الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

حديث: تجدون الناس معادن خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام

          3493- 3494- وبالسند قال: (حَدَّثَنِي) بالإفراد لغير أبي ذرٍّ (إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) هو: المشهورُ بابنِ راهوَيهِ، قال: (أَخْبَرَنَا جَرِيرٌ) بفتح الجيم؛ أي: ابنُ عبدِ الحميدِ (عَنْ عُمَارَةَ) بضمِّ العينِ المهملةِ وتخفيفِ الميم، أي: ابنِ القعقَاعِ (عَنْ أبِي زُرْعَةَ) هو: هَرِمٌ (عَنْ أبي هُرَيْرَةَ ☺، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلعم قَالَ: تَجِدُونَ النَّاسَ مَعَادِنَ) زاد الطيالسيُّ: ((في الخيرِ والشرِّ)) و((مَعادِنَ)) جمعُ: مَعدِنٍ _بفتح الميم فيهما_، مفعولٌ ثانٍ لـ((تجِدُون)) أي: أصولاً مختلفةً، فإنَّ المعدِنَ هو الشيءُ المستقِرُّ في الأرضِ، فتارةً يكونُ نفيساً، وتارةً غيرُه، وكذلك الناسُ.
          (خِيَارُهُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ خِيَارُهُمْ فِي الإِسْلاَمِ) وجهُ الشبَهِ أنَّ المعادنَ مشتمِلةٌ على جواهرَ مختلفةٍ نفاسةً وغيرِها، وكذلك الناسُ، فمَن كان في الجاهليَّةِ شريفاً لم يزِدْه الإسلامُ إلا شرَفاً، وكان أشرفَ / ممن أسلَمَ من المشرُوفين في الجاهليَّةِ، وقولُه: (إِذَا فَقِهُوا) بضم القاف وبكسرها، إشارةٌ إلى أنَّ شرفَ الإسلامِ لا يتِمُّ إلا بالتفقُّهِ في الدِّينِ، وبهذا الاعتبارِ تنقسِمُ الناسُ أربعةَ أقسامٍ ومقابله ما قبلها، فتصيرُ الأقسامُ ثمانيةً:
          أحدُها: شريفٌ في الجاهليةِ أسلمَ ثم تفقَّهَ، ويقابلُه مشروفٌ في الجاهليةِ لم يُسلِمْ ولم يتفقَّهْ.
          ثانيها: شريفٌ في الجاهليةِ أسلمَ ثم لم يتفقَّهْ، ويقابلُه مشروفٌ في الجاهليةِ أسلمَ ثم تفقَّهَ.
          ثالثُها: شريفٌ في الجاهلية لم يُسلِمْ ولم يتفقَّهَ، ويقابِلُه مشروفٌ في الجاهليةِ أسلمَ ثم تفقَّهَ.
          رابعُها: شريفٌ في الجاهليةِ لم يُسلِمْ وتفقَّهَ، ويقابلُه مشروفٌ أسلمَ ولم يتفقَّهْ.
          وأعلى الأقسامِ وأشرفُها مَن شرُفَ في الجاهليةِ وأسلمَ ثم تفقَّهَ، ويليه مَن كان مشروفاً في الجاهليةِ ثم أسلمَ وتفقَّهَ، ويليه مَن كان مشروفاً في الجاهليةِ ثم أسلمَ ولم يتفقَّهْ، وأمَّا مَن لم يُسلِمْ فلا اعتبارَ به سواءٌ كان شريفاً أو مشروفاً، وسواءٌ تفقَّهَ أم لم يتفقَّهْ، والمرادُ: يختارُهم مَن كان متَّصِفاً بمحاسنِ الأخلاقِ؛ كالكرمِ والعفةِ والحِلمِ وغيرِها من صفاتِ الكمالِ، متوقِّياً لمساوئها؛ كالبخلِ والفجورِ والظلمِ وغيرِها.
          (وَتَجِدُونَ خَيْرَ النَّاسِ) أي: من خيارِهم (فِي هَذَا الشَّأْنِ) أي: في الولايةِ إمارةً أو خلافةً (أَشَدَّهُمْ) مفعولٌ ثانٍ لـ(((تجدون)) (لَهُ) أي: لهذا الشأنِ (كَرَاهِيَةً) بتخفيف الياء، مفعولٌ لأجلِه، قال: يعني أنَّ الدخولَ في الإمرةِ والولايةِ مكروهٌ من جهةِ تحمُّلِ المشقَّةِ وصعوبةِ العملِ بالعدلِ وحملِ الناسِ على رفعِ الظُّلمِ، ولِما يترتَّبُ عليه من مطالبةِ اللهِ تعالى للقائمِ به من حقوقِه وحقوقِ عبادِه، ولا يخفى خيريةُ مَن خاف مقامَ ربِّه ونهى النفسَ عن الهوى، وقيَّدَ الكراهيةَ في الطريقِ الثانيةِ بقولِه: ((حتى يقعَ فيه)) أي: فلا يبقى كارهاً له بعد وقوعِه فيه، فقيل في المرادِ منه: إنَّ مَن لم يكُنْ حريصاً على الإمرةِ ولا راغباً فيها، إذا حصلَتْ له بغيرِ سؤالٍ لها تزولُ عنه الكراهيَةُ لها؛ لِما يُرى من إعانةِ اللهِ له عليها.
