نجاح القاري لصحيح البخاري

باب الوصال ومن قال: ليس في الليل صيام

          ░48▒ (بابُ) حكم (الْوِصَالِ) وهو أن يصوم فرضاً أو نفلاً يومين فأكثر من غير أن يتناول باللَّيل مطعوماً عمداً بلا عذر، قاله في «شرح المهذَّب»، وقضيَّته أنَّ الجماع والاستقاءة وغيرهما من المفطرات لا يخرجه عن الوصال.
          وقال الأسنوي في «المهمَّات»: وهو ظاهر من جهة المعنى؛ لأن النهي عن الوصال إنما هو لأجل الضَّعف، والجماعُ ونحوه يزيده أو لا يمنع حصوله، لكن قال الرَّوياني في «البحر»: هو أن يستديم جميع أوصاف الصَّائمين.
          وقال الجرجاني في «الشَّافي»: أن يترك ما أبيح له من غير إفطار. وقال الأسنوي أيضاً: وتعبيرهم بصوم يومين يقتضي أنَّ المأمور بالإمساك؛ كتارك النيَّة لا يكون امتناعه باللَّيل من تعاطي المفطرات وصالاً؛ لأنَّه ليس بين الصَّومين إلَّا أن الظَّاهر أنَّ ذلك جرى على الغالب.
          وقال الحافظ العسقلاني: هو التَّرك في ليالي الصَّوم لما يفطر بالنَّهار بالقصد فيخرج / من أمسك اتفاقاً، ويدخل من أمسك جميع اللَّيل أو بعضه، ولم يجزم المؤلِّف بحكمه؛ لشهرة الاختلاف فيه.
          (وَ) باب (مَنْ قَالَ: لَيْسَ فِي اللَّيل صِيَامٌ) أي: ليس اللَّيل محلاًّ للصِّيام (لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ}) [البقرة:187] يعني: أنَّ الله تعالى جعل حدَّ الصَّوم إلى اللَّيل فهو آخر وقته فلا يدخل في حكم ما قبله، وقد ورد فيه حديث مرفوع رواه أبو سعيد الخير ذكره التِّرمذي في «الجامع»، ووصله في «العلل المفرد». وأخرجه ابن السَّكن وغيره من الصَّحابة، والدُّولابي وغيره في «الكُنى» كلُّهم من طريق أبي فروة الرَّهاوي، عن معقل الكندي، عن عبادة بن نسي عنه، ولفظ المتن مرفوعاً: ((أنَّ الله تعالى لم يكتب الصِّيام باللَّيل، فمن صام فقد تعنَّى ولا أجر له)). قال ابن منده: غريبٌ لا نعرفه إلا من هذا الوجه. وقال التِّرمذي: سألت البخاري عنه فقال: ما أرى عبادة سمع عن أبي سعيد الخير. وقال الشَّيخ زين الدِّين العراقي: حديث أبي سعيد الخير لم أقف عليه، وقد اختلف فيه فقال أبو داود: أبو سعيد الخير صحابي روى عن النَّبي صلعم ، وروى عنه قيس بن الحارث الكندي، وفراس الشَّعباني.
          وقال الشَّيخ زين الدِّين: وروى عنه أيضاً يونس بن حلبس ومهاجر بن دينار وابن لأبي سعيد الخير غير مسمَّىً، وذكره الطَّبراني في «الصَّحابة»، وروى له خمسة أحاديث.
          وقال الحافظ الذَّهبي في «تجريد الصَّحابة»: أبو سعْد الخير الأنماري _يعني بسكون العين_، وقيل: أبو سعيد الخير بالياء، اسمه: عامر بن سعد، شامي له في الشَّفاعة وفي الوضوء، روى عنه قيس بن حارث وعبادة بن نسي.
          وقال أبو أحمد الحاكم بعد أن روى له حديثاً: أبو سعيد الأنماري، ويقال: أبو سعيد الخير له صحبة قال: ولست أحفظ له اسماً ولا نسباً إلى أقصى الآباء.
