نجاح القاري لصحيح البخاري

باب الصلاة في مواضع الخسف والعذاب

          ░53▒ (باب) حكم (الصَّلاَةِ فِي مَوَاضِعِ) بالجمع، وفي رواية: <في موضع> بالإفراد (الْخَسْفِ) يقال: خسف المكان، يخسف خسوفاً، ذهب في الأرض، وخسف الله به الأرض خسفاً؛ أي: غاب به فيها، ومنه قوله تعالى: {فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ} [القصص:81]، وخسوف العين ذهابها في الرأس، وخسوف القمر كسوفه.
          (وَ) موضع نزول (الْعَذَابِ) وهو من باب عطف العام على الخاص؛ لأنَّ الخسف من جملة العذاب، وأبهم المؤلِّف ☼ حكمها، لم يبيِّن هل هي مكروهة أم غير جائزة؟ ولكن تقديره: تكره؛ لدَلالة أثر علي ☺ على ذلك.
          (وَيُذْكَرُ أَنَّ عَلِيّاً) ☺ (كَرِهَ الصَّلاَةَ بِخَسْفِ بَابِلَ) وهذا التعليق رواه ابن أبي شيبة عن وكيع،حَدَّثَنَا سفيان،حَدَّثَنَا عبد الله بن شَرِيك، عن عبد الله بن أبي المُحِلِّ _بضم الميم وكسر الحاء المهملة وتشديد اللام_ العامري، قال: كنَّا مع علي ☺ فمررنا على الخسف الذي ببابل، فلم يُصلِّ حتى جَازَه؛ أي: تعدَّاه.
          ومن طريق أُخرى عن علي ☺ قال: ما كنت أصلي في أرض خسف الله بها، ثلاث / مرات، أي: قاله ثلاث مرات، وليس متعلِّقاً بالخسف؛ لأنه ليس فيها إلَّا خسف واحد، وروى أبو داود في ((سننه)) من حديث الحجَّاج بن شداد، عن أبي صالح الغِفَاري، عن عليٍّ ☺: أنَّه مرَّ ببابل، وهو يسير، فجاء المؤذن يؤذن بصلاة العصر، فلما برز منها، أمر المؤذِّن فأقام، فلمَّا فرغ من الصَّلاة، قال: إنَّ حبيبي صلعم نهاني أن أصلِّي في المقبرة، ونهاني أن أصلِّي في أرض بابل، فإنَّها ملعونة.
          واللَّائق بتعليق المؤلِّف هو الأول؛ إذ في ما روى أبو داود ضعف، قال ابن يونس: أبو صالح الغفاري سعيد بن عبد الرحمن، روى عن عليٍّ، وما أظنُّه سمع منه، وقال ابن القطان: في سنده رجال لا يعرفون، وقال عبد الحق: هو حديث واهٍ، وقال البيهقي في ((المعرفة)): إسناده غير قوي، وقال الخطابي: في سنده مقال، ولا أعلم أحداً من العلماء حرَّم الصَّلاة في أرض بابل، وقد عارضه ما هو أصحُّ منه، وهو قوله صلعم : ((جعلت لي الأرض مسجداً)) [خ¦438]، ويشبه إن ثبت الحديث أن يكون نهاه أن يتخذها وطناً ومقاماً، فإذا أقام بها كانت صلاته بها، فأطلق الملزوم، وأراد اللَّازم، والمراد الملازمة الشَّرعيَّة، لانتفاء الملازمة العقليَّة.
          وقال الخطَّابي أيضاً: لعلَّ النَّهي لعليٍّ خاصة، ألا ترى أنَّه قال: ((نهاني)) ولعلَّ ذلك إنذار له مما لقي من الفتنة بالعراق بالكوفة، وهي من أرض بابل.
          وقال أبو عُبيد البكري: بابل بالعراق، مدينة السِّحر معروفة، وقال الجوهري: بابل: اسم موضع بالعراق، ينسب إليه السحر والخمر، وقال الأخفش: لا ينصرف لتأنيثه، وذلك أنَّ اسم كل شيء مؤنث إذا كان أكثر من ثلاثة أحرف، فإنَّه لا ينصرف في المعرفة.
          وقال أصحاب الأخبار: بنى نمرود بن كنعان القصر بها، وسَمْكُه _أي: ارتفاعه_ في السماء خمسة آلاف ذراع، وهو البنيان الذي ذكره الله في كتابه العزيز بقوله: {فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ} [النحل:62]، وبات الناس ولسانهم سرياني، فأصبحوا وقد تفرقت لغاتهم على اثنين وسبعين لساناً، كلٌّ يبلبل بلسانه، فسمي الموضع بابلاً، وقال الهمداني: وربما سَمُّوا العراق بابلاً، قال عمر بن أبي ربيعة وأتى البصرة قضاعة بن هلال المعروف بصديق الجن:
يا أهلَ بابلَ ما نفَسْتُ عليكُم                     مِن عيشِكُم إلَّا ثلاث خِلالِ
ماءُ الفُرَات وظلُّ عيشٍ باردٍ                     وعينُ مسمعتين لابنِ هلالِ
          وذكر الطبري: بابل اسم قرية، أو موضع من مواضع الأرض.
          وقد اختلف أهل / التَّأويل فيها، فقال بعضُهم وهو السُّدي: هي بابل دنباوند، وقال بعضهم: بل ذلك بالعراق، ورَدَ ذلك في حديث مرويٍّ عن عائشة ♦.
