مجمع البحرين وجواهر الحبرين

باب: المؤمن يأكل في معى واحد

          ░12▒ باب المؤمن يأكل في معًى واحد
          فيه أحاديث:
          1- حديث واقد بن محمد، عن نافع قال: كان ابن عمر لا يأكل... الحديث. واقد هذا هو ابن محمد بن زيد بن عبد الله بن عمر.
          2- عنه أيضاً: قال: قال: ((إن المؤمن يأكل في معًا واحد...)) الحديث، وأخرجه (م) أيضاً.
          3- قال: وقال ابن بكير: ثنا مالك، عن نافع... إلى آخره.
          4- حديث سفيان عن عمرو _هو ابن دينار_ قال: كان أبو نهيك رجلاً أكولاً، والأربعة راجعة إلى ابن عمر.
          5- حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلعم: ((يأكل المسلم في معاً واحد)) وهذا أخرجه (م) (ت) (ن)، وقال: حسن صحيح، ثم ساقه من حديث عدي بن ثابت عن أبي حازم عن أبي هريرة: ((أن رجلاً كان يأكل أكلاً كثيراً...)) الحديث وأخرجه (ن) (ق).
          وأبو حازم: سلمان مولى عزة. وعدي: هو ابن أبان بن ثابت، أخو يزيد، شهد أحداً، ابنا قيس بن الخطيم، واسمه: ثابت بن عدي بن عمرو بن سواد بن ظفر، وقيل: عدي أخو الخطيم، ابنا عمرو، وأعمامه عمرو ومحمد ويزيد، أولاد ثابت بن قيس بن الخطيم، قتلوا يوم الحرة، وقيل: أخوهم أبان والد عدي بأرض الروم مع سلمة في سنة مسيلمة الأولى، وقتل قيس والخطيم وعدي في الجاهلية.
          والتعليق عن ابن بكير قال الإسماعيلي: ذكره (خ) بلا خبر، ثم ساقه من حديث يونس بن عبد الأعلى عن عبد الله بن وهب، أخبرني مالك وغير واحد أن نافعاً حدثهم فذكره. ولهذا الحديث طرق.
          واختلف في الرجل المقول فيه هذا على أقوال:
          1- نضلة هذا، وأخرجه الكجي في ((سننه)) كذلك.
          2- بصرة بن أبي بصرة.
          3- ثمامة بن أثال.
          4- جهجاه الغفاري.
          قال أبو عمر: شرب حلاب سبع شياه، فلما أسلم لم يستتم حلاب شاة واحدة. وقال أبو عبيد وغيره: هذا خاص في رجل واحد قدم على رسول الله لأنا قد نجد مسلماً أكثر أكلاً من الكافر، وقيل: إنه تمثيل، فأراد ◙: أن الكافر إنما همته وسعايته في ذلك ما يدخل جوفه، والمؤمن وهب الله له القناعة، أن المؤمن يسمي فيكون فيه البركة، فيكفيه ما لا يكفي الكافر.
          فإن قلت: من المؤمنين من هو أكثر أكلاً من الكافر؟ قيل: لو كان المؤمن الأكول كافراً كان أكثر لأكله، ولو كان الكافر القليل الأكل مؤمناً لنقص أكله بعد إيمانه.
          وقال الداودي: إنه على التمثيل أو التقليل أو التكثير؛ كقوله: إن أبا جهم لا يضع عصاه عن عاتقه.
          قال الخطابي: وليس وجه الحديث أن من كان أكولاً كان ناقص الإسلام، فقد ذكر عن غير واحد من أكابر السلف الأكل الكثير فلم يكن ذلك نقصاً من إيمانهم، وقيل: هو مثل أن المؤمن يأكل الحلال والكافر يأكل الحرام. وما قدر عليه. فهذه خمسة أقوال.
          وقيل: الناس في الأكل على ثلاث طبقات: طائفة يأكلون أكل مطعوم من حاجة أو غير حاجة، وهذا فعل الحمير؛ لقوله تعالى: {يَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ} [محمد:12] وطائفة يأكلون إذا جاعوا، فإذا ارتفع الجوع أمسكوا، وهذه عادة المقتصدين والمتماسكين في الشمائل والأخلاق، وطائفة يتجوعون يقصدون بذلك قمع شهوة النفس، ولا يأكلون إلا عند الضرورة قدر ما يكسرون شدة الجوع، وهذه عادة الأبرار وشمائل الصالحين.
          وأجاب ابن بطال عن السؤال السالف إنا نجد مؤمناً كثير الأكل، وكافراً قليل الأكل بأنه ◙ إنما أراد بقوله: ((المؤمن يأكل في معًا واحد)) المؤمن التام الإيمان؛ لأنه من حسن إسلامه وكمل إيمانه، تفكر / في خلق الله له وفيما يصير إليه من الموت وما بعده، فيمنعه الخوف والإشفاق من تلك الأهوال من استيفاء شهواته.
          وقد روي هذا المعنى عن رسول الله من حديث أبي أمامة مرفوعاً: ((عليكم بقلة الأكل؛ تعرفون في الآخرة، فمن كثر تفكره قل طعمه، وكل لسانه، ومن قل فكره كثر طعمه، وعظم ذنبه وقسا قلبه، والقلب القاسي بعيد من الله)).
