التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب: المكثرون هم المقلون

          ░13▒ بابُ المُكْثِرُون هُمُ المُقِلُّونَ.
          وقوله تعالى: {منْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ} إلى قوله {كَانُوا يَعْمَلُونَ} [هود:15-16].
          6443- ثم ذكر حديث زيدِ بن وَهْبٍ عن أبي ذرٍّ ☺ قال النَّبيُّ صلعم: (إِنَّ المُكْثِرِينَ هُمُ المُقِلُّونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، إِلاَّ مَنْ أَعْطَاهُ اللهُ خَيْرًا، فَنَفَحَ فِيهِ يَمِينَهُ وَشِمَالَهُ وَبَيْنَ يَدَيْهِ وَوَرَاءَهُ، وَعَمِلَ فِيهِ خَيْرًا..) الحديث بطوله، وفي آخره: (وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ وَإِنْ شَرِبَ الْخَمْرَ) ثمَّ قال: وقال النَّضرُ: حدَّثنا شُعْبَةُ، حدَّثنا حبيبُ بن أبي ثابتٍ والأعمشُ وعبدُ العزيز بن رُفَيع، حدَّثنا زيدُ بن وَهْبٍ بهذا. قال أبو عبد الله: حديث أبي صالحٍ، عن أبي الدَّرداء مرسَلٌ لا يصحُّ، إنَّما أَرَدْنا للمعرفة، والصحيح حديث أبي ذرِّ. قيل لأبي عبدالله: حديث / عطاءِ بن يَسَارٍ، عن أبي الدَّرداء؟ قال: مرسلٌ أيضًا لا يصحُّ، والصَّحيحُ حديث أبي ذرٍّ. وقال: اضرِبُوا على حَدِيث أبي الدَّرداء هذا، إذا ماتَ قال: لَا إله إلَّا اللهُ عِنْدَ المَوْتِ.
          الشَّرح: أمَّا الآية فقال فيها سعيدُ بن جُبَيرٍ: مَن عمل عملًا يريد به غير الله جُوزي عليه في الدُّنيا. وقال الضَّحَّاك: يعني: المشركين إذا عملوا عملًا جُوزوا عليه في الدنيا. وهذا أبينُ لقوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّار} [هود:16] ونقله ابن بطَّال عن أهل التأويل، فقال عنهم: هي عامَّة في اللفظ خاصَّة بالكفَّار بدليل هذه الآية وذكرها البخاريُّ لتحذير المؤمنين مِن مشابهة أفعال الكافرين في بيعهم الآخرة بزينةِ الدُّنيا الفانية، فيدخلوا في معنى قوله: {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ} الآية [الأحقاف:20].
          و({نُوَفِّ}): نوصِلُ إليهم أجورَ أعمالهم كاملةً وافيةً مِن غير بَخْسٍ، فيها وهو ما يُرزقون فيها من الصِّحَّةِ والرِّزق، وقُرئ: {يوفِّ} بالياء على أنَّ الفعل لله، وبالتاء على البناءِ للمفعول، و{يُوفِي} بالتخفيف وإثبات الياء؛ لأنَّ الشرط وقع ماضيًا. و({حَبِطَ}) في الآخرة ما صنعوه أو صنيعهم يعني: لم يكن لهم ثوابٌ؛ لأنَّهم لا لم يريدو به الآخرة. {وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} أي: عملهم في نفسه باطلًا. وقُرئ: {وبَطَل} على الفعل. وعن عاصمٍ: {وبَاطِلًا} بالنَّصب أي: باطلٌ كانوا يعملون، ويجوز أن يكون بمعنى المصدر على: وبطل بطلانًا ما كانوا يعملون.
          وقوله: (وَقَالَ النَّضْرُ: أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ..) إلى آخره، قال الإسماعيليُّ: ليس في حديث شُعْبَةَ قِصَّةُ المكثرين والمقلِّين، إنَّما فيه قِصَّة: مَن مات لا يشرك بالله شيئًا، والعَجَبُ مِن أبي عبد الله كيف أطلق فيه الكلام! ثمَّ ساقه مِن حديث الحسن: حدَّثنا حُمَيدٌ _يعني: ابنَ زَنْجُوَيه_ حدَّثنا النَّضْر بن شُميلٍ به: ((إنَّ جبريل أتاني، فبشَّرني أنَّ مَن مات لا يُشرك بالله شيئًا دخل الجنَّة قلتُ: وإن زنا وإن سرق؟ قال: وإن زنا وإن سرقَ)).
          قال سُلَيْمَانُ: وإنَّما يروى هذا الحديث عن أبي الدَّرداء، قال: أمَّا أنا فإنَّما سمعته من أبي ذرٍّ، أخبرنيه يحيى بن محمَّدٍ الجيَّانيُّ، حدَّثنا عبيدُ الله بن معاذٍ، حدَّثنا أبي، حدَّثنا شُعبةُ عن حبيبٍ وبلال والأعمش وعبد العزيز المكِّيُّ سمعوا زيد بن وَهْبٍ، عن أبي ذرٍّ عن رسول الله صلعم. قال: ورواه أبو داودَ عن شُعْبَة فذكرهم ولم يذكر بلالًا ولم يزد على هذه القِصَّة. ثمَّ ساق حديث أبي داودَ: حدَّثنا شُعْبَة، عن بلالٍ وهو ابن مِرْدَاسٍ، ويُقال: ابن معاذٍ، وانفرد بهذا الحديث عنه. ورواه شُعْبَةُ أيضًا عن المَعْرُورِ بن سُويدٍ سمع أبا ذرٍّ عن رسول الله صلعم مثل قِصَّة مَن ماتَ لا يشرك بالله شيئًا، ثمَّ ساقه بإسناده.
