهم في الدنيا، وأخذِهم لها مِن غير وجهها، كما قال صلعم في حديث أبي سعيدٍ: ((ومَن أخذه بغير حقَّهِ فهو كالآكل الذي يأكلُ ولا يشبعُ))، ولذلك خَشِيَ عُمَرُ بن الخطَّاب ☺ فتنةَ المال، فرُوي عنه: أنَّه لَمَّا أُتي بأموالِ كِسرى باتَ هو وأكابرُ الصَّحابة عليه في المسجد، فلمَّا أصبح وأصابته الشمَّس ائتَلَقَت تلك التيجانُ فبكى، فقال له عبد الرَّحمن بن عوفٍ: ليس هذا حينَ بكاءٍ إنَّما هو حينُ شكرٍ، فقال عُمَرُ ☺: إنِّي أقول ما فتح اللهُ هذا على قومٍ قطُّ إلَّا سفكوا دماءَهم، وقطعوا أرحامَهم، وقال: اللَّهُمَّ منعت هذا رسولك صلعم إكرامًا منك له، وفتحته عليَّ لتبتليني به، اللَّهُمَّ اعصمني مِن فتنتِهِ.
          فهذا كلُّه يدل أنَّ الغنى بليَّةٌ وفتنةٌ، ولذلك استعاذ صلعم مِن شرِّ فتنته، وقد أخبر الله تعالى بهذا المعنى، فقال لرسوله صلعم: {لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ} الآية [طه:131]، وقَرَنَ الفتنة به فقال تعالى: {أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ} [الأنفال:28] ولهذا آثرَ سلفُ الأمَّةِ التقلُّلَ مِن الدُّنيا وأخْذَ البُلْغةَ، إذ التعرُّضُ للفتن غَرَرٌ.
          فَصْلٌ: قوله في حديث أبي سعيدٍ: (وَإِنَّ كُلَّ مَا أَنْبَتَ الرَّبِيعُ يَقْتُلُ حَبَطًا أَوْ يُلِمُّ) هو مِن أبلغ الكلام في تحذير الدنيا والرُّكون إلى غَضَارتها، وذلك أنَّ الماشيةَ يروقُها نبتُ الربيع فتُكْثِر أكلَهُ، فربَّما تفتَّقَت سِمَنًا فَهَلَكت، فضرب صلعم هذا المَثَلَ للمؤمن أن لا يأخذ مِن الدنيا إلّا قدرَ حاجته، ولا يروقه زهرتها فتُهْلِكَهُ.
          قال الأصمعيُّ: والحَبَطُ: هو أن تأكل الدَّابَّةُ فتُكْثِرَ حتَّى ينْتَفِخَ لذلك بطنُها وتمرضَ عنه.
          وقوله: (أَوْ يُلِمُّ) يعني: يُدني مِن الموت.
          وحَبَطَ: بالحاء المهملة. قال الشيخ أبو الحسن: وهو الذي أعرفُ، ووقع في كتابي بالخاء المعجمة، و(ثَلَطَتْ): بفتح اللام، ورُوِّيناه بكسرها.
          وقوله: (وَإِنَّ كُلَّ مَا أَنْبَتَ الرَّبِيعُ) قال الدَّاوديُّ: إنْ كان اللفظُ الكلَّ فقد يأتي بمعنى البعض، قال: وهي لغةٌ سائرةٌ، وقد سلف أيضًا في باب: الصَّدقة على اليتامى مِن كتاب الزكاة [خ¦1465].
          فَصْلٌ: قول خبَّابٍ ☺: (إِنَّ أَصْحَابَ محمَّدٍ صلعم مَضُوا ولَمْ تَنْقُصْهُمُ الدُّنْيَا شَيْئًا) سببه: إنَّهُ لم يكن في عهد رسول الله صلعم مِن الفتوحات والأموال ما كان بعده، وكان أكثر الصَّحابة ليس لهم إلَّا القوتُ، ولم ينالوا مِن طَيِّباتِ العيش ما يخافون أن ينقصهم ذلك مِن طيِّباتِ الآخرة، أَلَا ترى قول عُمَرَ بن الخطَّاب ☺ حين اشترى لحمًا بدرهمَ: أين تذهب هذه الآية: {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا}؟[الأحقاف:20]. فدلَّ أنَّ النِّعمَ في الدنيا والاستمتاع بطيِّبَاتِها تُنقص كثيرًا مِن طيِّباتِ الآخرة.
          وقوله: (وَإِنَّا أَصَبْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ شَيْئًا، لاَ نَجِدُ لَهُ مَوْضِعًا إِلَّا التُّرَابَ) قال أبو ذرٍّ: يعني البنيانَ، ويدلُّ على صِحَّةِ هذا التأويل: أنَّ خبَّابًا قال هذا القول وهو يبني حائطًا له. وقال غيره: أراد كثرةَ الأموالِ. وقال الدَّاوديُّ: يعني لا يكاد ينجو مِن فتنته إلَّا مَن مات وصار إلى التراب. وقد سلف ذلك واضحًا في باب: تمنِّي المريضِ الموتَ من كتاب المرضى [خ¦5672].
