نجاح القاري لصحيح البخاري

باب قول الله جل ذكره: {أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم}

          ░15▒ (باب: قَوْلِ اللَّهِ جَلَّ ذِكْرُهُ: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ}) هو كنايةٌ عن الجماع هنا، قاله ابن عبَّاس ☺ وعطاء ومجاهد وسعيد بن جُبير وعطاء الخراساني وطاوس وسالم بن عبد الله وعَمرو بن دينار والحسن وقتادة والزُّهري والضَّحاك وإبراهيم النَّخعي والسُّدِّي ومقاتل بن حبَّان، وذلك لأنَّ الجماعَ لا يكاد يخلو عن رفثٍ، وهو الإفصاح بما يجبُ أن يكنَّى عنه.
          وقال الزَّجاج: الرَّفث: كلمةٌ جامعةٌ لكلِّ ما يريده الرَّجل من النِّساء، وعُدِّي بـ((إلى))؛ لتضمينهِ معنى الإفضاء، ثمَّ بيَّن سبب الإحلال فقال: ({هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ}) قال ابن عبَّاس ومجاهد وسعيد بن جُبير والحسن وقتادة والسُّدي ومقاتل بن حبَّان: يعني: هنَّ سكن لكم، وأنتم سكن لهنَّ. وقال الرَّبيع بن أنس: هنَّ لحاف لكم، وأنتم لحاف لهنَّ.
          وحاصله: أنَّ الرَّجل والمرأة كلٌّ منهما يخالط الآخر ويماسُّه ويضاجعه، ويشتملُ كلُّ واحد منهما على صاحبه شبه اللِّباس، أو أنَّ كلّاً منهما يسترُ حال صاحبه، ويمنعه عن الفجورِ، فناسب أن يرخِّص لهم في المجامعة في ليلِ رمضان؛ لئلَّا يشقَّ ذلك عليهم / ويحرجوا.
          وقيل: كلُّ قرنٍ منكم يسكنُ إلى قرنه ويلابسه، والعرب تسمِّي المرأة لباساً وإزاراً. قال الشَّاعر:
إذَا مَا الضَّجِيعُ ثَنَى جِيدَهَا                     تَدَاعَتْ فكَانَت علَيهِ لِبَاسَا
          وقال آخر:
أَلا أَبلِغ أبَا حَفصٍ رَسُولا                     فِدًى لَك مِن أَخِي ثِقَة إزَارِي
          قال أهل اللُّغة: معناه: فدىً لك امرأتي. وذكر ابن قتيبة وغيره: أنَّ المراد بقوله: إزاري فدىً لك؛ أي: امرأتي. وقال بعضهم: أراد نفسه؛ أي: فدىً لك نفسي.
          وفي كتاب «الحيوان» للجاحظ: ليس شيء من الحيوان يتبطَّن طروقته؛ أي: يأتيها من جهة بطنها غير الإنسان والتِّمساح. وفي «تفسير الواحدي»: والدُّب، وقيل: الغراب أيضاً.
          ({عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ}) يعني: تجامعون النِّساء وتأكلون وتشربون في الوقت الذي كان ذلك حراماً عليكم، ذكره الطَّبري. وفي «تفسير ابن أبي حاتم» عن مجاهد: {تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ} قال: تظلمون أنفسكم؛ يعني: تعريضها للعقاب، وتنقيص حظِّها من الثَّواب، والاختيان أبلغ من الخيانة كالكسب والاكتساب.
          ({فَتَابَ عَلَيْكُمْ}) لما تبتم ممَّا اقترفتموه وندمتُم عليه ({وَعَفَا عَنْكُمْ}) ومحا عنكم أثره ({فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ}) أي: جامعوهنَّ فقد نسخ عنكم التَّحريم. كنَّى الله تعالى عن الجماعِ بالمباشرة، قاله ابن عبَّاس ☻ . وروي نحوه عن مجاهد وعطاء والضَّحاك ومقاتل بن حبَّان والسُّدِّي والرَّبيع بن أنس وزيد بن أسلم. والمباشرة: إلزاقُ البشرةِ بالبشرة.
          ({وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ}) [البقرة:187] واطلبوا ما قدَّره لكم وأثبته في اللَّوح المحفوظ من الولد، والمعنى: أنَّ المباشِرَ ينبغي أن يكون غرضه الولد، فإنَّه الحكمة من خلق الشَّهوة، وشرع النِّكاح، لا دفع البهيمية.
          قال مجاهد فيما ذكره عبدُ بن حميد في «تفسيره»: الولَد، إن لم تلد هذه فهذه، وذكره أيضاً الطَّبري عن الحسن والحاكم وعكرمة وابن عبَّاس والسدِّي والرَّبيع بن أنس. وذكره ابنُ أبي حاتم في «تفسيره» عن أنس بن مالك ☺، وعن شُريح وعطاء والضَّحَّاك وسعيد بن جبير وقتادة.
          وقال الطَّبري: وعن ابن عبَّاس ☻ في قوله تعالى: {وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ} قال: ليلة القدر. وقال الطَّبري: وقال آخرون: ما أحلَّه الله لكم ورخَّصه، قال ذلك قتادة. وعن زيد بن أسلم: هو الجماع. وقيل: المراد النَّهي عن العزل. وقيل: عن غير المأتي، والتَّقدير: وابتغوا المحل الذي كتبه الله لكم.
          هذا؛ وفي رواية أبي ذرٍّ: <{أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} إلى قوله: {مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ}>. وفي رواية: <إلى آخر الآية: {لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ}>.
          وأراد البخاري بهذه التَّرجمة: بيان ما كان الحال عليه قبل نزول هذه الآية، ولمَّا كانت هذه الآية منزلة على أسباب تتعلَّق / بالصِّيام عجل بها المؤلِّف، وقد تعرَّض لها في «التفسير» أيضاً كما سيأتي [خ¦65-6482].
          ويؤخذ من حاصل ما استقرَّ عليه الحال من سبب نزولها: ابتداء مشروعيَّة السُّحور، وهو المقصودُ في هذا المكان؛ لأنَّه جعل هذه التَّرجمة مقدمة لأبواب السُّحور.
          وسبب نزول هذه الآية: ما قاله الطَّبري بإسناده إلى عبد الله بن كعب بن مالك يحدِّث عن أبيه قال: كان النَّاس في رمضان إذا صام الرَّجل فأمسى فنام حرم عليه الطَّعام والشَّراب والنِّساء حتَّى يفطر من الغد، فرجع عمر بن الخطَّاب من عند النَّبي صلعم ذات ليلة، وقد سمر عنده، فوجد امرأته قد نامت، فأرادها فقالت: إنِّي قد نمت، فقال: ما نمت، ثمَّ وقع بها، وصنع كعب بن مالك مثله، فغدا عمر بن الخطَّاب ☺ إلى النَّبي صلعم فأخبره، فأنزل الله ╡: {عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآَنَ بَاشِرُوهُنَّ} [البقرة:187] الآية. فأباح الجماع والطَّعام والشَّراب في جميع اللَّيل رحمة ورخصة ورفقاً.
          وهكذا روي عن مجاهد وعطاء وعكرمة والسُّدي وقتادة وغيرهم في سبب نزول هذه الآية، واقتصر في الباب على قضيَّة قيس بن صرمة كما ترى.