مجمع البحرين وجواهر الحبرين

باب الرؤيا الصالحة جزء من ستة وأربعين جزءًا من النبوة

          ░4▒ باب الرؤيا الصالحة جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة
          فيه حديث عبد الله بن يحيى ابن أبي كثير، بسنده عن أبي قتادة، عن رسول الله: ((الرؤيا الصالحة من الله)) الحديث.
          وحديث أبي سعيد الخدري: ((الرؤيا الصالحة جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة)).
          وحديث قتادة، عن أنس، عن عبادة بن الصامت مرفوعاً مثله.
          سلف في الباب قبله الكلام على قوله: ((فإذا حلم..)) إلى آخره.
          وفي لفظ: قال رجل: يا رسول الله / رأيت في النوم كأن رأسي ضرب فتدحرج فاشتديت في إثره، فقال ◙: ((لا تحدث الناس بتلعب الشيطان بك في منامك)).
          وفي لفظ: (قطع) بدل (ضرب)، فضحك ◙ وقال: ((إذا لعب الشيطان بأحدكم فلا يحدث به الناس)).
          قال المازري: يحتمل أن يكون علم أن منامه هذا من الأضغاث بوحي أوحي إليه أو دلالة من المقام دل عليه، أو يكون من المكروه الذي هو تحزين الشيطان.
          وعن عبادة قال: سألت رسول الله عن قوله: {لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا} [يونس:64] قال: ((هي الرؤيا الصادقة يراها المسلم أو ترى له)).
          وعن ابن عباس مرفوعاً: ((أيها الناس إنه لم يبق من مبشرات النبوة إلا الرؤيا الصالحة..)) الحديث.
          الشمال خلاف اليمين، وذكر في باب الحلم من الشيطان بلفظ: اليسار، وهو بفتح الياء أفصح من كسرها، قوله: ((وليبصق)) وفي أخرى: ((فلينفت)) وفي ثالثة: ((فليتفل)) وأكثر الروايات على الثاني، وادعى بعضهم أن معناها واحد، ولعل المراد بالجميع النفث، وهو نفخ بلا ريق، ويكون التفل والبصق محمولين عليه مجازاً.
          قوله: (فإنها لا تضره) معناه: أن الله تعالى جعل هذا سبباً لسلامته من مكروه يترتب عليها، كما جعل الصدقة وقاية للمال وسبباً لدفع البلاء، وينبغي الجمع بين هذه الروايات كلها ويعمل بها كلها كما نبه عليه النووي، فإذا رأى ما يكرهه نفث عن يساره ثلاثاً قائلاً: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ومن شرها، وليتحول إلى جنبه الآخر وليصل ركعتين. قلت: ويقرأ آية الكرسي كما في رواية أخرى، فيكون قد عمل بجميع الروايات، وإن اقتصر على بعضها أجزأه في دفع ضررها بإذن الله كما صرحت به الأحاديث.
          قال عياض: وأمر بالنفث ثلاثاً طرداً للشيطان الذي حضر رؤيا المكروهة وتحقيراً له واستقذاراً وخصت به اليسار؛ لأنها محل المكروهات والأقذار(1).
          قوله: (ولا يذكرها لأحد) وفي لفظ: ((ولا يحدث بها أحداً)) فسببه أنه ربما فسره تفسيراً مكروهاً على ظاهر صورتها، وكان ذلك محتملاً فوقعت بتقدير الله كذلك، فإن الرؤيا كما جاء في حديث أبي رزين وقال (ت): صحيح ((رؤيا المؤمن جزء من ستة وأربعين جزءاً _وفي نسخة صحيحة: ((جزء من أربعين جزءاً))_ وهي على رجل طائر ما لم يتحدث بها فإذا تحدث بها سقطت)).
          أي: أنها تكون محتملة لأمرين ففسرت بأحدهما، ولابن ماجه من حديث يزيد الرقاشي عن أنس: ((اعبروها بأسمائها وكنوها بكناها والرؤيا لأول عابر)).
          قوله في الباب الماضي: ((فليحدث بها)) وجاء في باب إذا رأى ما يكره: ((فلا يحدث به إلا من يحب))، وهذا من أحسن الإرشاد لموضع الرؤيا؛ لأنه إذا أخبر بها من لا يحب ربما حمله البغض والحسد على تفسيرها بمكروه، فقد تقع تلك الصفة وإلا فيحصل له في الحال حزن ونكد من سوء تفسيرها.
