نجاح القاري لصحيح البخاري

باب التعاون في بناء المسجد

          ░63▒ (باب التَّعَاوُنِ فِي بِنَاءِ المَسْجِدِ) بالإفراد، وفي رواية: <المساجد> بالجمع ({مَا كَانَ}) وفي رواية: <وقول الله ╡: {مَا كَانَ}> ({لِلْمُشْرِكِينَ}) أي: ما صح لهم ({أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ}) أي: أياً من المساجد، فضلاً عن المسجد الحرام، وقيل: هو المراد، وإنَّما جمع لأنَّه قبلة المساجد وإمامها، فعَامِرُه كعامر الجميع. ويدل عليه قراءة ابن كثير وأبي عمرو ويعقوب بالتوحيد.
          ({شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ}) بإظهار الشرك وتكذيب الرسول؛ أي: ما استقام لهم أن يجمعوا بين أمرين متنافيين، عمارة بيت الله وعبادة غيره، روي أنَّه لما أُسِرَ العباس ☺ يوم بدر، أقبل عليه المسلمون، فعيَّروه بالشِّرك وقطيعة الرحم، وأغلظَ له عليُّ ☺ في القول، فقال العبَّاس ☺: ما لكم تذكرون مساوئنا، وتكتمون محاسننا؟ فقال له عليٌّ ☺: ألكم محاسن؟ قال: نعم، إنا لنَعْمُر المسجد الحرام، ونحجب الكعبة، ونسقي الحَجيجَ، ونفكُّ العاني؛ أي: الأسير، فنزلت ({أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ}) التي يفتخرون بها؛ لأنَّ الكفر يذهب ثوابها ({وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ}) لأجله ({إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاَةَ وَآتَى الزَّكَاةَ}) أي: إنما تستقيم عمارتها لهؤلاء الجامعين للكمالات العلميَّة والعمليَّة، والحاصل: أنَّ عمارتَها المعتدَّ بها عمارةٌ من آمن بالله، فعمارة غيرهم كَلَا عمارة، كما تفيده أداة الحصر، ومن عمارتها تزيينها بالفرشِ، وتنويرها بالسَّرج، وإدامة العبادةِ والذِّكر ودرس العلم فيها، وصيانتها ممَّا لم تُبْنَ له، كحديث الدنيا، وفي حديث أنس بن مالك ☺ في ((مسند عبد بن حميد)) مرفوعاً: ((أنَّ عمَّار المساجد هم أهلُ الله))، ورواه الحافظ أبو بكر أيضاً، ولا شكَّ أن أهل الله هم المؤمنون، وروي أنَّ الله تعالى يقول: ((إن بيوتي في أرضي المساجدُ، وإنَّ زواري فيها عمَّارُها، فطوبى لعبد / تطهَّر في بيته، ثمَّ زارني في بيتي، فحقٌّ على المزور أن يُكرم زائره)).
          ({وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللَّهَ}) في أبواب الدين، فإنَّ الخشية عن المحاذير جِبلِّية، لا يكاد الرجل يتمالك عنها.
          ({فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ}) ذكره بصيغة التَّوقع، قطعاً لأطماع المشركين في الاهتداء والانتفاع بأعمالهم، وتوبيخاً بالقطع بأنهم مهتدون، فإن هؤلاء مع كمالهم إذا كان اهتداؤهم دائراً بين عسى ولعلَّ، فما ظنُّك بمن هو أضل من البهائم؟ ومنعاً للمؤمنين أن يغترُّوا بأحوالهم، ويتكلَّموا على أعمالهم.
          هذا؛ ثمَّ إنَّ في لفظ رواية أبي ذر: ({أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ} الآيةَ). وفي لفظ الأصَيلي: <{مَسَاجِدَ اللَّهِ} إلى قوله: {مِنَ الْمُهْتَدِينَ}>، وإنما ذكر هاتين الآيتين، وجعلهما من جملة التَّرجمة، إشارة إلى أنَّ التعاون في بناء المساجد المعتبرً الذي فيه الأجر، إنما هو للمؤمنين، لا للكافرين، وإن كانوا بنوا مساجد، ليتعبَّدوا فيها بعبادتهم الباطلة، كما تدلُّ عليه قصة العباس ☺.