الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

باب ما جاء في أسماء رسول الله

          ░17▒ (بَابُ مَا جَاءَ): أي: وردَ في الكتابِ أو السنَّةِ أو في الكتبِ السَّالفةِ (فِي أَسْمَاءِ رَسُولِ اللَّهِ) وفي بعضِ النُّسخِ: <النبيِّ> بدلَ: ((رسولِ اللهِ)) (صلعم): و((أسماءِ)) بفتح الهمزة والمدِّ، جمعُ: اسمٍ، وهو لغةً: ما أنبأ عن المسمَّى، فيشملُ الكلمَاتِ الثلاثَ: / الاسمَ والفعلَ والحرفَ، ومنه: {وَعَلَّمَ آَدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا} [البقرة:31]، وفي اصطلاحِ النُّحاةِ: ما دلَّ على معنًى في نفسِه غيرِ مقترنٍ بأحدِ الأزمنةِ الثلاثِ وضعاً، وبعضُهم قال: الاسمُ: هو اللَّفظُ الموضوعُ للذاتِ، والمسمَّى: هو الذاتُ الموضوعُ له اللفظُ؛ كشخصِ زيدٍ، والتسميةُ: وضعُ ذلك للذاتِ، والمسمِّي _بكسر الميم_: هو الواضعُ، وتقدَّمَ الكلامُ على الاسمِ مبسوطاً أولَ هذا الشرحِ عند الكلامِ على البسملةِ، والجارُّ والمجرورُ متعلقٌ بـ((جاء)).
          (وَقَوْلِ اللَّهِ ╡): أي: في سورةِ الأحزابِ، ولغيرِ أبي الوقتِ: <تعالى> بدلَ: ((╡))، وهو مجرورٌ؛ عطفٌ على: ((ما))، ويجوزُ رفعُه عطفاً على: ((بابُ))، أو مبتدأٌ خبرُه محذوفٌ.
          ({مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ}):سقطَتْ هذه الآيةُ لغيرِ أبي الوقتِ، والمرادُ _كما قال البيضاويُّ_: ما كان محمدٌ والداً لأحدِكُم على الحقيقةِ، فيثبُتَ بينه وبينه ما بينَ الوالدِ والولدِ من حُرمةِ المصَاهرةِ وغيرِها، ولا ينتقضُ عمومُه بكونِه أباً للطاهرِ والقاسمِ وإبراهيمَ؛ لأنَّهم لم يبلُغوا مبلغَ الرجالِ، ولو بلغُوا كانوا رجالَه لا رجالَكم.
          (وَقَوْلِهِ): وفي بعضِ الأصولِ:<وقولِ اللهِ> (╡: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الكُفَّارِ} [الفتح:29]): وزادَ في نسخةٍ: <{رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ}> و{أَشِدَّاءُ} جمعُ: شديدٍ، و<{رُحَمَاءُ}> جمعُ: رحيمٍ، والمعنى _كما قال البيضاويُّ_ أنهم يغلِّظُون على مَن خالفَ دينَهُم، ويتراحمونَ فيما بينهُم، كقولِه: {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} [المائدة:54]، وهذه الآيةُ في أواخرِ سورةِ الفتح، {مُحَمَّدٌ} مبتدأٌ، و{رَسُولُ اللَّهِ} خبرُه.
          والجملةُ _كما قال البيضاويُّ_ مبيِّنَةٌ للمشهودِ به، قال: ويجوزُ أن يكونَ: {رَسُولُ اللَّهِ} صفةً، و{مُحَمَّدٌ} خبرُ محذوفٍ، أو مبتدأٌ، {وَالَّذِينَ مَعَهُ} معطوفٌ عليه، وخبرُهما: {أَشِدَّاءُ}، و{عَلَى الكُفَّارِ} متعلقٌ به.
          قيل: ويجوزُ أن يكونَ {وَالَّذِينَ} في محلِّ جرِّ عطفٍ على {اللَّهِ} في قوله: {وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً} والمرادُ بالذين معه الصَّحابة، وقيل: الأنبياء عليهم السَّلام.