          قوله: (على رجل طائر) مثل ومعناه: أنه لا يستقر قرارها ما لم تعبر.
          قال عياض: يحتمل أن المراد صحتها، ويكون معنى الرؤيا الصالحة الحسنة حسن ظاهرها، ويحتمل المراد صحتها وكذلك الرؤيا المكروهة.
          قوله: (فليبشر) كذا في معظم الأصول بضم الياء ثم موحدة ساكنة من البشارة والبشرى، وفي بعضها بفتح الياء والنون من النشرة وهو الإشاعة. قال: وهو تصحيف. وفي بعضها: ((فليُسَر)) بسين مهملة من السرور.
          مذهب أهل السنة في حقيقة الرؤيا كما نقله المازري أن الله تعالى يخلق في قلب النائم اعتقادات كما يخلقها في قلب اليقظان، وهو جل وعلا يفعل ما يشاء لا يمنعه نوم ولا يقظة، فإذا خلق هذه الاعتقادات فكأنه خلقها علماً على أمور أخر يلحقها في ثاني الحال إذا كان قد خلقها، فإذا خلق في النائم الطيران وليس بطائر، فأكثر ما فيه أنه اعتقد أمراً على خلاف ما هو، فيكون ذلك الاعتقاد علماً على غيره كما خلق الله الغيم عَلَما على المطر والجميع خلق الله، ولكن يخلق الرؤيا والاعتقادات التي خلقها علماً على ما يستتر بغير حضرة الشيطان، وخلق ما هو علم على ما يحضره الشيطان، فنسب إلى الشيطان مجازاً لحضوره عندها وإن كان لا يدخل له حقيقة. وهذا معنى قوله: ((الرؤيا من الله والحلم من الشيطان)) لا على أن الشيطان يفعل.
          فالرؤيا: / اسم لمحبوب، والحلم: اسم لمكروه.
          وقال بعضهم: إضافة الرؤيا إلى الله إضافة تشريف بخلاف المكروهة(2)، وإن كانا جميعاً من خلق الله، والشيطان بحضرة ويرتضيه ويسر به.
          وحديث أبي سعيد فيه أنها: ((جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة)) وهي أشهرها، وكذا من حديث أنس وعبادة وأبي هريرة.
          وفي ((مستخرج الإسماعيلي)): ((خمسة وأربعون جزءاً))، وسلف أن في بعض النسخ لحديث أبي رزين: ((جزء من أربعين جزءاً))، وفي ابن ماجه من حديث فراس، عن عطية، عن أبي سعيد: ((جزء من سبعين جزءاً من النبوة)) وكذا لمسلم من حديث ابن عمر، وكذا لابن أبي شيبة بسنده عن ابن مسعود مثله موقوفاً.
          وذكر الطبري في ((تهذيبه)) من حديث ابن عباس: ((جزء من أربعين جزء)) ومن حديث عبد الله بن عمرو: ((من تسعة وأربعين جزء))، ومن حديث العباس: ((جزء من خمسين جزءاً))، ومن حديث ابن عمر وابن عباس وأبي هريرة: ((جزء من أربعين جزء))، وعن ابن عمر: ((من ستة وعشرين)). وعن عبادة: ((من أربعة وأربعين)).
          وأسلفنا عن الزجاج وبعضهم كلامه على ستة وأربعين. ولا يتأتى في غيرها كسبعين ونحوها، وأيضاً فبعضهم قال: إن مقامه بمكة كان عشراً فلم يتفقوا على ثلاث عشرة.
