نجاح القاري لصحيح البخاري

باب هل تنبش قبور مشركي الجاهلية ويتخذ مكانها مساجد

          ░48▒ (باب) بالتنوين (هَلْ تُنْبَشُ قُبُورُ مُشْرِكِي الْجَاهِلِيَّةِ) كلمة ((هل)) هاهنا للاستفهام التقريري، وليس باستفهام حقيقي، كما صرح به جماعة من المفسرين، في قوله تعالى:{هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ} [الإنسان:1]، وتأتي أيضاً بمعنى قد، كما فسر الآية به جماعة، منهم ابن عباس ☻ والكسائي والفراء والمبرِّد.
          وقد ذكر في ((المقتضب)): هل للاستفهام، نحو هل جاء زيد، وتكون بمنزلة قد، نحو قوله تعالى: {هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ} [الإنسان:1]، وقد بالغ الزمخشري فزعم أنها أبداً بمعنى قد، وإنما الاستفهام مستفاد من همزة مقدرة معها.
          ونقل في ((المفصل)) عن سيبويه: فلا يرد أن ذكر كلمة ((هل)) هاهنا ليس في محله، لأن عادة المؤلِّف ☼ أن يذكر ((هل)) إذا كان حكم الباب فيه خلاف، وليس هاهنا خلاف، بل يجوز نبش قبور المشركين الذين هلكوا في الجاهلية وفي غيرها.
          وإنما خُص مشركو الجاهلية بالذكر في الترجمة، لأن حديث الباب ورد فيهم، وإنما جواز ذلك لأنهم لا حرمة لهم، فيستفاد منه عدم جواز نبش قبور غيرهم، سواء كانت قبور الأنبياء، أو قبور غيرهم من المسلمين، لما فيه من الإهانة لهم، فلا يجوز ذلك لأن حرمة المسلم لا تزول حياً وميتاً.
          (وَيُتَّخَذُ) على البناء للمفعول (مَكَانَهَا مَسَاجِدَ) برفع المكان، ونصب المساجد، أو بالعكس، / أما الأول فعلى أن يتخذ متعد إلى مفعولين، كما في قوله تعالى {وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً} [النساء:125]، وأما الثاني فعلى أنه متعد إلى مفعول واحد، فمساجد بالرفع نائب عن الفاعل، ومكانها بالنصب على الظرفية.
          (لِقَوْلِ النَّبِيِّ صلعم : لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ) لأنهم (اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ) ووجه التعليل بذلك الحديث، أن ذلك الوعيد يتناول من اتخذها مساجد بعدما نبشها، لما فيه من الاستهانة بهم ╫.
          ويتناول أيضاً من اتخذها مساجد من غير أن ينبشها، لما فيه من المغالاة في التعظيم، حتى جرهم إلى عبادة قبورهم، والسجود لها، وكلاهما مذموم، ويلتحق بهم أتباعهم من المؤمنين والمسلمين، وأما المشركون فإنهم لا ذمة لهم ولا حرمة، فلا حرج في نبش قبورهم، واتخاذ أمكنتها مساجد، لأنه إذا نبشت قبورهم، ورميت عظامهم، تصير الأرض طاهرة منهم، والأرض كلها مسجد، لقوله صلعم : ((جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً)) [خ¦335]، فيكون ذلك من قبيل تبديل السيئة بالحسنة.
          وعلى هذا فلا تعارض بين ما فعله ╕ من نبش قبور المشركين، واتخاذ مساجد مكانها، وبين قوله صلعم : ((لعن الله اليهود))، الحديثَ.
          وهذا الحديث أخرجه المؤلف في آخر كتاب «الجنائز» [خ¦1390]، في باب ما جاء في قبر النبي صلعم ، حدثنا موسى بن إسماعيل،حَدَّثَنَا أبو عَوانة، عن هلال، عن عروة، عن عائشة ♦ قالت: قال رسول الله صلعم في مرضه الذي لم يقم منه: ((لعن الله اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)).
          وأخرجه أيضاً في موضع آخر من «الجنائز» [خ¦1330]، وفي «المغازي» أيضاً [خ¦4441]، وأخرجه مسلم في «الصلاة».
          ثم في هذا الحديث الاقتصار على لعن اليهود، فيكون قوله: ((اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)) واضحاً، فإن النصارى لا يزعمون بنبوة عيسى ◙، بل يدَّعون إما أنه إله، أو ابن إله، أو غير ذلك على مللهم الباطلة، ولا يزعمون موته حتى يكون له قبر، ومن قال منهم إنه قتل فلهم في ذلك كلام مشهور في موضعه.
          وأما الرواية التي فيها زيادة النصارى [خ¦435] [خ¦1330] [خ¦1390] [خ¦3453]، ففيها إشكال، وسيأتي بيانه إن شاء الله تعالى في موضعه.
          (وَمَا يُكْرَهُ مِنَ الصَّلاَةِ فِي الْقُبُورِ) هذا عطف على قوله: ((هل تنبش))، / لأنك قد عرفت أن كلمة ((هل)) للاستفهام التقريري، والجملة في حكم الجملة الخبرية الثبوتية، مثل هذه الجملة.
