الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

باب نسبة اليمن إلى إسماعيل

          ░4▒ (بَابُ نِسْبَةِ): بكسرِ النونِ وبتاء آخره؛ أي: بابُ بيانِ انتسَابِ (اليَمَنِ): بفحتين؛ أي: أهلِها (إِلَى إِسْمَاعِيلَ): أي: ابنِ إبراهيمَ الخليلِ عليهما السَّلام (مِنْهُمْ): أي: من أهلِ اليمنِ (أَسْلَمُ): بفتحِ الهمزةِ واللام بينهما سينٌ مهملةٌ ساكنةٌ (ابْنُ أَفْصَى): بفتحِ الهمزةِ والصَّاد المهملةِ بينهما فاء ساكنةٌ، مقصور، قال في ((الفتح)): ووقعَ في روايةِ الجُرجانيِّ: <أفعى> بعينِ مهملة بدلَ الصَّاد، وهو تصحيفٌ.
          (ابْنِ حَارِثَةَ): بالحاء المهملة والمثلثة (ابْنِ عَمْرِو): بفتح العين (ابْنِ عَامِرٍ): أي: ابنِ حارثةَ أيضاً، ابنِ امرِئِ القيسِ بنِ ثعلبةَ بنِ مازنِ بنِ الأزدِ، ويقالُ فيه: الأسْدُ _بسكونِ السين المهملةِ_، قال الرَّشاطيُّ: الأزْدُ: جُرثومةٌ من جراثيمِ قحطانَ، وفيهم قبائلُ، منهم الأنصارُ وخُزاعةُ وغسَّانُ وبارقٌ وغامدٌ والعَتيكُ وغيرُهم، والأزْدُ: هو ابنُ الغوثِ بنِ نبتِ بنِ ملكانَ بنِ زيدِ بنِ كهلانَ بنِ سبأَ بنِ يشجُبَ بنِ يَعرُبَ بنِ قحطانَ.
          وقوله: (مِنْ خُزَاعَةَ): بضمِّ الخاء المعجمةِ في موضِعِ الحالِ من أسلَمَ بنِ أفصَى، واحتُرزَ به عن أسلَمَ في مِدحَجٍ، فهو أسلمُ بنُ أوسٍ، وعن أسلمَ في بُجيلةَ، فهو أسلمُ بنُ عَمرٍو، ومرادُ البخاريِّ كما قيل أنَّ نسَبَ حارثةَ بنِ عَمرٍو متَّصِلٌ بأهلِ اليمنِ، وقد خاطبَ النَّبيُّ صلعم بني أسلَمَ بأنَّهم من بني إسماعيلَ، كما في حديثِ سلمةَ بنِ الأكوعِ الذي في هذا البابِ، فدلَّ على أنَّ اليمنَ من بني إسماعيلَ، انتهى.
          قال في ((الفتح)): وفي هذا الاستدلالِ نظرٌ؛ لأنَّه لا يلزمُ من كونِ بني أسلَمَ من بني إسماعيلَ أن يكونَ جميعُ مَنْ يُنسَبُ إلى قَحطانَ من بني إسماعيلَ؛ لاحتمالِ أن يكونَ وقَعَ في أسلَمَ ما وقَعَ في إخوتِهم خُزاعةَ من الخلافِ / هل هم من بَني قَحطانَ، أو من بني إسماعيلَ؟
          قال: وذكرَ ابنُ عبدِ البرِّ من طريقِ القعقاعِ بنِ حَدْرَدٍ في حديثِ البابِ: أنَّ النبيَّ عليه السلامُ مرَّ بناسٍ من أسلَمَ وخُزاعةَ وهم يتناضَلون، فقال: ((ارمُوا بني إسماعيلَ))، فعلى هذا لعلَّ مَنْ كان هناك من خُزاعةَ أكثَرُ، فقال ذلك على سبيلِ التغليبِ.
          قال: وأجابَ الهمْدانيُّ النَّسَّابةُ عن ذلك بأنَّ قولَه لهم: ((يا بني إسماعيلَ)) لا يدلُّ على أنَّهم من ولدِ إسماعيلَ من جهةِ الآباءِ، بل يحتمِلُ أنَّ ذلك من جهةِ الأمهاتِ، انتهى.