          ففي الخبر: ((إن أُعطيتَها من غيرِ مسألةٍ، أُعِنتَ عليها)) فيأمنُ على دينِه مما كان يخافُه قبل الوقوعِ فيها، ويرجو الثوابَ بفعلِ الخيرِ، ولذا أحبَّ بعضُ السلفِ الصالحِ استمرارَه في الولايةِ حتى قاتلَ عليها، بل صرَّحَ بعضُهم بأنَّه أساءَه العزلُ بعدَ أن وقعَ فيه، وقيل: المرادُ أنَّ العادةَ جرَتْ بذلك، وأنَّ مَن حرصَ على الشيءِ ورغِبَ في طلبِه قلَّ أن يحصُلَ له، ومَن أعرضَ عنه وقلَّتْ رغبتُه فيه يحصُلْ له غالباً.
          وقال الخطابيُّ: وهذا يحتمِلُ وجهَين:
          أحدُهما: أنهم إذا وقعُوا فيها عن رغبةٍ وحرصٍ عليها زالَ عنهم حسنُ الأخيار؛ أي: صفةُ الخيريَّةِ؛ كقولِه عليه السلام لعبدِ الرحمنِ بنِ سمُرةَ: ((يا عبد الرحمنِ؛ لا تطلُبِ الإمارةَ)) وكقولِه عليه السلامُ: ((تطلُبونَ الإمارةَ وتكونُ وبالاً عليكم، فنِعمتِ المرضِعةُ، وبئسَتِ الفاطمةُ)) أو كما قال، وكقولِه عليه السلامُ: ((مَن جُعلَ قاضياً فقد ذُبحَ بغيرِ سكِّينٍ)).
          والآخرُ: أنَّ أخيارَ الناسِ هم الذين يكرهونَ الإمارةَ حتى يقَعُوا فيها، فإذا وقعُوا فيها وتقلَّدُوها زالتْ عنهم الكراهةُ، فلم يجُزْ لهم أن يكرَهُوها، ولم يقوموا بالواجبِ من أمُورِها، بل يجبُ عليهم أن يجتَهدُوا في حقُوقِها؛ كفعلِ الرَّاغبِ فيها غيرِ الكَارهِ لها، انتهى.
           (وَتَجِدُونَ شَرَّ النَّاسِ ذَا الْوَجْهَيْنِ) فُسِّرَ بقولِه: (الذي يَأْتِي هَؤُلاَءِ) أي: جماعةً من الناس (بِوَجْهٍ) أي: بكلامٍ يوافقُ غرضَهم (وهَؤُلاَءِ) أي: جماعةً آخرين (بِوَجْهٍ) أي: بكلامٍ آخرَ، ولا يخفى ما في الحديثِ من الاستعارةِ، والمرادُ بذي الوجهَين: المنافقُ، قال الله تعالى: {مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ} [النساء:143] قال أئمةُ التفسيرِ: {مُذَبْذَبِينَ} يعني أنَّ المنافقين متحيِّرُون بين الإيمان والكفر، فليسوا مع المؤمنين ظاهراً / وباطناً، ولا مع الكفار، بل ظواهرُهم مع المؤمنين، وبواطنُهم مع الكفارِ، ومنهم مَن يكونُ شاكًّا، فتارةً يميلُ إلى هؤلاء، وتارةً إلى هؤلاء.
          وروى مسلمٌ عن ابنِ عمرَ أنَّ النَّبيَّ صلعم قال: ((مثَلُ المنافقِ كمثَلِ الشاةِ الغائرةِ بين الغنمَينِ، تَغيرُ إلى هذه مرَّةً، وإلى هذه مرَّةً، لا تدري أيتَهما تتبعُ)) واستُشكلَ حديثُ البابِ بأنَّه يقتضي ذمَّهم على طريقةِ المؤمنين وتركِ طريقةِ الكفارِ، والذمُّ على طريقةِ الكفارِ غيرُ جائزٍ.
          وأجيبَ: بأنَّ طريقةَ الكفارِ وإن كانت خبيثةً إلا أن طريقةَ النفاقِ أخبثُ منها، ولذا ذمَّ اللهُ تعالى المنافقين في كتابِه العزيزِ في تسعَ عشْرةَ آيةً.
          ومطابقةُ الحديثِ للترجمةِ في قولِه: ((تجِدونَ خيرَ الناسِ)) قال الكرمانيُّ: فإن قلتَ: كيف يصيرُ خيرَ جميعِ الناسِ بمجرَّدِ كراهتِه له؟
          قلتُ: المرادُ: إن تساوَوا في سائرِ الفضائلِ، أو يرادُ من: ((الناسِ)) الأمراءُ، أو معناه: من خيرِهم بقرينةِ الحديثِ الذي بعده.
          والحديثُ أخرجَه مسلمٌ في الفضائلِ وفي الأدبِ.