          وحكى المازري عن بعضهم الأول، وعن بعضهم أنه ◙ قد خص دون الخليقة بضروب وفنون، وجعل له إلى العلم طرق لم تجعل لغيره، فيكون المراد نسبتها مما حصل له وميز به جزء من ستة وأربعين جزءاً، فلا يبقى على هذا إلا أن يقال: بينوا، هذه الأجزاء؟
          ولا يلزم العلماء أن يعرف كل شيء جملة وتفصيلاً، وقد جعل الله للعلماء حدًّا نقف عليه، فمنها: ما لا نعلمه أصلاً، ومنها: ما لا نعلمه جملة، ولا نعلمه تفصيلاً، وهذا منه، ومنها ما نعلمه جملة وتفصيلاً، لا سيما ما طريقه السمع، ولا مدخل للعقل فيه فإنما يعرف منه قدر ما يعرف السمع. قال: وقد مال بعض شيوخنا إلى هذا الجواب الثاني وقدح في الأول بأنه لم يثبت أن أمد رؤياه قبل النبوة كان ستة أشهر وبأنه بعد النبوة رأى منامات كثيرة، فيجب أن يلفق منها ما يضاف إلى الستة الأشهر، فيتغير الحساب وتفسد النسبة، ولا وجه عندي لاعتراضه بما كان من خلال زمن الوحي؛ لأن الأشياء توصف بما يغلب عليها، وتنسبه إلى الأكثر منها، فلما كانت الستة الأشهر محضة في المنامات، والثلاث وعشرون سنة جلها وحي، وإنما فيها منامات شيءٌ يسير تعد عدًا، وجب أن يطرح الأقل في حكم [النسبة والحساب]، وسلف أن أمد الرؤيا لم يثبت أنه كان ستة أشهر فكيف حكمت بعدمه ولم يتضح ثبوته؟
          قال المازري: ويحتمل عندي أن يراد بالحديث وجه آخر، وهو أن يريد المنامات الخبر بالغيب لا أكثر، وإن كان يتبع ذلك إنذاراً وتبشيراً، والإخبار أحد ثمرات النبوة، وأحد فوائدها، وهو في جنب فوائد النبوة والمقصود بها يسير؛ لأنه يصح أن يبعث نبي يشرع الشرائع ويبين الأحكام ولا يخبر بغيب أبداً، ولا يكون ذلك قادحاً في نبوته، ولا مبطلاً للمقصود منها، وهذا الجزء من النبوة هو الإخبار بالغيب إذا وقع، فلا يكون إلا صدقاً، ولا يقع إلا حقًّا، والرؤيا ربما دلت على شيء ولم يقع ما دلت عليه، إما لكونها من الشيطان، أو من حديث النفس، أو من غلط العابر في أصل العبارة، إلى غير ذلك من الضروب الكثيرة التي توجب عدم الثقة بدلالة المنام، فقد صار الخبر بالغيب أحد ثمرات النبوة، وهو غير مقصود فيها، ولكنه لا يقع إلا حقا، وثمرة المنام الإخبار بالغيب، ولكنه قد لا يقع صدقاً فتقدر النسبة في هذا بقدر ما قدره الشرع بهذا العدد على حسب ما أطلعه الله عليه؛ ولأنه يعلم من حقائق نبوته ما [لا] نعلمه نحن، وهذا الجواب الثاني عن بعضهم فإنهم لم يكشفوه هذا الكشف، ولا بسطوه هذا البسط.
          وأشار الطبري إلى أن / هذا الاختلاف راجع إلى اختلاف حال الرائي، فالمؤمن الصالح تكون رؤياه من ستة وأربعين، والفاسق من سبعين، وقيل: المراد أن الخفي بها جزء من سبعين، والجلي جزء من ستة وأربعين.
          قال الطبري: والصواب أن يقال: إن عامة هذه الأحاديث أو أكثرها صحاح، ولكل منها مخرج، فأما رواية السبعين فإنه عام في كل رؤيا صالحة صادقة لكل مسلم رآها في منامه على أي أحواله كان، وهذا قول ابن مسعود وأبي هريرة والنخعي، وأما رواية الأربعين والست والأربعين فإنه يريد بذلك ما كان صاحبها بالحال التي ذكر عن الصديق أنه يكون بها.
          روى ابن وهب عن عمرو بن الحارث أن بكر بن سوادة حدثه أن زياد بن نعيم حدثه أن أبا بكر كان يقول: لأن يرى المسلم يسبغ الوضوء رؤيا صالحة أحب إلي من كذا وكذا، فمن كان من أهل الإسباغ في الصبر على المكروهات وانتظار الصلاة بعد الصلاة فرؤياه الصالحة جزء من ذلك، ومن كانت حاله في دأبه بين ذلك فرؤياه الصادقة بين الأربعين إلى السبعين لا يزاد عن السبعين ولا ينتقص على الأربعين(3). قلت: ويحتاج إلى توجيه رواية ستة وعشرين.