          ثم إنه يتناول ما إذا صلى على القبر أو إليه، أو بين القبور، وفيه حديث أبي مرثد الغنوي، واسمه كنان بن الحصين، أخرجه مسلم، وأبو داود، والترمذي، والنسائي، بلفظ: ((لا تجلسوا على القبور، ولا تصلوا إليها)).
          وروى الترمذي عن أبي سعيد الخدري ☺ قال: قال رسول الله صلعم : ((الأرض كلها مسجد، إلا المقبرة والحمام))، وليس شيء منهما على شرط البخاري، فأشار إليه في الترجمة، وأورد معه أثر عمر ☺ الدال على أن النهي عن ذلك لا يقتضي فساد الصلاة، فقال:
          (وَرَأَى عُمَرُ) بن الخطاب ☺ كما في رواية الأَصيلي (أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ) ☺ (يُصَلِّي عِنْدَ قَبْرٍ، فَقَالَ: الْقَبْرَ الْقَبْرَ) بالنصب فيهما على التحذير، ويجب حذف عامله، وهو اتق أو اجتنب. وفي بعض الرواية بهمزة الاستفهام الإنكاري؛ أي: أتصلي عند القبر.
          (وَلَمْ يَأْمُرْهُ بِالإِعَادَةِ) أي: ولم يأمر عمر أنساً ☺ بإعادة صلاته تلك، فدل على أنه يجوز، ولكنه يكره.
          واعلم أنَّ العلماء اختلفوا في جواز الصلاة على المقبرة، فذهب أحمد إلى جواز الصلاة في المقبرة، ولم يفرق بين المنبوشة وغيرها، ولا بين أن يفرش عليها شيء تقيةً من النجاسة، أو لا، ولا بين أن يكون بين القبور، أو في مكان منفرد عنها، كالبيت والعلو.
          وقال أبو ثور: لا يصلي في حمام ولا مقبرة على ظاهر الحديث، يعني قولَه صلعم : ((الأرض كلُّها مسجد إلَّا المقبرة والحمام)).
          وذهب الثوري وأبو حنيفة والأوزاعي إلى كراهة الصلاة في المقبرة.
          وفرق الشافعي بين المقبرة المنبوشة وغيرها، فقال: إذا كانت مختلطة التراب بلحوم الموتى وصديدهم، وما يخرج منهم، لم تجز الصلاة فيها للنجاسة، وإن صلى رجل في مكان طاهر منها، أجزأته صلاته.
          وقال الرافعي: أمَّا المقبرة فالصلاة فيها مكروهة بكل حال. ولم ير مالك بالصلاة في المقبرة بأساً.
          وحكى أبو مصعب عن مالك كراهة الصلاة في المقبرة كقول الجمهور.
          وذهب أهل الظاهر إلى تحريم الصلاة في المقبرة، سواء كانت مقابر المسلمين أو الكفار.
          وحكى ابن حزم عن جماعة من الصحابة النهي عن ذلك، وهم عمر وعلي وأبو هريرة وأنس وابن عباس ♥ ، / وقال: ما نعلم لهم مخالفاً من الصحابة، وحكاه جماعة من التابعين، إبراهيم النخعي، ونافع بن جبير بن مطعم، وطاوس، وعمرو بن دينار، وخيثمة وغيرهم. انتهى.
          وتعقَّبه محمود العيني: بأنَّ قوله: ما نعلم لهم مخالفاً من الصحابة، معارَضٌ بما حكاه الخطابي في ((معالم السنن))، عن عبد الله بن عمر أنَّه رخَّص في الصلاة في المقبرة. وحكى أيضاً عن الحسن البصري أنَّه صلى في المقبرة.
          وفي ((شرح الترمذي)): حكى أصحابنا اختلافاً في الحكمة في النهي عن الصلاة في المقبرة، فقيل: المعنى فيه ما تحت مصلَّاه من النجاسة.
          وقد قال الرافعي: لو فرش في المجزرة والمزبلة شيئاً، وصلى عليه، صحت صلاته، وبقيت الكراهة لكونه مصلياً على نجاسة، وإن كان بينهما حائل.
          وقال القاضي حسين: إنَّه لا كراهة مع الفرش على النجاسة مطلقاً.
          وحكى ابن الرفعة في ((الكفاية)): أنَّ الذي دل عليه كلام القاضي، أنَّ الكراهة لحرمة الموتى، وعلى كل تقدير من هذين المعنيين، فينبغي أن تقيد الكراهة بما إذا حاذى الميت، أمَّا إذا وقف بين القبور، بحيث لا يكون تحته ميت ولا نجاسة فلا كراهة، إلَّا أنَّ ابن الرفعة بعد أن حكى المعنيين السابقين، قال: لا فرق في الكراهة بين أن يصلي على القبر، أو بجانبه، أو إليه، قال: ومنه يؤخذ أنَّه يكره الصلاة بجانب النجاسة وخلفها، والله أعلم.
          وفي ((التوشيح)): ويستثنى مقبرة الأنبياء ‰، فلا كراهة فيها؛ لأنَّ الله تعالى حرم على الأرض أن تأكل أجسادهم، وإنَّهم أحياء في قبورهم يصلون.