نجاح القاري لصحيح البخاري

باب قبلة أهل المدينة وأهل الشام والمشرق

          ░29▒ (باب قِبْلَةِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ) أي مدينة رسول الله صلعم (وَأَهْلِ الشَّأمِ وَ) أهل (الْمَشْرِقِ) أي باب حكم قبلتهم في استقبالها واستدبارها المنهي عنهما، وكذا قبلة أهل المغرب؛ لأنَّ العلة مشتركة فيهما، وإنما لم يذكره المؤلف اكتفاء؛ كما في قوله تعالى: {سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ} [النحل:81] أي: والبرد، وإنما خص المشرق بالذكر؛ لأن أكثر بلاد الإسلام في جهته، ولأنَّ المشرق أكثر الأرض المعمورة.
          وقوله: (لَيْسَ فِي الْمَشْرِقِ وَلاَ فِي الْمَغْرِبِ قِبْلَةٌ) جملة مستأنفة لبيان أن من يستقبل المشرق أو المغرب، وكذا من يستدبرهما، لا يستقبل القبلة ولا يستدبرها، يعني أن القبلة ليست في جهة المشرق، ولا في جهة المغرب بل ما بينهما، لما روى الترمذي بإسناده، عن أبي هريرة ☺، قال: قال رسول الله صلعم : ((ما بين المشرق والمغرب قبلة)).
          ثم قال: وقد روي عن غير واحد من أصحاب النبي صلعم : ((ما بين المشرق والمغرب قبلة))، منهم عمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب، وابن عباس ☻ .
          وقال ابن عمر ☻ : إذا جعلت المغرب عن يمينك، والمشرق عن يسارك، فما بينهما قبلة.
          وقال محمود العيني: وقوله صلعم : ((ما بين المشرق / والمغرب قبلة))، ليس عاماً في سائر البلاد، وإنما هو بالنسبة إلى المدينة الشريفة، وما وافق قبلتها.
          وقال البيهقي في ((الخلافيات)): والمراد _والله أعلم_ أهلُ المدينة، ومن كانت قبلته على سمت أهل المدينة.
          وقال أحمد بن خالد: قول عمر بن الخطاب ☺: مابين المشرق والمغرب قبلة، قاله بالمدينة، فمن كانت قبلته مثل قبلة المدينة، فهو في سعة ما بين المشرق والمغرب، ولسائر البلدان من السعة في القبلة مثل ذلك، بين الجنوب والشمال. انتهى.
          ومحصِّل الكلام في ذلك المقام، أنَّ مشرق أهل المدينة والشام وأهل البلاد التي في ناحيتهما ومغربهم، ليست القبلة في جهتهما، فإذا شرقوا أو غربوا لم يستقبلوا القبلة ولم يستدبروها، بخلاف مشرق مكة وما في جهتها من البلاد ومغربها، فإنهم إذا شرقوا استدبروا القبلة، وإذا غربوا استدبروها، فهم عند الغائط ينحرفون للجنوب أو الشمال.
          وقد سقط في رواية لفظ <قبلة> في قوله: ليس في المشرق ولا في المغرب، وحينئذ يكون لفظ باب منوَّناً على تقدير هذا بابٌ، أو ساكناً على سبيل التعداد، ويكون قوله: قبلة أهل المدينة مبتدأً.
          وقوله: «ليس» مع ما في حيزه خبراً عنه، وأَمْرُ التذكير والتأنيث سهل، وقد يؤول قوله: قبلة أهل المدينة بلفظ مستقبل أهل المدينة. وقوله: في المشرق والمغرب، بالتشريق والتغريب ولا حاجة إليه، كما لا يخفى. فافهم.
          (لِقَوْلِ النَّبِيِّ صلعم : لاَ تَسْتَقْبِلُوا الْقِبْلَةَ بِغَائِطٍ أَوْ بَوْلٍ، وَلَكِنْ شَرِّقُوا أَوْ غَرِّبُوا) أي: خذوا ناحية المشرق، أو ناحية المغرب، وهذا تعليل لقوله: ليس في المشرق ولا في المغرب قبلة.
          ثم هذا التعليق رواه النسائي موصولاً، قال: حدَّثنا منصور، قال: حدَّثنا سفيان، عن الزهري، عن عطاء بن يزيد، عن أبي أيوب الأنصاري ☺، أنَّ النبي صلعم قال: ((لا تستقبلوا القبلة بغائط ولا بول، ولكن شرقوا أو غربوا)).
          واحتج البخاري بعموم هذا الحديث، وسوَّى بين الصحاري والأبنية، وجعله دليلاً للترجمة التي وضعها، واعترض عليه بأن في نفس حديثه الذي ذكره أبو داود في ((سننه))، والبخاري أيضاً كما يجيء الآن [خ¦394]، ما يدل على عكس ما أراده، وذلك أنَّ أبا أيوب ☺ قال في حديثه: ((فقدمنا الشام، فوجدنا مراحيض قد بنيت نحو الكعبة، لكنا ننحرف عنها، ونستغفر الله ╡)).
          ولا يرد عليه هذا؛ لأنَّ المنع لأجل تعظيم القبلة، وهو / موجود في الصحراء والبنيان، ولهذا قال أبو أيوب: ((لكنا ننحرف عنها، ونستغفر الله))، وهذا هو الذي ذهب إليه أبو حنيفة، وبه قال أحمد في رواية.
          وذهب الشافعي وأحمد ومالك إلى أنه يحرم استقبال القبلة في الصحراء بالبول والغائط، ولا يحرم ذلك في البنيان، وقد استقصى الكلام فيه في كتاب الوضوء [خ¦144].