نجاح القاري لصحيح البخاري

باب وجوب صوم رمضان

          ░1▒ (باب: وُجُوبِ صَوْمِ رَمَضَانَ) هكذا في رواية الأكثرين، وفي رواية النسفيِّ: <باب وجوب رمضان وفضله>، ورمضان مصدر رمضَ إذا احترق لا ينصرفُ للعلمية والألف والنون، وإنَّما سموه بذلك إمَّا لارتماضهم فيه من حرِّ الجوع والعطش، أو لارتماض الذُّنوب فيه. أو لوقوعه أيام رمض الحرِّ حيث نقلوا أسماء الشُّهور / عن اللُّغة القديمة.
          وسيجيء إن شاء الله تعالى [خ¦30/5-2970] بيان اللغة القديمة في باب هل يقال رمضان أو شهر رمضان، سموها بالأزمنة التي وقعت فيها، فوافق هذا الشَّهر أيام رمض الحرِّ. ويقال: رمض الصَّائم: اشتدَّ حرُّ جوفه، أو لأنَّه يحرق الذُّنوب. ورمضان إن صحَّ أنَّه من أسماء الله تعالى فغير مشتقٍّ، أو راجع إلى معنى الغافر؛ أي: يمحو الذُّنوب ويمحقها، وقد روى ابن أحمد بن عدي الجُرْجاني من حديث نجيح أبي معشر، عن سعيدٍ المقبري، عن أبي هريرة ☺ قال: قال رسول الله صلعم : ((لا تقولوا رمضان، فإنَّ رمضان اسمٌ من أسماءِ الله تعالى)). وفيه أبو معشرٍ ضعيفٌ، لكن قالوا: يثبت حديثه، وسيجيء تفصيل لذلك إن شاء الله تعالى [خ¦30/5-2970].
          (وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى) بالجرِّ عطفاً على قوله: وجوب صوم رمضان ({يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ}) يعني: الأنبياء والأمم من لدُن آدم ◙، وفيه: توكيدٌ للحكم، وترغيبٌ للفعل، وتطييبٌ للنَّفس.
          ({لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}) [البقرة:183] المعاصي فإنَّ الصَّوم يكسر الشَّهوة التي هي مبدؤها؛ فقد أشار المؤلِّف بإيراد هذه الآية الكريمة إلى أمور تتضمنها هذه الآية، وهي فرضيةُ صوم رمضان بقوله: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} وأنَّ الصوم كان فرضاً على من قبلنا من الأمم، وأنَّ الصَّوم وصلة إلى التُّقى؛ لأنَّه من البرِّ الذي يكفُّ الإنسان عن كثير ممَّا تشتاقُ إليه النَّفس من المعاصي.
          وفيه: تزكيةٌ للبدن، وتضييقٌ لمسالك الشَّيطان، كما ثبت في «الصحيحين»: ((يا معشرَ الشَّباب من استطاعَ منكم الباءة فليتزوج، ومن لم يستطعْ فعليه بالصَّوم فإنَّه له وجاء)) [خ¦1905] أي: فإن الصَّوم للصَّائم قاطعٌ للشهوة. ثم إنَّهم تكلَّموا في قوله تعالى: {كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [البقرة:183]. فقيل: إنَّه تشبيهٌ في أصل الوجوب لا في قدر الواجب، وكان الصَّوم على آدم ◙ أيام البيض، وعلى قوم موسى ◙ صوم عاشوراء، وكان على كلِّ أمَّةٍ صوم.
          والتَّشبيه لا يقتضي التَّسوية من كلِّ وجهٍ، كما في قوله صلعم : ((إنكم سترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر)) [خ¦554] فهذا تشبيه الرُّؤية بالرُّؤية لا تشبيه المرئي بالمرئي. وقيل: هذا تشبيه في الأصل والقدر والوقت جميعاً، وكان على الأولين صوم رمضان، / لكنَّهم زادوا في العدد، ونقلوا من أيام الحرِّ إلى أيام الاعتدال.
          وعن الشعبيِّ: إنَّ النَّصارى فُرِض عليهم شهر رمضان كما فرض علينا، فحوَّلوه، وذلك أنَّهم ربما صاموه في القيظ فعدوا ثلاثين يوماً، ثمَّ جاء بعدهم قرن منهم، فأخذوا بالثقة في أنفسهم، فصاموا قبل الثلاثين يوماً وبعدها يوماً، ثمَّ لم يزل الآخر يستنُّ بسُنَّة القَرن الذي قبله حتى صارت إلى خمسين.