          وقال الشَّيخ زين الدِّين: وقيل: إنَّ أبا سعيد الخير هو أبو سعيد الحبراني الحمصي الذي روى عن أبي هريرة ☺، وروى عنه حصين الحبراني، وعلى هذا فهو تابعي، وهكذا ذكره العجلي في «ثقات التَّابعين». واختلف في اسمه فقيل: اسمه زياد، ويقال: عامر بن سعد. قال الحافظ المزِّي: وأراهما اثنين، والله أعلم. /
          وأخرج الإمام أحمد والطَّبراني وسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن أبي حاتم في «تفسيرهما» بإسنادٍ صحيح إلى ليلى امرأة بشير بن الخصاصيَّة قالت: أردت أن أصوم يومين مواصلة، فمنعني بشير وقال: إنَّ رسول الله صلعم نهى عنه وقال: يفعل ذلك النَّصارى، ولكن صوموا كما أمركم الله تعالى: {أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة:187]، فإذا كان اللَّيل فأفطروا. لفظ ابن أبي حاتم.
          وروى هو وابن أبي شيبة من طريق أبي العالية التَّابعي أنه سئل عن الوصال في الصِّيام فقال: قال الله تعالى: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة:187] فإذا جاء اللَّيل فهو مفطر.
          وروى الطَّبراني في «الأوسط» من طريق علي بن أبي طلحة، عن عبد الملك، عن أبي ذرٍّ ☺ رفعه قال: ((لا صيام بعد اللَّيل)) أي: بعد دخول اللَّيل، ذكره في أثناء حديث.
          قال الحافظ العسقلاني: وعبد الملك ما عرفته، فلا يصح، وإن كان بقيَّة رجاله ثقات، ويعارضه أصحُّ منه كما سيأتي [خ¦1961] إن شاء الله تعالى.
          ولو صحَّت هذه الأحاديث لم يكن للوصال معنىً أصلاً، ولا كان في فعله قربة، وهذا خلاف ما تقتضيه الأحاديث الصَّحيحة من فعل النَّبي صلعم ، وإن كان الرَّاجح أنه من خصائصه.
          (وَنَهَى النَّبِيُّ صلعم ) أي: أصحابه (عَنْهُ) أي: عن الوصال (رَحْمَةً لَهُمْ وَإِبْقَاءً عَلَيْهِمْ) أي: على الأمة؛ يعني: حفظاً لهم في بقاء أبدانهم على قوَّتها.
          وهذا التَّعليق وصله المؤلِّف في آخر الباب من حديث عائشة ♦ بلفظ: نهى النَّبي صلعم عن الوصال رحمة لهم [خ¦1964]، وأمَّا قوله: وإبقاء عليهم، فكأنَّه أشار إلى ما أخرجه أبو داود وغيره من طريق عبد الرَّحمن بن أبي ليلى، عن رجلٍ من الصَّحابة قال: نهى النَّبي صلعم عن الحجامة والمواصلة، ولم يحرِّمها إبقاء على أصحابه. وإسناده صحيح.
          (وَ) باب (مَا يُكْرَهُ مِنَ التَّعَمُّقِ) وهو المبالغة في تكلَّف ما لم يكلف به، وعُمْقُ الوادي قعرُه، وكأنَّه يشير إلى ما أخرجه في كتاب التمنِّي [خ¦7241] من طريق ثابت عن أنس ☺ في قصة الوصال فقال صلعم : ((لو مدَّ بي الشَّهر لواصلت وصالاً يدع المتعمِّقون تعمُّقهم)).
          وسيأتي في الباب الذي بعد في آخر حديث أبي هريرة ☺ [خ¦1966]: ((اكلفوا من العمل ما تطيقون)).
          وقال الكرماني: ((وما يكره)) عطفٌ إمَّا على الضَّمير المجرور، وإمَّا على ((رحمة))؛ أي: ولكراهة التعمُّق، / فافهم.