الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

حديث: ما خير رسول الله بين أمرين إلا أخذ أيسرهما

          3560- وبالسند قال:(حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ): أي: التِّنِّيسيُّ، قال: (أَخْبَرَنَا مَالِكٌ): أي: المجتهدُ (عَنِ ابْنِ شِهَابٍ): أي: محمدِ بنِ مسلمٍ الزُّهريِّ (عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزبير): أي: ابنِ العوامِ (عَنْ عَائِشَةَ ♦ أَنَّهَا قَالَتْ: مَا خُيِّرَ): بضم الخاء المعجمة وكسر التحتية المشددة (رَسُولُ اللَّهِ صلعم بَيْنَ أَمْرَيْنِ): أي: من أمورِ الدُّنيا (إِلَّا أَخَذَ أَيْسَرَهُمَا): أي: أسهلَهما، وأبهمَ فاعلَ: ((خُيِّرَ)) ليكونَ أعمَّ من قبَلِ اللهِ، أو من قبَلِ المخلوقين (مَا لَمْ يَكُنْ): أي: أيسرُهما (إِثْمًا): بسكون المثلثة؛ أي: يُفضِي إلى الإثمِ (فَإِنْ كَانَ): أي: الأيسرُ (إِثْمًا، كَانَ): أي: صلعم (أَبْعَدَ النَّاسِ مِنْهُ): وللطبرانيِّ في ((الأوسط)) عن أنسٍ: ((إلا اختارَ أيسرَهما ما لم يكن للهِ فيه سخَطٌ)).
          تنبيه: وقوعُ التخييرِ بين ما فيه إثمٌ وعدمُه واضحٌ من قبَلِ المخلوقين، وأمَّا إذا كان من قبَلِ اللهِ ففيه إشكالٌ.
          وأُجيبَ بأنَّا إذا حمَلناه على ما يُفضي إلى الإثمِ أمكنَ ذلك؛ كتخييرِه بين المجاهدةِ في العبادةِ والاقتصَادِ فيها، فإنَّ المجاهدةَ إن كانت بحيثُ تجرُّ إلى الهلاكِ لا تجوزُ، أو كتخييرِهِ بين أن يُفتحَ عليه من كنوزِ الأرضِ ما يخشى من الاشتغالِ به أن لا يتفرَّغَ للعبادةِ، وبين أن لا يُؤتيَه من الدنيا إلا الكَفافَ، وإن كانت السَّعةُ أسهلَ منه، قال في ((الفتح)): والإثمُ على هذا أمرٌ نسبيٌّ لا يرادُ منه معنى الخطيئةِ؛ لثبوتِ العصمةِ.
          (وَمَا انْتَقَمَ رَسُولُ اللَّهِ صلعم لِنَفْسِهِ): أي: خاصةً، بل كان يعفو؛ كعفوِهِ عن الرجلِ الذي جاءَ فرفعَ صوتَه عليه، وقال: إنَّكم يا بني عبد المطَّلبِ مُطْلٌ، رواه الطَّبرانيُّ، وعن الآخرِ الذي جبَذَ برادئه حتى أثَّرَ في عُنقِه، رواه البخاريُّ.
          (إِلَّا أَنْ تُنْتَهَكَ): بضم الفوقية وسكون النون وفتح الفوقية والهاء، والاستثناءُ منقطعٌ؛ أي: لكن إذا انتُهكتْ (حُرْمَةُ اللَّهِ): ╡ (فَيَنْتَقِمَ لِلَّهِ): أي: لا لنفسِه ممن ارتكَبَ تلك الحرمةَ (بِهَا): أي: بسببِها، لا يقالُ: إنَّه انتقَم لنفسِه حيثُ أمرَ بقتلِ عبدِ اللهِ بنِ خَطَلٍ وعُقبةَ بنِ أبي مُعيطٍ وغيرِهما ممن كان يؤذيه؛ لأنَّهم كانوا مع ذلك ينتهِكُون حرُماتِ اللهِ.
          وهذا الحديثُ أخرجه أيضاً في الأدبِ، ومسلمٌ في الفضلِ، وأبو داودَ في الأدبِ.
          وفيه الحثُّ على تركِ الأخذِ بالشيءِ العسيرِ والاكتفاءِ باليسيرِ، وتركُ الإلحاحِ فيما لا يُضطرُّ إليه، والندبُ إلى الأخذِ بالرُّخصةِ ما لم يظهَرِ الخطأُ، والحثُّ على العفوِ إلا في حقوقِ اللهِ، والندبُ إلى الأمرِ بالمعروفِ والنهيِ عن المنكَرِ ما لم يُفضِ إلى ما هو أشدُّ منه، وفيه تركُ الحُكمِ للنفسِ وإن تمكَّنَ من ذلك وأمِنَ من الحَيفِ على المحكومِ عليه، لكن حَسْماً للمادةِ، قاله في ((الفتح)).