مجمع البحرين وجواهر الحبرين

باب ما كان النبي وأصحابه يأكلون

          ░23▒ باب ما كان النبي صلعم وأصحابه يأكلون
          فيه أحاديث:
          1- حديث عباس الجريري، عن أبي عثمان النهدي، عن أبي هريرة قال: قسم النبي صلعم بين أصحابه تمرًا، الحديث.
          كذا هنا أعطاه سبعاً، وذكر بعده أعطاه خمساً. قال ابن التين: فإما أن تكون إحداهما وهم، أو كان مرتين. وأخرجه (ت) (ن) (ق).
          والحشفة: بحاء مهملة مفتوحة وشين معجمة هي التمرة إذا لم تطب في النخلة ويتناهى طيبها فتيبس، وهو أراد التمر، وقيل لها: حشفة؛ ليبسها. وقيل: الصنف الذي لا نوى له كالشيص.
          ومعنى: (شدت في مضاغي): أي: دامت معي فيه، وهو بفتح الميم عند الأصيلي وكسرها. قال ابن الأثير: المضاغ بالفتح الطعام يمضغ، وهو المضغ نفسه، يقال: لقمة لينة المضاغ، وشديد المضاغ. أراد أنها كانت فيها قوة عند مضغها.
          عياش الجريري هذا والده فروخ بصري، والجريري: جرير بن عباد بن ضبيعة بن قيس بن ثعلبة، اتفقا عليه، وكذا على سعيد بن إياس أبو مسعود الجريري. مات سنة أربع وأربعين ومائة.
          وأبو عثمان النهدي اسمه عبد الرحمن بن مل. وشيخ (خ) فيه أبو النعمان وهو محمد بن الفضل عارم.
          2- حديث قيس بن سعد عن أبيه: رأيتني مع رسول الله سابع سبعة.
          الحديث سلف في فضل سعد بن أبي وقاص، ويأتي في الرقاق، وأخرجه (م) (ت) (ن) (ق).
          والحبلة: بضم الحاء وسكون الباء الموحدة، ثمر السمر يشبه اللوبياء، وقيل ثمر العضاة، والأول هو المعروف، قاله عياض. وقيل: عروقه، ووضع الحبلة وهذا على الشك كما سلف، ولم يكن عند الأصيلي إلا الأول.
          والحبلة بالتحريك والفتح ورق الكرم، قال في ((الصحاح)): وربما سكن. وقال في هذا الحديث مثلما قال ابن فارس: الحبلة: ثمر العضاه. وذكر هذا الحديث، وزاد فيه: إلا الحبلة وورق السمر.
          وضبطاه بضم الحاء وسكون الباء قال: والعضاة: شجر له شوك كالطلح والعوسج. وقال أبو حنيفة: الزرجون حبلة، وجمعها حبل.
          وقال صاحب ((العين)): الحبلة أيضاً ضرب من الشجر.
          ومعنى: (تعزرني): تؤذيني وذلك أنهم قالوا لعمر في حقه: لا يحسن يصلي قال: نعم.. الحديث أي: يقوموني عليه ويعلمونيه من قوله: عزر السلطان فلاناً إذا أدبه وقومه.
          وعبارة الزاهر: يعزروني أي: يعلموني الفقه. وأصل التعزير التأديب، ولهذا سمي الضرب دون الحد تعزيراً، وكان هذا القول عن سعد حين شكاه أهل الكوفة إلى عمر وقالوا: إنه لا يحسن الصلاة، كما ذكرناه.
          فإن قلت: كيف مدح نفسه ومن شأن المؤمن التواضع؟ قلت: قد يضطر إلى التعريف بنفسه كما قال يوسف: {إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} [يوسف:55].
          وفيه: أنه لا بأس أن يذكر الرجل فضائله وسوابقه في الإسلام عندما ينتقصه أهل الباطل ويضعون من قدره، ولا يكون ذكره لفضائله من باب الفخر المنهي عنه.
          3- حديث أبي حازم قال: سألت سهل بن أبي حازم قال سألت سهل بن سعد الساعدي فقلت: هل أكل النبي صلعم النقي الحديث، وأخرجه (ن) / .
          ثريت السويق تثرية إذا بللته وأمرت به فثرى، أي: ثرى بالماء ولبن؛ حتى يصير كالثرى: وهو التراب الندي. والمنخل: أخذ ما استثني ما أوله ميم من الأدوات مكسوراً منخل ومدق ومسعط: وهو ما يجعل فيه السعوط.
          وفي إسناده ابن أبي ذئب، وهو محمد بن عبد الرحمن بن الحارث بن أبي ذئب أبو الحارث العامري القرشي، مات بالكوفة راجعاً إلى المدينة والعراق سنة تسع وخمسين ومائة عن تسع وسبعين.
          4- حديث أبي هريرة أنه مر بقوم بين أيديهم شاة مصلية، فدعوه فأبى أن يأكل... الحديث.
          المصلية: المشوية، يقال: صليت اللحم أصليه صلياً: شويته، والصلاء: الشواء، وصليته وأصليته: ألقيته في النار.
          5- حديث يونس هو الإسكاف عن قتادة، عن أنس قال: ما أكل النبي صلعم على خوان، الحديث.
          وفيه معاذ، وهو ابن هشام الدستوائي.