          وقوله: (وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللهِ: حَدِيْثُ أَبِيْ صَالِحٍ...) إلى آخره قد أخرجه النَّسائيُّ بإسنادٍ صحيحٍ مِن حديث ابن إسحاقَ عن عيسى بن مالكٍ، عن زيدٍ، عن أبي الدَّرداء.
          ولَمَّا ذكر الدَّارَقُطْنيُّ روايةَ الحسنِ وعيسى مع روايةِ مَن رواه عن أبي ذرٍّ قال: يشبه أن يكون القولان صحيحين.
          وقوله: (وَحَدِيْثُ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ مُرْسَلٌ) قد أخرجه الطَّبرانيُّ بإسنادٍ جيِّدٍ مصرِّحًا بسماعه منه: أخبرني أبو الدَّرداء أنَّه صلعم قال..، فذكره. ثمَّ ساقه مِن حديث محمَّد بن سعد بن مالكٍ، عن أبي الدَّرداء قال رسول الله صلعم..، فذكره. قال: وأخرجه إلى محمَّد بن سعدٍ، وأحزرتُهُ أن يكون ابن أبي وقَّاصٍ.
          قال: وحدَّثنا معاذُ بن المثنَّى، حدَّثنا ابن المَدِينيِّ، حدَّثنا يحيى بن سعيدٍ القطَّانُ، عن نُعَيم بن حكيمٍ، عن أبي مريمَ، عن أبي الدَّرداء أظنُّه مرفوعًا، فذكره. وهذا إسنادٌ جيِّدٌ، وأخرجه أيضًا مِن حديث عمران بن داودَ عن قَتَادَةَ، عن سالم بن أبي الجَعْدِ، عن مَعْدَانَ بن أبي طَلْحَةَ، عن أبي الدَّرداء. ومِن حديث بقيَّةَ، عن صَفْوانَ بن عَمْرٍو قال: حدَّثني عبد الرَّحمن بن جُبَير بن نُفَيرٍ وُشُريحِ بن عُبَيدٍ، عن عَمْرو بن الأسودِ، عن أبي الدَّرداء.
          وذكر الدَّارَقُطْنيُّ في حديث الأعمشِ، عن زيد بن وَهْبٍ علّةً إن صحَّت فهي تقدَحُ في صِحَّتهِ، وهي رواية جرير بن حازمٍ عن الأعمشِ فقال رجلٌ: عن زيدِ بن وهبٍ عن أبي ذرٍّ.
          فَصْلٌ: هذا الحديث يدل على أنَّ كثرة المال يؤولُ بصاحبِهِ إلى الإقلال مِن الحسنات يوم القيامة إذا لم ينفقه في طاعة الله، فإن أنفقَهُ فيها كان غنيًّا مِن الحسناتِ يوم القيامة.
          فَصْلٌ: قد احتجَّ به مَن فضَّلَ الغنى على الفقر لأنَّهُ استثنى فيه مِن المكثرين مِن نفحَ بالمال عن يمينه وشماله وبين يديه، وقد اختُلف في هذه المسألة، وسيأتي في باب: مَن فضَّل الفقر بعْدُ.
          فَصْلٌ: وأبو ذرٍّ: اسمه جُنْدبُ بن جُنَادة. وأبو الدَّرداء: عُوَيمر.
          فَصْلٌ: قوله: (يَا أَبَا ذَرٍّ تَعَالَ). ورُوي: ((تَعَالَهْ)) أي: جِئْ، وأُلحق الهاء ليقفَ على ساكنٍ لأنَّ العرب لا تقف بمتحرِّكٍ، وإذا وقف على الأمرِ جمعَ بين ساكنين، قاله الدَّاوديُّ.
          ومعنى (نفح) بالحاء المهملة: أعطى منه، وصرفَهُ في وجوه البرِّ، قال صاحب «الأفعال»: نَفَح بالعطاء: أعطى، والله نفَّاحٌ بالخيرات. ولصاحب «العين»: نَفَح بالمالِ والسَّيف، ونفحاتُ المعروفِ: دفعُهُ. ونَفَحَتِ الدَّابَّةُ: رَمَت بحافرِها الأرضَ.
          وقوله: (وَوَرَاءَهُ) قيل: معناه: يوصي فيه ويُبقيه لوارثهِ أو حَبسٍ يَحْبِسُهُ.
          و(الحَرَّة) أرضٌ بِرْكَتُها حجارةٌ سودٌ كأنها أُحرقت بالنَّارِ، قاله الجَوْهَرِيُّ وابن فارسٍ، وعبارة ابن الأعرابيِّ: هي حِجَارةٌ سودٌ بين جبلين، والقاعُ: المستوي مِن الأرض.
          وقوله: (وَإِنْ زَنَا وَإِنْ سَرَقَ) تمثيل يحتمل معنيين: أحدهما: أنَّ هذه الأمَّةَ يُغفر لجميعها، والثاني: يدخل الجنَّةَ مَن عُوقبَ ببعض ذنوبه فأُدخل النَّار وأُخرج منها بإيمانه، وإن عُوفوا جميعًا كان الذي جاء فيهم الخبر أنَّهُم يُخرجون مِن النَّار المؤمنين غير هذه الأمَّة.