نجاح القاري لصحيح البخاري

باب بنيان المسجد

          ░62▒ (باب بُنْيَانِ الْمَسْجِدِ) النَّبوي، والبُنيان: البناء، وقال الجوهريُّ: البنيان: الحائط، يقال: بنى فلان بيتاً من البنيان، وبنى على أهله بناء؛ أي: زفَّها، والعامة تقول: بنى بأهله، وهو خطأ.
          (وَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ) هو الخُدري ☺، وقد مرَّ ذكره في كتاب الإيمان [خ¦19] (كَانَ سَقْفُ الْمَسْجِدِ) النبوي (مِنْ جَرِيدِ النَّخْلِ) والجريد هو الَّذي يُجرَّد عنه الخوص، وهو ورق النَّخل، فإن لم يجرِّد فسعف.
          وهذا التَّعليق رواه المؤلِّف ☼ مسنداً في باب هل يصلي الإمام بمن حضر؟: حدثنا مسلم، قال: حدثنا هشام، عن يحيى، عن أبي سلمة، قال: سألت أبا سعيد الخدري ☺، فقال: جاءت سحابة، فمطرتْ، حتى سال السَّقف وكان من جريد النَّخل، فأقيمت الصَّلاة، فرأيت رسول الله صلعم يسجدُ في الماء والطِّين، حتَّى رأيت أثر الطِّين في جبهته [خ¦669].
          (وَأَمَرَ عُمَرُ) أي: ابن الخطَّاب ☺ (بِبِنَاءِ الْمَسْجِدِ) النَّبوي (وَقَالَ) للصَّانع: (أَكِنَّ النَّاسَ مِنَ الْمَطَرِ) فيه أوجه: الأول: بفتح الهمزة وكسر الكاف وفتح النون، أَمرٌ من الإكنان، وهي رواية الأَصيلي، وهي الأظهر الموافق لقوله: وأمر عمر ☺؛ ولقوله: وإياك؛ لأنَّه أمر أولاً بالبناء، وخاطب أحداً بذلك، ثم حذَّره من التَّحمير والتَّصفير.
          الثاني: بضم الهمزة وكسر الكاف وتشديد النون المضمومة، بلفظ المتكلِّم من الفعل المضارع، وقال ابنُ التِّين: هكذا رويناه، وفي هذا الوجه التفات، وهو أنَّ عمر ☺ أخبر عن نفسهِ، ثمَّ التف إلى الصَّانع، فقال: وإياك، ويجوزُ أن يكون أن تجريداً، فكأنَّ عمر ☺ بعد أن أخبر عن نفسه، جرَّد عنها شخصاً، وخاطبه بذلك.
          الثالث: وقاله عياض: كِنَّ / الناس: بحذف الهمزة على غير قياسٍ، وكسر الكاف وفتح النون المشددة، وأصله أكن.
          الرابع: كُن: بضم الكاف، من كن؛ أي: صان، فهو مكنون، وهذا له وجهٌ، ولكن الرواية لا تساعده، والإكنانُ من أكننتُ الشيء؛ أي: صُنْتُه وسترتُه، وحكى أبو زيد والكسائي: كننتُهُ من الثُّلاثي بمعنى: أكننتُه.
          وقال ثعلب في ((الفصيح)): أكننت الشيء، إذا أخفيتَه، وكننتُه إذا سترته بشيء، ويقال: أكننت الشيء سترتُه، وصنته من الشمس، وأكننتُه في نفسي أسررته، قال تعالى: {وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ} [القصص:69].
          وفي كتاب ((فعل وأفعل)) لأبي عبيدة مَعْمَر بن المُثنى: قالت تميم: كننت الجارية أكنها كِنَّاً _بكسر الكاف_، وأكننتُ العلم والسرَّ، وقالت قيس: كننت السرَّ والعلم بغير ألف، وأكننت الجارية بالألف، وقال ابن الأعرابي في ((نوادره)): أكننت السرَّ، وكننت وجهي من الحرِّ، وكننت سيفي، قال: وقد يكون هذا بالألف أيضاً.
