نجاح القاري لصحيح البخاري

باب بركة السحور من غير إيجاب

          ░20▒ (بابُ بَرَكَةِ السَّحُورِ) أشار به إلى قوله صلعم : ((تسَّحروا فإنَّ في السُّحور بركة)) [خ¦1923] أخرجه الشَّيخان والتِّرمذي والنَّسائي عن أنس ☺ (مِنْ غَيْرِ إِيجَابٍ) في محلِّ نصبٍ على الحال؛ أي: من غير أن يكون واجباً، ثمَّ علَّل عدم الوجوب بقوله: (لأَنَّ النَّبِيَّ صلعم وَأَصْحَابَهُ) ♥ (وَاصَلُوا) في صومهم من غير إفطار باللَّيل.
          (وَلَمْ يُذْكَرِ السَّحُورُ) على البناء للمفعول، وبالألف واللام في السَّحور، كذا في رواية الأكثرين، وفي رواية الكُشميهني والنَّسفي: <ولم يذكر سحور> بدون الألف واللام. وفي بعض الأصول المعتمدة: <باب من ترك السَّحور... إلى آخره>. /
          قال الزَّين ابن المُنيَّر: الاستدلال على الحكم إنَّما يفتقر إليه إذا ثبت الاختلاف، أو كان متوقعاً، والسَّحور إنَّما هو أكل للشَّهوة وحفظ القوَّة، لكن لما جاء الأمر به؛ أي: ومقتضاه الوجوب احتاج أن يبيِّن أنَّه ليس على ظاهره من الإيجاب، وكذا النَّهي عن الوصال يستلزم الأمر بالأكل قبل طلوع الفجر. انتهى.
          وتعقِّب: بأنَّ النَّهي عن الوصال إنَّما هو أمرٌ بالفصل بين الصَّوم والفطر، فهو أعمُّ من الأكل آخر اللَّيل فلا يتعيَّن السَّحور.
          هذا؛ وقال القاضي عياض: أجمعَ الفقهاء على أنَّ السَّحور مندوب إليه ليس بواجب، وكذا نقل ابنُ المنذر الإجماع على ندبيَّة السَّحور، فقوله: تسَّحروا، أمر ندبٍ بالإجماع.
          وقد يقال: إنَّ الأمر الذي مقتضاه الوجوب هو المجرَّد عن القرائن، وهاهنا قرينة تدفع الوجوب، وهو ما عرفت من أنَّ السَّحور أكل للشَّهوة، وحفظ القوَّة، وهو شفقةٌ لنا، فلو قلنا بالوجوب ينقلب علينا.
          وقال ابن بطَّال: في هذه التَّرجمة غفلة من البخاري؛ لأنَّه قد خرج بعد هذا حديث أبي سعيد ☺: ((أيُّكم أراد أن يوصل فليواصل إلى السَّحر)) [خ¦1963] فجعل غاية الوصال السَّحر، وهو وقت السَّحور. قال: والمفسَّر يقضي على المجمل. انتهى. وقد تلقَّاه جماعة بعده بالتَّسليم.
          وتعقُّبه ابن المنيَّر في «الحاشية»: بأنَّ البخاري لم يترجم على عدم مشروعيَّة السَّحور، وإنَّما ترجم على عدم إيجابه، وأخذ من الوصال عدم وجوب السَّحور، وحيث نهاهم النَّبي صلعم عن الوصال لم يكن على سبيل تحريم الوصال، وإنَّما هو نهي إرشاد؛ لتعليله إيَّاه بالإشفاق عليهم، وليس في ذلك إيجاب السَّحور، ولما ثبت أنَّ النَّهي عن الوصال للكراهة فضدُّ نهي الكراهة الاستحباب، فثبت استحباب السَّحور، كذا قال.
          ومسألة الوصال مختلف فيها، والرَّاجح عند الشَّافعية التَّحريم، وسيأتي الكلام فيه على المذاهب إن شاء الله تعالى [خ¦1922].
          قال الحافظُ العسقلاني: والذي يظهر لي أنَّ البخاري أراد بقوله: لأنَّ النَّبي صلعم وأصحابه واصلوا... إلى آخره، الإشارة إلى حديث أبي هريرة ☺ الآتي بعد خمسة وعشرين باباً، ففيه بعد النَّهي عن الوصال أنَّه واصل بهم يوماً، ثمَّ يوماً، ثمَّ رأوا الهلال، فقال: ((لو تأخَّر لزدتكم)) [خ¦1965]، فدلَّ ذلك على أنَّ السَّحور ليس بحتم؛ إذ لو كان حتماً ما واصل بهم، فإنَّ الوصال يستلزم ترك السَّحور / سواء قلنا الوصال حرام أو لا، والله أعلم.