          فَصْلٌ: قوله في حديث أبي عُبَيْدَةَ: (أَجَلْ) أي: نعم. قال الأخفشُ: إلَّا أنَّهُ أحسنُ مِن نَعَمْ في التَّصديق، ونَعَمْ أحسنُ منه في الاستفهام، فإذا قلت: أنت سوف تذهبُ، قلت: أَجَلْ. وكان أحسن مِن نَعَمْ وإذا قال: تذهب؟ قلت: نَعَمْ، وكان أحسنَ مِن أَجَلْ.
          فَصْلٌ: كان قدومُ أبي عُبَيْدَةَ سنةَ عشرٍ، قدم بمئة ألف وثمانين ألف درهمٍ، كذا في «جامع المختصر»، وفي غيره: أنَّهم كانوا مجوسًا. وقال قَتَادَةُ: كان المال ثمانين ألفًا. قال ابن حبيبٍ: وهو أكثر مالٍ قُدِم به على رسول الله صلعم، قال الزُّهريُّ: قَدِم به ليلًا. قال قَتَادَةُ: وصبَّه على حصيرٍ وفرَّقَهُ، وما حرَم منه شيئًا، وجاء العبَّاسُ فجعل يَحْثِي في حِجْرهِ حتَّى عَجَز عن حملِهِ، وكان الجملُ إذا بركَ حَمَلَه بيدِهِ، وكان استعان في حملِهِ فنهاهم صلعم عن ذلك، حتَّى نقص منه، وقويَ على النهوض به.
          وفيه مِن الفوائد أخذُ الجزية مِن المجوسٍ وهو مذهبنا ومذهب مالكٍ، خلافًا لعبد الملك.
          فَصْلٌ: وقوله: (صَلَّى عَلَى أَهْلِ أُحُدٍ صَلاَتَهُ عَلَى المَيِّتِ) ظاهره أنَّها حقيقةٌ وبه قال بعضهم، وخُولف، وإنَّما دعا، وهو قول المالكيَّةِ بناءً على أنَّ القبر لا يُصلَّى عليه، لكنَّهُم شهداءُ.
          فَصْلٌ: والفَرَطَ المتقدِّمُ وهو فَرَطٌ بالفتح بمعنى: فَارِط، يُقَال: رجلٌ فَرَطٌ، وقومٌ فَرَطٌ، ومنه: اجعله فَرَطًا لأبويه، أي: أَجْرًا مُتَقدِّمًا حتَّى يَرِد عليه.
          فَصْلٌ: قوله: (خَضِرَةٌ حُلْوَةٌ) يريد أنَّ صُورةَ الدُّنيا ومتاعَها حسنةٌ مَزْلَقةٌ، والعرب تُسمِّي الشيءَ المشرِقَ الناضر خَضِرًا تشبيهًا له بالنَّباتِ الأخضر، ومنه سُمِّي الخَضِر لحسنِهِ، وخَضْراءُ الدِّمَنِ فكأنَّهُ أراد ظاهرها حَسَنٌ وباطنها رديءٌ، وقال الهَرَويُّ: يعني غَضَّةً ناعمةً طريَّةً.
          وقوله: (لاَ يَأْتِي الخَيْرُ إِلَّا بِالخَيْرِ) تقول: ما كان مِن ذلك خيرًا أُخذ بحقِّه ووُضع في حقِّه وأُريد به وجهُ الله، لم يأتِ إلَّا بخيرٍ.
          وقوله: (هَذَا المَالَ خَضِرَةٌ حُلْوَةٌ) مثَّله بالفواكِهِ أوَّلَ ما تكون / طريةً لم يغيِّرها ظرفٌ ولا مكيالٌ ولا يدٌ، فلا يكاد مَن رآها إلَّا اشتهاها.
          فَصْلٌ: قوله: (خَيْرُكُمْ قَرْنِي) أي: أصحابي. (ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ) يعني: التابعين لهم بإحسانٍ، واشتقاقه من الاقترانِ، وقيل: القرن ثمانون سنةً أو مئةً أو أربعون، وقال ابن الأعرابيِّ: القَرْن: الوقتُ مِن الزَّمان.
          فَصْلٌ: قوله: (يَشْهَدُونَ وَلاَ يُسْتَشْهَدُونَ) أي: يبادرونها، وهذا في حقِّ الآدمِيِّ لا في حقِّ الله تعالى، وقيل: يشهدُ بما لا يسمع.
          وقوله: (وَيَخُونُونَ وَلاَ يُؤْتَمَنُونَ) أي: يخونون فيما لم يُؤتمنوا عليه، فكيف لو ائتُمنوا؟ كانوا أشدَّ خيانةً.
          وقوله: (وَيَنْذُرُونَ وَلاَ يُوفُونَ) هو بفتح الياء، مِن (يَنذُرون) ثلاثيٌّ مِن نذَر ينذر بالكسر والضمِّ.
          وقوله: (وَيَظْهَرُ فِيهِمُ السِّمَنُ) هو نحو قوله: ((أَلَا أَخْبِرُكم بأهل النَّار؟ كلُّ جَعْظَرِيٍّ جَوَّاظٍ))، أي: كثير اللَّحْمِ، وهو قبيحٌ في حقِّ الرِّجال.