نجاح القاري لصحيح البخاري

باب الخدم للمسجد

          ░74▒ (باب الْخَدَمِ) جمع: خادم؛ أي: باب جواز كون الخدم (لِلْمَسْجِدِ) وفضله، وفي رواية: <للمسجد>، قيل: وكان الأولى ذكر هذا الباب عقيب باب كنس المسجد، على ما لا يخفى.
          (وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ) ☻ في تفسير قوله تعالى حكاية عن حَنَّة _بفتح المهملة، وتشديد النون_ بنت فاقوذا، جدَّة عيسى ◙، وكانت امرأة عمران، وكانت عَاقِراً عجوزاً، فبَيْنا هي في ظلِّ شجرة، إذ رأت طائراً يُطعم فرخه، فحنَّت إلى الولد، وتمنَّته، فقالت: اللَّهمَّ إن لك عليَّ نذراً، إن رزقتني ولداً أنْ أتصدَّق به على بيت المقدس، فيكون من خدمه، فحملت بمريم، وهلك عمران، فقالت: {رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا} تَعْنِي؛ أي: حنَّة أمَّ مريم.
          (مُحَرَّراً لِلْمَسْجِدِ) معتقاً لخدمته (يَخْدُمُهُ) لا أشغله بشيء غيره، وفي رواية: <تخدمها>؛ أي: المساجد، أو الصخرة، أو الأرض المقدَّسة، وكان النَّذر مشروعاً عندهم في الغلمان، فلعلَّها بَنت الأمر على التَّقدير، أو طلبت ذَكَراً، {فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى} [آل عمران:36] قالت تحسراً وتحزناً إلى ربها؛ لأنَّها كانت ترجو أن تَلِد ذَكَراً، فتحرِّره للمسجد {فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا} فرضي بها في النَّذر مكان الذَّكر {بِقَبُولٍ حَسَنٍ} [آل عمران:37]، بوجهٍ حسن يقبل به النَّذائر، وهو إقامتها مقام الذَّكر، أو تسلمها عقيب ولادتها، قبل أن تكبر وتصلح للسَّدانة.
          روي أن حَنَّة لما ولدتها لفَّتها في خرقة، وحملتها إلى المسجد، ووضعتها عند / الأحبار، وقالت: دونكم هذه النَّذيرة؛ أي: خذوها، فتنافسوا فيها؛ لأنها كانت بنت إمامهم، وصاحب قربانهم، فإنَّ بني ماثان كانت رؤوس بني إسرائيل وملوكهم، فقال زكريا: أنا أحقُّ بها، عندي خالتها، فأبَوا إلَّا القرعة، وكانوا سبعة وعشرين، فانطلقوا إلى نهر، فألقوا فيه أقلامهم، فطفا قلم زكريا، ورَسَتْ أقلامهم، فتكفَّلها.
          وأشار المؤلف ☼ بهذا التَّعليق إلى أن تعظيم المسجد بالخدمة كان مشروعاً أيضاً في الأمم الماضية، ألا ترى أنَّ الله حكى عن حنَّة، أنها لما حَبِلت نذرت لله تعالى أن يكون ما في بطنها محرراً عتيقاً، يخدم المسجد الأقصى، ولا يكون لأحد عليه سبيل، ولولا أنَّ خدمة المساجد ممَّا يتقرب به إلى الله تعالى، لما نذرت به، وهذا أيضاً موضع الترجمة.