          فأخبر أن من تفكر فيما ينبغي له التفكر فيه من قرب أجله، وما يصير إليه في معاده قل طعمه وكل لسانه.
          وفيه: الحض على التقليل من الدنيا والزهد فيها والقناعة بالبلغة؛ ألا ترى قوله: ((إن هذا المال خضرة حلوة)) إلى قوله: ((ومن أخذه بإشراف نفس كان كالذي يأكل ولا يشبع)).
          فدل هذا المعنى الذي وصفه الشارع أنه يأكل في معى واحد، هو التام الإيمان المقتصد في مطعمه وملبسه، الذي قبل وصية نبيه.
          فإن قلت: فكيف بما روي عن عمر أنه كان يأكل صاع حتى يتتبع حشفة ولا أتم من إيمانه؟.
          قلت: من علم سيرة عمر، وتقلله في مطعمه وملبسه لم يعترض بهذا، ولم يتوهم أن قوت عمر كان كل يوم صاع تمر؛ لأنه كان زمن التقلل في مطعمه وملبسه في أبعد الغايات، وكان أشد الناس اقتداء برسول الله في سيرته، يجوع نفسه، ولا يبلغ من الأكل نهمته.
          وقد كانت العرب في الجاهلية تمتدح بقلة الأكل وتذم كثرته، وقالت أم زرع في ابن أبي زرع: ويشبعه ذراع الجفرة.
          وقال حاتم الطائي: يذم كثرة الأكل:
فإنك إن أعطيت بطنك سؤلها                     وفرجك نالا منتهى الذم أجمعا
          وقد شبه الله أكل الكفار بأكل البهائم فقال: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ} [محمد:12] أي: أنهم يأكلون بالشره والنهم كالأنعام؛ لأنهم جهال، وذلك أن الأكل ضربان: أكل نهمة، وأكل حكمة، فأكل النهمة للشهوة فقط، وأكل الحكمة للشهوة والمصلحة.
          وذكر القرطبي فيه أقوالاً: أحدها: أكل المؤمن إذا نسب إلى أكل الكافر شبعاً.
          ثانيها: المراد الصفات السبع، وهي: الحرص، والشره، وطول الأمل، والطمع، وسوء الطبع وحب السمن، والحسد. وقيل: شهوات الطعام سبع: شهوة الطبع، والنفس، والعين، والفم، والأذن، والأنف والجوع، وهي الضرورة التي بها يأكل المؤمن. وقيل: إنه كان في كافر مخصوص، وقد سلف.
          قال الطحاوي في ((بيان مشكله)): لم يكن للحديث عندنا غير هذا الوجه، وأن الحديث خرج مخرج المعرفة، وما خرج مخرج المعرفة لم يتعد من قصد به إليه إلى من سواه، إلا أن يكون فيه دلالة تدل على القصد إلى من هو أكثر من الواحد، فيصرف إلى ذلك. ويرجع حكمه إلى حكم التكرير. وسمعت ابن أبي عمران يقول: قد كان قوم حملوا هذا الحديث على الرغبة في الدنيا كما تقول: فلان يأكل الدنيا أكلاً؛ أي: يرغب فيها ويحرص عليها، فالمؤمن يأكل في معى واحد، لزهادته في الدنيا، والكافر في سبعة؛ أي: لرغبته فيها، ولم يجعلوا ذلك على الطعام قالوا: وقد رأينا مؤمناً أكثر طعاماً من كفار، ولو تأول ذلك على الطعام استحال معنى الحديث(1).
          قال القرطبي: وقيل: إنه قاله على سبيل التمثيل أراد أن همته وسعايته ما يدخله جوفه، والمؤمن وهب الله له القناعة والتوكل عليه في رزقه. وقيل: أراد أن المؤمن يسمي الله تعالى على طعامه، فلا يشاركه الشيطان، فتكون فيه البركة، فيكفيه ما لا يكفي الكافر. وعند أهل التشريح: لكل إنسان سبعة أمعاء(2): المعدة، وثلاثة رقاق متصلة بها، ثم ثلاثة غلاظ، فالكافر لشرهته لا يكفيه إلا ملؤها / كلها، والمؤمن لاقتصاره وتسميته يشبعه ملء أحدها.
          وفي ((ربيع الأبرار)): كان علي ☺ يفطر ليلة عند الحسن وليلة عند الحسين وليلة عند ابن جعفر، ولا يزيد على لقمتين أو ثلاث، قيل له فقال: إنما هي أيام قلائل ويأتي أمر الله، وقيل في ليلة الحسن.
          والمعى: مقصور، مثل أنا، وتثنيته معيان، وذكر أبو حاتم السجستاني في كتاب ((التذكير والتأنيث)) أنه مذكر مقصور، ولم أسمع أحداً يؤنث المعى، وقد رواه من لا يوثق به، والهاء في سبعة تدل على التذكير في الواحد، ولم أسمع معًى واحدة ممن أثق به.


[1] في هامش المخطوط: ((أقول: فحينئذ لا يبقى لذكر هذا الحديث مناسبة بباب الأطعمة فاعلمه)).
[2] في هامش المخطوط: ((أقول: هذا لا يوافق قواعد الطب فإن الأمعاء لا يصل إليها الغذاء إلا بعد أن تتصرف فيه الطبيعة وينهضم أربعة هضوم)).