          6- حديث عائشة قالت: ما شبع آل محمد منذ قدم المدينة، الحديث.
          كذا هنا وقال في حديث أبي هريرة خرج رسول الله من الدنيا ولم يشبع من خبز الشعير. فيحتمل أنه ◙ كان لا يشبع نفسه وإنما يأكل دون الشبع ويحتمل أن تكون عائشة علمت ما لم يعلمه أبو هريرة.
          وذكر عنها (خ) بعد هذا: ما شبع آل محمد من خبز مأدوم ثلاثة أيام.
          قال الطبري: إن قلت: ما وجه هذه الأخبار يعني: حديث عائشة هذا وشبهه وقد علم صحة الخبر عن رسول الله صلعم أنه كان يرفع مما أفاء الله عليه من بني النضر وفدك قوته وقوت عياله سنة، ثم يجعل ما فضل من ذلك في الكراع والسلاح عدة في سبيل الله، وأنه قسم بين أربعة أنفس زهاء ألف بعير من نصيبه مما أفاء الله عليه من أموال هوازن، وأنه ساق في حجة الوداع مائة بعير فنحرها، وأنه كان يأمر الأعرابي يسلم بقطيع من الغنم هذا مع ما يكثر من عطاياه التي لا يذكر مثلها عمن تقدم قبله من ملوك الأمم السالفة، مع كونه بعين أرباب الأموال الجسام كالصديق والفاروق وعثمان وأمثالهم في كثرة الأموال، ويذكر لهم بهجهم وأولادهم، وخروج أحدهم من جميع ماله؛ تقرباً إلى الله، فكيف بإنفاقها على سيد البشر وبه إليها الحاجة العظمى؟
          ثم أجاب بصحة الأخبار كلها وأن ذلك كان حيناً بعد حين؛ من أجل أن كان منهم ذا مال تستغرق نوائب الحقوق ماله، ومواساة الضيفان، والوفود حتى يقل كثيره ويذهب جميعه وكيف لا يكون كذلك، وقد روينا عن عمر أنه ◙ أمر بالصدقة فجاء الصديق بكل ماله، فكيف نستنكر بمن هذا فعله أن يلق صاحبه ثم لا يجد السبيل إلى سد جوعته وإرفاقه بما يعينه؟!
          وعلى هذه الخليقة كانت خلائق أصحابه، فمعلوم أن من كانت هذه أخلاقه وأفعاله أن لا يخطئه أن يأتي عليه التارة من الزمان والحين من الأيام مملقاً لا شيء له إلا أن يثوب له مال فبان خطأ قول القائل: كيف يجوز أن يرهن الشارع درعه عند يهودي بوسق شعير وفي أصحابه من أهل الغنى والسعة ما لا يجهل موضعه؟ أم كيف يجوز أن يوصف أنه كان يطوي الأيام ذوات العدد جميعاً وأصحابه يمتهنون أموالهم لمن هو دونه من أصحابه؟ فكيف له إذ كان معلوماً جوده وكرمه وإيثاره ضيفانه القادمين عليه لما عنده من الأقوات والأموال على نفسه واحتمال المشقة والمجاعة في ذات الله؟ ومن كان كذلك هو وأصحابه فغير مستنكر لهم حال ضيق يحتاجون معها إلى الاستيلاف وإلى طي الأيام على المجاعة والشدة وأكلهم ورق الحبلة.
          فأما ما روي أنه لم يشبع من خبز البر ثلاثة أيام فإن البر كان قليلاً عندهم، وكان الغالب عندهم الشعير والتمر، فغير نكير أن يؤثر قوت أهله وأن يؤثر قوت أهل بلده، ويكره أن يخص نفسه بما لا سبيل للمسلمين إليه من الغذاء وهذا هو الأشبه بحاله وأخلاقه.
          وأما ما روي أنه خرج من الدنيا ولم يشبع من خبز الشعير، فإن ذلك لم يكن لعوز ولا ضيق في غالب أحواله، وكيف يكون ذلك وقد أفاء الله عليه قبل وفاته ببلاد العرب كلها، ونقل إليه الخراج من بعض بلاد العجم، ولكن كان بعضه كما وصفت / من إيثار حقوق الله، وبعضه كراهية منه الشبع وكثرة الأكل فإنه كان يكرهه ويؤدب أصحابه به.
          وروي عن زيد بن وهب، عن عطية بن عامر الجهني قال: أكره سلمان على طعام أهله، فقال: حسبي؛ فإني سمعت النبي صلعم يقول: ((إن أكثر الناس شبعاً في الدنيا أطولهم جوعاً في الآخرة)).
          وروى أسيد بن موسى من حديث عون بن أبي جحيفة، عن أبيه قال: أكلت ثريدة بر بلحم سمين فأتيت النبي صلعم وأنا أتجشأ فقال: ((اكفف عليك من جشائك أبا جحيفة؛ فإن أكثر الناس شبعاً في الدنيا أطولهم جوعاً يوم القيامة)).
          فما أكل أبو جحيفة ملء بطنه حتى فارق الدنيا، كان إذا تغدى لا يتعشى، وإذا تعشى لا يتغدى، وقال الفضيل: خصلتان يقسيان القلب: كثرة الأكل والكلام.
          وقال مجاهد: لو أكلت كل ما أشته ما سويت حشفة.