          (وَإِيَّاكَ) خطاب للصَّانع بكلمة التَّحذير؛ أي: احذر من (أَنْ تُحَمِّرَ وَتُصَفِّرَ) كلاهما من التَّفعيل بكلمة أن المصدرية؛ أي: من التَّحمير والتَّصفير، والمراد الزخرفة (فَتَفْتِنَ النَّاسَ) بفتح المثناة الفوقية وسكون الفاء، من فَتَن يَفْتِن، كضَرَب يَضْرِب، فَتْناً وفُتُوناً، إذا امتحنه، وضبطه ابن التِّين بضم تاء الخطاب من أفتن، وأنكره الأصمعيُّ، وأجازه أبو عُبيد، وقال: فتن وأفتن بمعنى، وهو قليل، وفي بعض النسخ: <فتفتَّن> من التَّفْتين، وعلى كلِّ حال هو بفتح النون؛ لأنَّه معطوف على المنصوب بكلمة «أن»، والفتنة اسم، وهو في الأصل الامتحان والاختبار، ثمَّ كَثُر استعمالها بمعنى الإثم والكفر والقتال والإحراق والإزالة والصَّرف عن الشَّيء، قاله أبو عُبيد.
          قال ابنُ بطال: كأنَّ عمر ☺ فَهِم ذلك من رد الشَّارع الخميصة إلى أبي جَهْم، من أجل الأَعْلَام التي فيها، وقال: ((إنها ألهتْنِي عن صَلاتي)) [خ¦373].
          وقال الحافظ العسقلاني: ويحتملُ أن يكون عند عمر ☺ عِلْم خاص بهذه المسألة، وقد روى ابن ماجه من طريق عَمرو بن ميمون، عن عمر ☺ مرفوعاً: ((ما ساء عملُ قومٍ قطُّ، إلَّا زخرفوا مساجدَهم))، ورجالُه ثقاتٌ، إلَّا شيخه جُبَارة بن المغلِّس، ففيه مَقال.
          ثم إنَّ هذا التعليق لم نظفر بمن وصله، سوى ما قال الحافظ العسقلاني: هو طرف من قصة في ذكر تجديده المسجد النَّبوي. /
          (وَقَالَ أَنَسٌ) ☺ (يَتَبَاهَوْنَ) بفتح الهاء، من التَّباهي، وهو المباهاةُ والمفاخرةُ؛ أي: يتفاخرون (بِهَا) أي: بالمساجد، والسِّيَاق يدلُّ عليه (ثُمَّ لاَ يَعْمُرُونَهَا) بضم الميم (إِلاَّ قَلِيلاً) بالنَّصب، ويجوز الرفع، لأنَّه من باب قوله تعالى: {مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ} [النساء:66]. والمعنى أنَّهم يزخرفون المساجد، ويزيِّنونها، ثمَّ يقعدون فيها، ويتمارون، ويتباهون، ثمَّ لا يعمرونها، بأن يشتغلوا بالذِّكر والصَّلاة وقراءة القرآن ودرس العلوم الشَّرعية.
          وهذا التَّعليق مرفوع في ((صحيح ابن خزيمة))، عن محمد بن عَمرو بن العباس: حدثنا سعيد بن عامر، عن أبي عامر الخزَّاز، قال: قال أبو قلابة: انطلقنَا مع أنس ☺ نريد الزَّاوية _يعني: قصر أنس_، فمررنا بمسجد، فحضرَتْ صلاة الصُّبح، فقال أنس: لو صلَّينا في هذا المسجد، فقال بعضُ القوم: نأتي المسجد الآخر، فقال أنسٌ ☺: إنَّ رسول الله صلعم قال: ((يأتي على النَّاس زمان يتباهَون بالمساجد، ثمَّ لا يعمرونها إلَّا قليلاً _أو قال: يعمرونها قليلاً_)). ورواه أبو يعلى الموصلي أيضاً في ((مسنده)).
          وروى أبو داود والنسائي وابن حبَّان مختصراً من طريق أخرى، عن أبي قِلابة، عن أنس ☺، عن النبي صلعم قال: ((لا تقومُ السَّاعة حتى يتباهى النَّاس في المساجد))، والطَّريق الأول أليقُ بمراد البخاري ☼ .
          وعند أبي نُعيم في كتاب ((المساجد)) من الوجه الذي عند ابن خزيمة: ((يتباهَون بكثرة المساجدِ))، ومن الوجه الآخر: ((يتباهى النَّاس ببناء المساجد)).