          قال ابن بطال: وأصح ما في الباب أحاديث الستة وأربعين جزءاً، ويتلوها في الصحة سبعين، ولم يذكر (م) في كتابه غير هذين الحديثين، فأما الأول فأخرجه من حديث ابن عمر مرفوعاً، وأما سائرها فهي من أحاديث الشيوخ.
          ثم قال: فإن قلت: [فما] وجه التلفيق بين السبعين والستة والأربعين، والنسخ غير جائز في الأخبار؟ فالجواب: أنه يجب أن يعلم ما معنى كون الرؤيا جزءاً من أجزاء النبوة، فلو كانت جزءاً من ألف جزء منها لكان ذلك كثيراً، فيقال: إن لفظ النبوة مأخوذ من الإنباء، والإنباء وهو الإعلام لغة، والمعنى: أن الرؤيا إنباء صادق من الله لا كذب فيه، كما أن معنى النبوة الإنباء الصادق من الله الذي لا يجوز عليه الكذب فشابهت الرؤيا النبوة في صدق الخبر عن الغيب.
          وأما معنى اختلاف الأجزاء في ذلك قلة وكثرةً فإنا وجدنا الرؤيا تنقسم قسمين لا ثالث لهما، وهو أن يرى الرجل رؤيا جلية ظاهرة التأويل مثل من رأى أنه يعطي شيئاً في المنام فيعطي مثله يقظة بعينه، وهذا الضرب من الرؤيا لا إغراق في تأويلها ولا رمز في تعبيرها.
          ثانيهما: ما يراه في المنامات المرموزة البعيدة المرام في التأويل، هذا الضرب [لا] يعسر تأويله إلا لحاذق في التعبير؛ لبعد ضرب المثل فيه، فيمكن أن يكون هذا من السبعين جزءاً والأول من الأجزاء، وهذا قد سلف؛ لأنه إذا قلت الأجزاء كانت الرؤيا أقرب إلى النبأ الصادق وآمن من وقوع الغلط في تأويلها، وإذا كثرت الأجزاء بعدت بمقدار ذلك وخفي تأويلها.
          ولما عرضته على جماعة فحسنوه، وزادني فيه بعضهم بأن قال: الدليل على صحته أن النبوة على مثل هذه الصفة تلقاها الشارع عن جبريل، فقد أخبرنا أنه كان يأتيه مرة بالوحي فيكلمه بكلام فيعيه بغير مؤنة ولا مشقة، ومرة يلقي إليه جملاً وجوامع يشتد عليه فكها وتبيينها حتى تأخذه الرحضاء وينحدر منه العرق كالجمان، ثم يعينه الله على تبيين ما ألقي إليه من الوحي، فلما كان تلقيه للنبوة المعصومة بهذه الصفة كان تلقي المؤمن للرؤيا من عند الملك الآتي بها من أم الكتاب بهذه الصفة.
          وفيه تأويل آخر ذكره أبو سعيد السفاقسي عن بعض أهل العلم، قال: معنى السبعين: أن الله أوحى إلى نبيه في الرؤيا ستة أشهر، ثم بعد ذلك أوحى إليه بإعلام باقي عمره، وكان عمره في النبوة بثلاثة وعشرين عاماً، فيما رواه عكرمة / وعمرو بن دينار عن ابن عباس، فإذا نسبنا ستة أشهر من ثلاثة وعشرين وجدنا ذلك جزءاً من ستة وأربعين، وقد سلف.


[1] في هامش المخطوط: ((أقول ويحتمل أن يقال لأن محل كاتب الشمال من صوب اليسار فيكون قريباً منه لينفي بكتابه المؤمن، وأما الشيطان فقال: {لآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَآئِلِهِمْ} ولكن في حالة تحزين المؤمن بما يكره من الرؤيا يأتي من جهة الشمال)).
[2] في هامش المخطوط: ((أقول: وقد قال تعالى: {مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللّهِ} الآية)).
[3] في المخطوط: ((لا تنتقص عن السبعين ولا تزاد على الأربعين)) ولعل الصواب ما أثبتناه.