          أي: لأنَّ القحطانيَّةَ، والعدنانيَّةَ قد اختلطُوا بالصَّهارةِ، فالقحطانيةُ من بني إسماعيلَ من جهةِ الأمهاتِ، ومما استُدلَّ به على أنَّ اليمنَ من ولدِ إسماعيلَ قولُ المنذرِ بنِ حَرامٍ جدِّ حسانَ بنِ ثابتٍ:
ورِثْنا مِن البُهلولِ عَمرِو بنِ عَامرٍ                     وحَارِثةَ الغِطريْفِ مجداً مُؤثَّلاً
مَآثرَ مِن آلِ ابنِ بنتِ ابنِ مَالكٍ                     وبنْتِ ابنِ إسمَاعِيلَ مَا أنْ تحوَّلا
          قال في ((الفتح)): وهذا أيضاً يُمكِنُ تأويلُه كمَا قال الهمْدانيُّ، وقال أيضاً أوَّلَ البابِ: نسبةُ مُضرَ وربيعةَ إلى إسماعيلَ متَّفقٌ عليها، وأمَّا اليمنُ؛ فجِمَاعُ نسبتِهم ينتهي إلى قَحْطانَ، واختُلفَ في نسَبِه؛ فالأكثرُ قالوا: إنَّه عابِرُ بنُ شالِخِ بنِ أرفَخْشَدَ بنِ سامِ بنِ نوحٍ عليه السلامُ، وقيل: هو من ولدِ هودٍ عليه السلامُ، وقيل: هو هودٌ نفسُه، وقيل: ابنُ أخيه، ويقالُ: إنَّ قَحْطانَ أولُ مَنْ تكلَّمَ بالعربيةِ، وهو والدُ العربِ المتعرِّبةِ.
          وأما إسماعيلُ فهو والدُ العربِ المستعرِبةِ، وأما العربُ العاربةُ، فكانوا قبل ذلك كعادٍ وثمودَ وطَسْمَ وجَدِيسَ وعَملِيقَ وغيرِهم، وذهب الزُّبيرُ بنُ بكَّارٍ إلى أنَّ قحطانَ من ذريةِ إسماعيلَ، وأنَّه قحطانُ بنُ الهَمَيسَعِ بنِ تَيمِ بنِ نبتِ بنِ إسماعيلَ عليه السلام.
          وهو ظاهرُ قولِ أبي هريرةَ المارِّ في قصَّةِ هاجرَ حيثُ قالَ وهو يخاطِبُ الأنصَارَ: ((فتلك أمُّكُم يا بنِي ماءِ السَّماءِ)).
          قال: فهذا الَّذي يترجَّحُ في نقدِي، وذلك أنَّ عددَ الآباءِ بين المشهورين من الصَّحابةِ وغيرِهم وبين قحطانَ متقارِبٌ من عددِ الآباءِ بين المشهورين من الصَّحابةِ وغيرِهم وبينَ عدنانَ، فلو كان قحطانُ هو هوداً أو ابنَ أخيه أو قريباً من عصرِه، لكان في عِدادِ عاشرِ جدٍّ لعدنانَ على المشهورِ أنَّ بينَ عدنانَ وبين إسماعيلَ أربعةَ آباءٍ أو خمسةً.
          وأمَّا على القولِ بأنَّ بينَ عدنانَ وإسماعيلَ نحواً من أربعين أباً، فذلك قولٌ غريبٌ عند الأكثرِ مع أنه حكاهُ كثيرونَ، وهو أرجحُ عند مَن يقولُ: إنَّ معدَّ بنَ عدنانَ كان في عصرِ بُخْتَنَصَّرَ، وقد وقعَ في ذلك اضطرابٌ شديدٌ واختلافٌ متفَاوتٌ حتى أعرضَ الأكثرُ عن سياقِ النَّسَبِ بين عدنانَ وإسماعيلَ.
          قال: وقد جمعتُ مما وقعَ لي من ذلك أكثرَ من عشَرةِ أقوالٍ، فقرأتُ في كتابِ ((النَّسَبِ)) لأبي رؤبةَ عليِّ بنِ محمد بنِ نصرٍ، فذكرَ فيه فصلاً في نسبِ عدنانَ، فقال: قالتْ طائفةٌ: هو ابنُ أدَدِ بنِ زيدِ بنِ معدَّدِ بنِ مُقدَّمِ بنِ هَمَيسَعَ بنِ نبتِ بنِ قَيدارَ بنِ إسماعيلَ، وقالت طائفةٌ: ابنُ أدَدِ بنِ هَمَيسَعَ بنِ نبتِ بنِ سَلامانَ بنِ حَمَلَ بنِ نبتِ بنِ قَيدارَ.
          وقالت طائفةٌ: هو ابنُ أدَدَ بنِ المقدَّمِ بنِ ناحُورَ بنِ يسرَحَ بنِ يشجُبَ بنِ مالكِ بنِ أيمنَ بنِ نبتِ بنِ قَيدارَ.
          وقالت طائفةٌ: هو ابنُ أُدِّ بنِ أدَدِ بنِ الهَمَيسَعِ بنِ يَشجُبَ بنِ سعدِ بنِ يَريحَ بنِ نُميرِ بنِ جميلِ بنِ مَنحِيمَ بنِ لافِثَ بنِ الصابوحِ بنِ كِنانةَ بنِ العوَّامِ بنِ / ثابتِ بنِ قَيدارَ.
