نجاح القاري لصحيح البخاري

باب حك المخاط بالحصى من المسجد

          ░34▒ (باب حَكِّ الْمُخَاطِ بِالْحَصَى) وفي رواية: <بالحصباء> (مِنَ الْمَسْجِدِ) فإن قيل: قد ذكر في الباب السابق حك البصاق باليد، وهاهنا حك المخاط بالحصى، فهل فيه زيادة فائدة؟.
          فالجواب: نعم، فيه ذلك؛ لأنَّ المخاط غالباً يكون له جرم لزج، فيحتاج في قلعه إلى معالجة، وهي بالحصى ونحوه، والبصاق ليس كذلك، فيمكن نزعه بلا آلة، إلا أن يخالطه بلغم، فحينئذ يلحق بالمخاط.
          فإن قيل: الباب معقود على حك المخاط، والحديث يدل على حك النخامة، فما التلفيق بينهما؟. /
          فالجواب: أنَّهما لما كانا فضلتين طاهرتين لم يفرق بينهما، إشعاراً بأن حكمهما واحد، هكذا ذكره الكرماني.
          والأوجه على ما قاله محمود العيني أن يقال: إنَّه وإن كان بينهما فرق، وهو أن المخاط يكون من الأنف، والنخامة من الصدر، لكنه ذكر المخاط في الترجمة، والنخامةَ في الحديث، إشعاراً بأنَّ بينهما اتحاداً في الثخانة واللزوجة، وأنَّ حكمهما واحد من هذه الحيثية أيضاً. فافهم.
          (وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ) ☻ (إِنْ وَطِئْتَ عَلَى قَذَرٍ رَطْبٍ فَاغْسِلْهُ، وَإِنْ كَانَ يَابِساً فَلاَ) أي: فلا تغسله، فإنه لا يضرك وطؤه.
          وهذا التعليق وصله ابن أبي شيبة بسند صحيح، وقال في آخره: وإن كان يابساً لم يضر.
          وقال الحافظ العسقلاني: ومطابقته للترجمة من حيث الإشارةُ إلى أنَّ العلة العظمى في النهي احترام القبلة، لا مجرد التأذي بالبزاق ونحوه، فإنَّه وإن كان علة أيضاً، لكن احترام القبلة فيه آكد، فلهذا لم يفرق فيه بين رطب ويابس، بخلاف ما علة النهي فيه مجرد الاستقذار، فلا يضر وْطء اليابس منه. انتهى.
          وقال محمود العيني: فيه تعسف وبعد عظيم. وحاصل ما ذكره في وجه التعسف أنَّه كما أن احترام القبلة علةٌ للنهي، كذلك التأذي علة له، بل العلة العظمى هي التأذي، لما قال رسول الله صلعم : ((إنك آذيت الله ورسوله))، وإن قوله: بخلاف ما علة النهي فيه مجرد الاستقذار فلا يضره وطء يابسه، غير صحيح؛ لأنَّ علة النهي فيه كونه نجساً، ولم يسقط عنه صفة النجاسة بيبسه، غير أنَّ وطأَ يابسه لا يضره لعدم التصاقه بالجسم، وعدم تلوثه به، لا لمجرد كونه يابساً، ألا ترى أنَّه لو صلى على مكان عليه نجس يابس لا تجوز صلاته، ولو كان على بدنه أو ثوبه نجس يابس لا تجوز صلاته أيضاً، فعلم أنَّ النجاسة المانعة تضره مطلقاً، غير أنَّه عفي عن يابسها في الوطءِ.
          هذا؛ وأنت خبير بأنَّ كل واحد من هذين الإيرادين لا يرد على ذلك الحافظ، إن أمعنت النظر في ذلك(1) .
          ثم قال محمود العيني: ويمكن أن يقال في وجه المناسبة: أنَّ المذكور في حديث الباب حك النخامة بالحصى، وفي الترجمة حك المخاط بالحصى، وذا يدل على أنَّه كان يابساً؛ إذ الحك لا يفيد في رطبه؛ لأنَّه ينتشر، ويزداد التلوث به، فظهر الفرق بين رطبه ويابسه، وإن لم يصرح به في ظاهر الحديث، ففي الرطب يزال بما يمكن إزالته، وفي اليابس بالحصاة ونحوها، فكذلك في أثر ابن عباس ☻ حيث ذكر الفرق بينهما، قال: ((إن كان / رطباً فاغسله، وإن كان يابساً فلا)) أي: فلا يضرك وطؤه، فتكون المناسبة بينهما من هذه الحيثية، وهذا القدر كاف؛ لأنَّه إقناعي لا برهاني هذا.


[1] في هامش الأصل: وذلك لأنَّه لم ينفِ كون التأذي علَّة أيضاً، غاية ما في الباب أنَّه جعل العلَّة العظمى احترام القبلة التي حرمها الله وهو كذلك، وأما قوله صلعم: ((إنك آذيت الله ورسوله)) فمعناه: فعلت فعلاً لا يرضاه الله ورسوله حيث لم تعظم ما عظمه الله تعالى. وأما قول ذلك الحافظ: بخلاف ما علة النهي فيه مجرد الاستقذار مجرداً عن احترام القبلة لا مجرداً عن كل علة أخرى غير الاستقذار، فافهم. منه.