          وقال آخرون: بل التشبيه إنَّما هو من أجل أنَّ صومهم كان من العشاء الآخرة إلى العشاء الآخرة، وكان ذلك فرضاً على المؤمنين في أوَّل ما افترض عليهم الصَّوم.
          وقال السُّديُّ: النَّصارى كتب عليهم رمضان، وكتب عليهم أن لا يأكلوا ولا يَشربوا بعد النَّوم، ولا يَنْكحوا النِّساء في شهر رمضان، فاشتدَّ ذلك على النَّصارى، وجعل يتقلَّب عليهم في الشِّتاء والصَّيف، فلمَّا رأوا ذلك اجتمعوا، فجعلوا صياماً في الفصل بين الشِّتاء والصَّيف، وقالوا: نزيد عشرين يوماً نكفرُ بها صنعنا، فجعلوا صيامهم خمسين يوماً، فلم يزل المسلمون على ذلك يصنعون كما يصنع النَّصارى من عدمِ الأكل والشُّرب بعد النَّوم، وعدم النِّكاح في شهر رمضان، حتى كان من عمر ☺ ما كان، وهو أنَّه باشرَ بعد العشاء وواقعَ أهله، فلمَّا اغتسلَ أخذ يَبكي ويلوم نفسه، فأتى النَّبي صلعم ، وقال: يا رسولَ الله إنِّي أعتذرُ إلى الله، وإليك من نفسي هذه الخطيئة، وأخبرُه بما فعل، فقال صلعم : ((ما كنت جديراً بذلك يا عمر)) فقام رجالٌ فاعترفوا بما كانوا صنعوا بعد العشاء، فنزلتْ: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} [البقرة:187] الآية، فأحلَّ الله لهم الأكلَ والشُّرب والجماع إلى طلوع الفجر.
          وفي «تفسير ابن أبي حاتم» عن الحسن قال: والله لقد كتب الصِّيام على كلِّ أمَّةٍ خلتْ كما كتب علينا شهراً كاملاً.
          وفي «تفسير القرطبي» عن قتادة: كتب الله تعالى على قوم موسى وعيسى ♂ صيام رمضان، فغيَّروا وزاد أحبارهم عشرة أيام، ثمَّ مرض بعضُ أحبارهم، فنذرَ إن شفي أن يزيدَ في صومهم عشرة أيَّام أُخرى ففعل، فصار صوم النَّصارى خمسين يوماً، فصعب عليهم في الحرِّ، فنقلوه إلى الربيع. /
          قال: واختار هذا القول النَّحاس، وأسندَ فيه حديثاً يدلُّ على صحَّته.
          والحاصل: أنَّه إن كان المراد من التَّشبيه الأتمُّ الأبلغُ يكون رمضان كتب على من قبلنا، وقد ذكر ابنُ أبي حاتم عن ابن عمر ☻ مرفوعاً: ((صيام رمضان كتبَه الله على الأمم قبلَكم))، وفي إسناده مجهولٌ. وإن كان المراد مطلق التَّشبيه يكون ما فرض عليهم مطلق الصَّوم من غير اعتبار قدره ووقته، والله أعلم.
          فإن قيل: لم يعلم من هذه الآية إلا أصل فرضيَّة الصَّوم، ولم يعلم العدد، ولا كونه في شهر رمضان.
          فالجواب: أنَّه لما علم منها أصل الفرضية، ونزل قوله: {أَيَّاماً مَعْدُودَاتٍ} علم من ذلك أنَّ الفرض أيام معدودات، ولما نزل: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآَنُ} [البقرة:185] علم أنَّ ذلك العدد هو ثلاثون يوماً؛ لأنَّ الشهر ثلاثون يوماً، وإن نقصَ فحكمه حكمه. وعن هذا قالوا: إنَّ الشَّهر مرفوع على أنَّه بدل من قوله: ((الصِّيام)) في قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} [البقرة:183]، وقرئ في الشواذ: بالنصب على: [تقدير] (1) صوموا شهر رمضان، أو على أنَّه بدل من قوله: {أَيَّاماً مَعْدُودَاتٍ}، وانتصاب {أَيَّاماً} على الظَّرفية؛ أي: كتب عليكم الصيام في أيامٍ معدودات، وبينها بقوله: {شَهْرُ رَمَضَانَ}.
          فإن قيل: ما الحكمة في التَّنصيص على الثلاثين التي هي الشهر الكامل؟.
          فالجواب: أنَّهم قالوا: لمَّا أكل آدم ╕ من الشجرة التي نهي عنها بقي شيءٌ من ذلك في جوفه ثلاثين يوماً بلياليهنَّ، ذكره في «خلاصة البيان في تلخيص معاني القرآن»، والله أعلم.


[1] ما بين معقوفين زيادة من العيني.