          وقالت طائفةٌ: بين عدنانَ وإسماعيلَ أربعون أباً، قال: واستخرجُوا ذلك من كتابِ رِخْيا كاتبِ أَرْمِيا النَّبيِّ، وكان رِخْيا حمَلَ معَدَّ بنَ عدنانَ من جزيرةِ العربِ لياليَ بُختَنَصَّرَ خَوفاً عليه من معرَّةِ الجيشِ، فأثبتَ نسَبَ معَدِّ بنِ عدنانَ في كُتبِهِ، فهو معروفٌ عند علمَاءِ أهلِ الكتابِ.
          قال: ووجدْتُ طائفةً من علماءِ العربِ قد حفِظَتْ لمعَدَّ أربعين أباً بالعربيةِ إلى إسماعيلَ، واحتجَّتْ في أسمائهم بأشعارِ مَن كان عالماً بأمرِ الجاهليةِ، كأميَّةَ بنِ أبي الصَّلتِ.
          قال: فقابلتُه بقولِ أهلِ الكتابِ، فوجدتُ العددَ متَّفقاً واللَّفظَ مختلِفاً، ثم ساقَ أسماءَ أربعين أباً بينَهما، وحكى أبو الفرجِ الأصبَهانيُّ عن دَغفَلٍ النَّسَّابةِ أنَّه ساقَ بين عدنانَ وإسماعيلَ سبعةً وثلاثين أباً، فذكرَها، وهي مغايرةٌ لِما تقدَّمَ.
          وقال هشامُ بنُ الكلبيِّ: وأخبرني رجلٌ من أهلِ تدمُرَ يُكْنَى: أبا يعقوبَ من مُسلِمةِ أهلِ الكتابِ وعلمائهم أنَّ بورحَ كاتبَ أرْمِيا أثبَتَ نسبَ معَدِّ بنِ عدنانَ، وذكَرَ نحوَ هذه الأسماءِ.
          قال: وسمعتُ مَن يقولُ: إنَّ معَدَّ بنَ عدنانَ كان على عهدِ عيسى ابنِ مريمَ.
          وقال ابنُ إسحاقَ: إنَّه عدنانُ بنُ أدَدَ بنِ يشجُبَ بنِ يعرُبَ بنِ قَندَرَ، وعنه أيضاً: عدنانُ بنُ أدِّ بنِ مقوَّمِ بنِ ناحُورَ بنِ يبرَحَ بنِ يَعرُبَ بنِ يشجُبَ بنِ نابِتِ بنِ إسماعيلَ.
          وحكى الهمْدانيُّ: في ((الأنساب)) ما حكاه ابنُ الكلبيِّ، وساقَ الأسماءَ بسياقةٍ أخرى أكثرَ من هذا العددِ باثنَين.
          قال في ((الفتح)): والذي ترجَّحَ في نظري أنَّ الاعتمَادَ على ما قالَه ابنُ إسحاقَ أَولى، قال: وأَولى منه ما أخرجَه الحاكمُ والطبَرانيُّ من حديثِ أمِّ سلَمةَ قالت: عدنانُ هو ابنُ أدِّ بنِ زيدِ بنِ برِّيِّ بنِ أعراقِ الثَّرَى، وأعراقُ الثَّرى: هو إسماعيلُ، وهو موافقٌ لمَنْ يقولُ: إنَّ قحطانَ من ذرِّيَّةِ إسماعيلَ؛ لأنَّه والحالةُ هذه يتقاربُ عددُ الآباءِ بين كلٍّ من قحطانَ وعدنانَ وبين إسماعيلَ، وعلى هذا فيكونُ معَدُّ بنُ عدنانَ كانَ في عهدِ موسى عليه السَّلامُ، لا في عهدِ عيسى عليه السَّلامُ، وهذا أولى؛ لأنَّ عددَ الآباءِ بين نبيِّنا وبين عدنانَ نحوُ العشرينَ، فيبعُدُ مع كَونِ المدةِ التي بين نبيِّنا وبين عيسى عليهما الصَّلاةُ والسَّلامُ كانت سِتَّمائةِ سنةٍ مع ما عُرفَ من طولِ أعمَارِهم أن يكونَ معَدُّ في زمنِ عيسى عليهما السَّلامُ، وإنَّما رجَّحَ مَنْ رجَّحَ كونَ بين عدنانَ وإسماعيلَ العددُ الكثيرُ الذي تقدَّمَ مع الاضطِرابِ فيه استبعادُهم أن يكونَ بين معَدِّ _وهو في عصرِ عيسى_ وبين إسماعيلَ أربعةُ آباءٍ أو خمسةٌ مع طولِ المدَّةِ، فالأقربُ ما حرَّرتُه؛ وهو أنَّ بين معَدِّ وبينَ إسماعيلَ العددُ الكثيرُ من الآباءِ إن كان معَدُّ في زمنِ عيسى، وأنَّ بينهُما العددُ القليلُ إن كان معَدُّ في زمنِ موسى، انتهى ملخَّصاً.