          (وَقَوْلِهِ): جلَّ ذكرُه في سورةِ الصفِّ ({مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ} [الصف:6]): وصدرُ الآيةِ:{وإذ قال عيسى ابن مريم يا بني إسرائيل إني رسول الله إليكم مصدقاً لما بين يدي من التوراة ومبشراً برسول يأتي من بعدي} متعلقٌ بـ{يَأْتِي}، وقوله: {اسْمُهُ أَحْمَدُ} مبتدأٌ وخبرٌ.
          قال البيضاويُّ: يعني: محمَّداً عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ، والمعنى: دينِي التَّصديقُ بكتُبِ اللهِ وأنبيائهِ، فذكرَ أولَ الكُتبِ المشهورةِ الذي حكَمَ به النبيُّونَ، والنبيَّ الذي هو خاتَمُ النَّبيينَ، انتهى.
          وعن كعبِ الأحبَارِ ☺ أنَّ الحواريين قالوا لعيسى عليه السَّلام: يا روحَ اللهِ؛ هل بعدَك من أمَّةٍ؟ قال: نعم، أمَّةُ أحمدَ؛ حكماءُ علماءُ أبرارٌ أتقياءُ.
          وأشار المصنِّفُ بذكرِ الآيتَينِ إلى أشهرِ أسمائه، وأشهرُها: محمدٌ، وقد تكرَّرَ في القرآنِ في آياتٍ، وأما أحمدُ؛ فلم يذكَرْ إلا في هذه الآيةِ حكايةً عن قولِ عيسى عليه السلام، فمحمدٌ يدلُّ على المبالغةِ، وأحمدُ على التفضيلِ، ومعناه: أحمدُ الحامدين، وذلك لأنَّه يُفتَحُ عليه حين يسجُدُ للشفاعةِ العظمى في المقامِ المحمودِ بمحامِدَ لم تُفتَحْ على أحدٍ من الأنبياءِ، فالأنبياءُ حمَّادون، وهو أحمدُهم؛ أي: أكثرُهم، وقيل: أعظمُهم حمداً، وأما محمَّدٌ؛ فهو منقولٌ أيضاً من صفةِ الحمدِ، وهو بمعنى: محمودٍ، وفيه مبالغةٌ، وقد أخرجَ المصنِّفُ في ((التاريخ الصغير)) عن عليِّ بنِ زيدٍ قال: كان أبو طالبٍ يقول:
وشَقَّ له من اسمِه ليُجِلَّه                     فذُو العَرشِ محمُودٌ وهَذَا محمَّدُ
          كذا في ((الفتح)).
          وأقول: المذكورُ في كلامِ غيرِه أنَّ البيتَ المذكورَ لحسانَ، ولعلَّه من توافقِ ما يصدُرُ عن الجَنان، فتأمَّل.
          ومحمدٌ: هو الذي حُمِدَ مرَّةً بعد أخرى؛كمُمدَّح، وقيل: الذي تكاملَتْ فيه الخصالُ / المحمودةُ، قال الأعشى:
إلى الماجِدِ القَرَمِ الجوَادِ المحمَّدِ
          قال القاضي عياضٌ: كان رسولُ اللهِ صلعم أحمدَ قبل أن يكونَ محمَّداً، كما وقعَ في الوجودِ؛ لأنَّ تسميتَه أحمدَ وقعَتْ في الكُتبِ السَّالفةِ، وتسميتَه محمَّداً وقعَتْ في القرآنِ العظيمِ؛ أي: وذلك أنَّه حمِدَ ربَّه قبلَ أن يحمدَه الناسُ، وكذلك في الآخرةِ يحمَدُ ربَّه فيشفِّعُه، فيحمدُه الناسُ، وقد خُصَّ بسورةِ الحمْدِ، وبلواءِ الحمدِ، وبالمقامِ المحمُودِ، وشرَّعَ الحمدَ بعد الأكلِ وبعد الشربِ، وبعد الدُّعاءِ، وبعدَ القدومِ من السَّفرِ، وسمِّيتْ أمَّتُه الحمَّادين، فجُمِعت له صلعم معاني الحمدِ وأنواعُه، وما ذكرَه عياضٌ من أنَّه سمِّي بأحمدَ قبل التسميةِ بمحمدٍ جرى عليه الإمامُ السُّهيليُّ وآخرون، وقال ابنُ القيمِ وآخرون بأنَّ التسميةَ بمحمَّدٍ قبل التسميةِ بأحمدَ، والوجهُ: الأولُ.