          وفي حديث أنس ☺ هذا عِلْمٌ من أعلام النُّبوة؛ لإخباره صلعم بما سيقع، فوقع كما قاله، والله أعلم.
          (وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ) ☻ : والله (لَتُزَخْرِفُنَّهَا) أي: المساجد، وهو بفتح لام القسم وضم الفوقية وفتح الزاي وسكون الخاء المعجمة وكسر الراء وضم الفاء ونون التأكيد، خطاباً للمذكرين، من الزخرفة، وهو التَّزيين، يقال: زخرف الرَّجل كلامه، إذا موَّهه وزيَّنه بالباطل، والزُّخرف: الذَّهب، ثم استعمل في كلِّ ما يتزيَّن به، والمعنى هاهنا تمويه المساجد بالذَّهب ونحوه.
          (كَمَا زَخْرَفَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى) كنائسهم وبِيَعَهم، حين حرَّفوا الكتب، وبدَّلوها، وضيَّعوا الدِّين، وعرَّجوا على الزَّخارف.
          وقال محيي السنَّة: أي: أنَّهم زَخرفوا المساجد عندما بدَّلوا دينهم، وأنتم تصيرون إلى مثل حالهم، وسيصير أمركم إلى المُرَاءاة بالمساجد، والمباهاة بتزيينها، وبهذا استدلَّ أصحابنا أن نقشَ المسجد وتزيينه مكروه، وقول بعض أصحابنا: ولا بأس بنقشِ المسجد، معناه: تركه أولى.
          ولا يجوز من مال الوقف، / ويُغرَّم الذي يخرجه منه، سواء كان ناظراً أو غيره، نعم؛ إذا وقع ذلك على سبيل التَّعظيم للمساجد، ولم يقع الصَّرف عليه من مال الوقف، ولا من بيت المال، فلا بأس به، ولو أوصى بتشييد مسجد وتحميره وتصفيره، نفذت وصيته؛ لأنَّه قد حدث للناس فتاوى بقدر ما أحدثوا، وقد أحدث النَّاس مؤمنهم وكافرهم تشييد بيوتهم وتزيينها، ولو بنينا مساجدنا، وجعلناها مُتَطامنة بين الدُّور الشَّاهقة، فربما كانت لأهل الذِّمة مستهانة، قاله ابن المُنَيِّر.
          وتعقِّب بأنَّ المنع إنْ كان للحثِّ على اتِّباع السلف في ترك الرَّفاهية، فالأمر كما قال، وإن كان لخشية شغل بال المصلي بالزَّخرفة، أو لإخراج المال في غير وجهه فلا.
          هذا؛ وأنت خبير بسخافةِ هذا الكلام، إن كنت من ذوي الأفهام، ثمَّ إن هذا التَّعليق وصله أبو داود وابن حبَّان، من طريق يزيد بن الأصم، عن ابن عبَّاس ☻ هكذا موقوفاً، وقبله حديث مرفوعٌ، ولفظه قال: قال رسول الله صلعم : ((ما أُمِرت بتشييدِ المساجد))، قال ابن عبَّاس ☻ : لتزخرفُنَّها كما زَخرفت اليهود والنَّصارى.
          وإنما اقتصرَ البخاري ☼ على الموقوف منه، ولم يذكر المرفوع، للاختلاف على يزيد بن الأصم في وصله وإرسالهِ، ويزيد هذا روى له مسلم والأربعة.
          وظنَّ الطِّيبي في ((شرح المشكاة)) أنهما حديث واحدٌ، فشرحه على أن اللام في ((لِتزخرفنها)) مكسورة، وهي لام التَّعليل للمنفي قبله، والمعنى ما أمرت بالتَّشييد؛ أي: رفع البناء والإحكام؛ ليجعل ذريعة إلى الزَّخرفة، قال: والنون فيه لمجرد التَّأكيد، وفيه نوع توبيخٍ وتأنيب، ثمَّ قال: ويجوز فتح اللام على أنها جواب القسم، قال الحافظ العسقلاني: وهذا هو المعتمد، والأول لم يثبت به الرواية أصلاً، فلا تغتر.