مجمع البحرين وجواهر الحبرين

باب رؤيا الصالحين

          ░2▒ باب رؤيا الصالحين
          قوله تعالى: {لَقَدْ صَدَقَ اللهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ} الآية [الفتح:27].
          فيه حديث أنس أنه ◙ قال: ((الرؤيا الحسنة)) إلى آخره.
          وأخرجه (ن) (ق)، المراد: عامة رؤيا الصالحين كما نبه عليه المهلب وهي التي يرجى صدقها؛ لأنه قد يجوز على الصالحين الأضغاث في رؤياهم؛ لكن لما كان الأغلب عليهم الخير والصدق، وقلة تحكم الشيطان عليهم في النوم أيضاً، لما جعل الله فيهم من الصلاح، وبقي سائر الناس غير الصالحين تحت تحكم الشيطان عليهم في النوم مثل تحكمه عليهم في اليقظة في أغلب أمورهم، وإن كان قد يجوز منهم الصدق في اليقظة فكذلك يكون في رؤياهم صدق أيضاً.
          وذكر الكرماني المعبر: كان بنو إسرائيل يمسُون وليس فيهم نبي، ويصبحون وفيهم عدة أنبياء بما يوحى إليهم في منامهم.
          قال أبو إسحاق الزجاج: تأويل قوله: ((جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة)) أن الأنبياء يخبرون بما سيكون، والرؤيا تدل على ما سيكون.
          قلت: وكذلك قال ◙: ((لم يبق من النبوة إلا المبشرات)).
          وقال الخطابي: كان بعض العلماء يقول / في تأويله قولاً لا يكاد يتحقق من طريق البرهان، وذلك أنه ◙ من أول ما بدئ به الوحي إلى أن توفي ثلاث وعشرون سنة أقام بمكة ثلاث عشرة، وبالمدينة عشراً، وكان يوحى إليه في منامه في أول الأمر بمكة ستة أشهر، وهي نصف سنة فصارت هذه المدة جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة. قال الخطابي: وإن كان هذا وجهاً قد يحتمل قسمة الحساب والعدد، فأول ما يجب من الشروط فيه أن يثبت ما قاله من ذلك خبراً ورواية، فلم نسمع ذلك، وهو ظن وحسبان، ولأن كانت هذه المدة محسوبة من أجزاء النبوة على ما ذهب إليه من هذه القسمة، لكان يجب أن يلحق بها سائر الأوقات التي كان يوحى إليه في منامه في تضاعيف أيام حياته وأن تلتقط فتلفق وتزاد في أصل الحساب، وإذا صرنا إلى ذلك بطلت هذه القسمة وسقط هذا الحساب من أصله، وقد ثبت عنه ◙ في عدة أحاديث من روايات كثيرة أنه كان يرى الرؤيا المختلفة في أمور الشريعة ومهمات أسباب الدين فيقصها على أصحابه، وكان يقول إذا أصبح: ((من رأى منكم رؤيا)) فيقصونها عليه وقال لهم: ((أريت ليلة القدر فأنسيتها)). وقال في يوم أحد: ((رأيت في سيفي ثلمة)) إلى آخره، وقال: ((رأيت كأني أنزع على قليب بدلو)) إلى آخره.
          وحديث رؤيا الشجرة، ورؤيا عمر وعبد الله بن زيد في منامهما، فكان ذلك بمنزلة الوحي، ولذلك صار شريعة بعد الهجرة، وأعلى منها ما نطق به الكتاب: {لَقَدْ صَدَقَ اللهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ} [الفتح:27] في رؤيا الفتح، وقوله: {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ} الآية [الإسراء:60]، فدل ذلك وغيره على ضعف هذا التأويل.
          ونرى أعداد الركعات وأيام الصوم ورمي الجمار محصورة في حساب معلوم، ولا نعلم سر حصرها، وهذا كقوله ◙ في حديث آخر: ((إن الهدي الصالح والسمت الصالح جزء من خمسة وعشرين جزءاً من النبوة)).
          وتفصيل هذا العدد وحصر النبوة فيه متعذرة لا يمكن الوقوف عليها، وإنما فيه أن هاتين الخصلتين من الأنبياء، فكذلك الأمر في الرؤيا أنها جزء من كذا. قال: ومعنى الحديث تحقيق أمر الرؤيا، وأنها مما كان الأنبياء ‰ يثبتونه، وأنها كانت جزءاً من أجزاء العلم الذي كان يأتيهم.
          وقال بعضهم معناه: أن الرؤيا تأتي على موافقة النبوة؛ لأنها جزء باق منها وسيأتي أبسط من ذلك.
          قال الداودي: وفي الخبر دليل أن رؤيا الأنبياء كالوحي في اليقظة ليست جزءاً من هذا العدد، وقد تصدق رؤيا الكافر، قال تعالى: {إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ} [يوسف:43]، وقال الفتيان: {أَحَدُهُمَآ إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الآخَرُ إِنِّي أَرَانِي} الآية [يوسف:36].
          قوله: إذا رأى ما يكره فإنما هي من الشيطان، يريد: أنها تنسب إلى الشيطان؛ لأنها من هواه كقوله تعالى: {وَمَا أَنسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ} [الكهف:63] والكل من عند الله هو الفاعل، وفي آخره: ((فليستعذ بالله من شرها ولا يذكرها لأحد فإنها لا تضره)). ذكر بعد في باب الحلم من الشيطان: ((فليبصق عن يساره وليستعذ بالله منه فلن يضره))، وفي لفظ: ((فلينفث عن يساره وليستعذ بالله منه))، وفي لفظ: ((فلينفث عن يساره ثلاثاً)) وفي (م): ((فليبصق عن يساره ثلاثا وليستعذ وليتحول عن جنبه الذي كان عليه))، وفي أخرى: ((فليقم فليصل)). وسيأتي في (خ) أيضاً، وفي أخرى ذكرها الداودي: ((يقرأ آية الكرسي))، فجعل الله في التعوذ والبصاق سبباً لدفع مكروهها، كما جعل في الدعاء والرقى سبباً لدفع مكروه الداء، والتحول كأنه من باب التفاؤل من باب تغيير الحال.
          فائدة:
          في (ت): ((أصدق الرؤيا بالأسحار))، وفي (م): ((إذا اقترب الزمان لم تكد رؤيا المؤمن تكذب وأصدقهم رؤيا أصدقهم حديثاً)). فقال (د): المراد بالاقتراب: اقتراب الليل والنهار واستوائهما. وقال الخطابي: معناه قرب زمان الساعة ودنوها، والمعبّرون يزعمون أن أصدق الرؤيا ما كان في أيام الربيع ووقت اعتدال الليل / والنهار.
          قال النووي: وقول أبي داود أشهر (عند غير أهل الرؤيا)، وجاء في حديث ما يؤيد الآخر. وفي (ت) صحيحاً: ((لا تقص الرؤيا إلا على عالم أو ناصح))، وفي حديث آخر: ((لا تقصها إلا على واد أو ذي رأي)) قالوا: ولا يستحب أن ينسب لك في تفسيرها إلا بما تحب، وإن لم يكن عالماً بالعبارة، لا أنه يصرف تأويلها عما جعلها الله عليه، وأما ذو الرأي فمعناه: ذو العلم بعبارتها فهو يخبرك بحقيقتها، أو بأقرب ما يعلم منها، ولعله أن يكون في تفسيره موعظة لما هو عليه أو يكون فيها بشرى فيشكر الله عليها.