          واعلم أنَّه قد وردتْ أحاديث فيها النَّهي عن الصَّلاة في مواضع: منها حديث ابن عمر ☻ : ((أنَّ رسول الله صلعم نهى أن يصلَّى في سبعة مواطن: في المزبلَةِ، والمجزرَةِ، والمقبرة، وقارعةِ الطَّريق، وفي الحمام، وفي معاطنِ الإبل، وفوق ظهرِ بيت الله)). رواه التِّرمذي وابن ماجه.
          وقال القاضي أبو بكر ابن العربي: المواضع الَّتي لا يصلَّى فيها ثلاثة عشر موضعاً، فذكر السبعة المذكورة، وزاد: وإلى المقبرة، وأمامك جدار مرحاض عليه نجاسة، والكنيسة، والبيعة وفي قبلتك تماثيل، وفي دار العذاب.
          وذكر غيره الصَّلاةَ في الأرض المغصوبة، وإلى النَّائم والمتحدِّث، والصَّلاة في بطن الوادي، والصَّلاةَ في مسجد الضِّرار، فصارت الجملة ثمانية عشر موضعاً.
          فأمَّا المزبلة: فهو المكان الَّذي يلقى فيه الزبل، وهو السرجين، وفيها لغتان فتح الباء وضمها، أمَّا الصَّلاة فيها فإن كانت بها نجاسة فتَحرُم من غير حائل، وإن فُرِش عليها شيء حائل بينه وبينها انتفى التَّحريم، وبقيت الكراهة.
          وأمَّا المجزَرة: فهي بفتح الزاي، المكان الذي يُنحر فيه الإبل، ويذبح فيه البقر والغنم، وهي أيضاً محل الدِّماء والأرواث، والكلام فيه مثل الكلام في المزبلة.
          وأمَّا المقبرة: فقد مرَّ الكلام فيها [خ¦427].
          وأمَّا قارعة الطَّريق: فلما فيها من شغل الخاطر بمرور الناس.
          وأمَّا الحمام: فقال أحمد: لا تصحُّ الصلاة فيه، ومن صلَّى فيه أعاد أبداً، وعند الجمهور تكره، ولا تبطل، ثمَّ قيل: العلَّة: الغسالات، وقيل: لأنَّها مأوى الشَّياطين، فعلى الأوَّل إذا صلَّى في مكان طاهر فيه لا تكره، ويلزم من الثاني أن تكره الصَّلاة في غير الحمام أيضاً؛ لعدم خلو الأمكنة من الشَّياطين.
          وأمَّا معاطن الإبل: فقد مرَّ الكلام فيها [خ¦430].
          وأمَّا الصلاة فوق ظهر بيت الله ففيه خلاف وتفصيل، يعرف من الفروع، وفي ((شرح الترمذي)): فلم يصح فيه حديث.
          وأمَّا الصلاة إلى جدار مرحاض: فلِمَا رواه ابن أبي شيبة في ((مصنفه)) عن عبد الله بن عَمرو، قال: لا تصلِّي إلى الحُشِّ، وعن عليٍّ ☺: لا تصلي تجاه حشٍّ، وعن إبراهيم: كانوا يكرهون ثلاثة أبيات: القبلة، وذكر منها الحش، وفي ((شرح الترمذي)): وقد نصَّ الشافعي ☼ على أنَّه لا تكره الصَّلاة إذا صلَّى وبين يديه جيفة، / وحكى المحبُّ الطَّبري في ((شرح التنبيه)): أنَّه يكره استقبال الجدار النَّجس أو المتنجس في الصلاة، وقال ابنُ حبيب من المالكيَّة: من تعمَّد الصلاة إلى نجاسة بطلت صلاته، إلَّا أن يكون بعيداً جدًّا.
          وأمَّا الصَّلاة في الكنيسة والبيعة: فكرهها الحسن البصري، وفي ((مصنف ابن أبي شيبة)): أنَّ ابن عبَّاس ☻ كره الصَّلاة في الكنيسة إذا كانت فيها تصاوير، ولم ير الشَّعبي وعطاء بن أبي رَباح بالصَّلاة في الكنيسة والبيعة بأساً، وكذلك ابن سيرين، وصلى أبو موسى الأشعري وعمر بن عبد العزيز في كنيسة.
          وأمَّا الصَّلاة إلى قبلة فيها تماثيل: فقد مرَّ الكلام فيها [خ¦431].
          وأمَّا الصَّلاة في دار العذاب: فلما روي عن علي ☺، وقد ذكر عن قريب.
          وأمَّا الصَّلاة في الأرض المغصوبة: فلما فيه من استعمال حقِّ الغير بغير إذنه، فيَحْرُم، وتصح، ولا ثواب فيها.
          وأمَّا الصَّلاة إلى النَّائم والمتحدِّث: فلِمَا روي عن ابن عبَّاس ☻ النَّهي في ذلك، رواه أبو داود وابن ماجه.
          وأمَّا الصَّلاة في بطن الوادي: فهو لخوف السَّيل السالب للخشوع، قاله الرافعي، وإن لم يتوقَّع ذلك فيجوز أن يقال: لا كراهة.
          وأمَّا الصَّلاة في مسجد الضِّرار: فلقوله تعالى: {لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً} [التوبة:801]. وقال ابن حزم: لا تصح الصَّلاة فيه؛ لأنَّه ليس موضع صلاة، وقال: لا تجوز الصَّلاة أيضاً في مسجد يُستهزأ فيه بالله أو برسولهِ أو بشيءٍ من الدين، أو في مكان يُكفر فيه بشيءٍ، فإن لم يمكنه الزَّوال ولا قَدِرَ، صلى، وأجزأته صلاته.