نجاح القاري لصحيح البخاري

باب سواك الرطب واليابس للصائم

          ░27▒ (باب) حكم استعمال (سِوَاكِ الرَّطْبِ وَالْيَابِسِ لِلصَّائِمِ) كذا في رواية الأكثرين، فهو من قبيل قولهم: مسجد الجامع، وقولهم: صلاة الأولى، والأصل فيه: أنَّ الموصوف لا يضاف إلى صفته، وبالعكس، فإن وجد ذلك يقدر في الكلام موصوف كما في هذه الصُّورة، فالتَّقدير مسجد المكان الجامع، وصلاة السَّاعة الأولى، وكذلك التَّقدير في سواك الرَّطب سواك الشَّجر الرطب.
          وأمَّا مذهب الكوفيِّين في ذلك فهو أنَّ الصِّفة يذهب بها مذهب الجنس، ثمَّ يضاف الموصوف إليها كما يضاف بعض الجنس إليه نحو خاتم فضَّة. فعلى هذا لا يحتاج إلى تقدير محذوف. وفي رواية الكُشميهني: <باب السِّواك الرَّطب واليابس> بتعريف السِّواك، فلا إشكال.
          قال الحافظ العسقلاني: وأشار بهذه التَّرجمة إلى الردِّ على من كره للصَّائم الاستياك بالسِّواك الرَّطب كالمالكيَّة والشَّعبي.
          وتعقَّبه العيني: بأنَّه ليس مراده بهذه التَّرجمة ذلك؛ لما أورد فيه الأحاديث التي دلت بعمومها على جواز الاستياك للصَّائم مطلقاً سواء كان بالسِّواك الرَّطب أو اليابس.
          هذا؛ وأنت خبير بأنَّه لا يضرُّ الحافظ العسقلاني فيما قاله على أنَّه قد أورد فيه البخاري حديث عثمان ☺ الذي في صفة الوضوء، فإنَّ فيه: ((أنَّه تمضمض واستنشق)) وقال فيه: ((من توضَّأ وضوئي هذا)) [خ¦1934] ولم يفرِّق بين صائم ومفطر، والله أعلم.
          (وَيُذْكَرُ) على البناء للمفعول (عَنْ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ) بفتح الراء، هو أبو عبد الله المدني شهد بدراً، وقد مرَّ في التقصير [خ¦1104] أنَّه (قَالَ: رَأَيْتُ النَّبِيَّ صلعم يَسْتَاكُ وَهُوَ صَائِمٌ، مَا لاَ أُحْصِي أَوْ أَعُدُّ) شكٌّ من الرَّاوي.
          ومطابقته للتَّرجمة من حيث دلالة عموم قوله: ((يستاك)) على جواز الاستياك مطلقاً سواء كان بالسِّواك الرَّطب أو اليابس، وسواء كان صائماً فرضاً أو تطوُّعاً، وسواء كان في أوَّل النَّهار أو في آخره.
          وهذا على طريقة البخاري في أنَّ المطلق يسلك به مسلك العموم، وأنَّ العام في الأشخاص عامٌّ في الأحوال، وقد أشار إلى ذلك بقوله في أواخر التَّرجمة المذكورة: ولم يخصَّ صائماً / من غيره؛ أي: ولم يخصَّ أيضاً رطباً من يابس.
          وبهذا التَّقرير يظهر مناسبة جميع ما أورده في هذا الباب للتَّرجمة، والجامع لذلك كلِّه قوله في حديث أبي هريرة ☺: ((لأمرتهم بالسِّواك عند كلِّ وضوء)) فإنَّه يقتضي إباحته في كلِّ وقت وعلى كلِّ حالٍ.
          ثمَّ إنَّ هذا الأثر أخرجه أبو داود والتِّرمذي موصولاً من طريق عاصم بن عبيد الله، عن عبد الله بن عامر بن ربيعة، عن أبيه. وحسَّنه التِّرمذي.
          وأخرجه ابن خُزيمة في «صحيحه» وقال: كنت لا أخرج حديث عاصم، ثمَّ نظرت، فإذا شعبة والثَّوري قد رويا عنه. وروى يحيى وعبد الرَّحمن عن الثَّوري عنه. وروى مالك عنه خبراً في غير «الموطَّأ». وقد ضعَّفه يحيى بن معين والذُّهلي والبخاري وغير واحد.
          وقال البخاري: منكر الحديث، فلعلَّه اعتضد، ولذا ذكره بصيغة التَّمريض.
          (وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلعم : لَوْلاَ أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي لأَمَرْتُهُمْ بِالسِّوَاكِ عِنْدَ كُلِّ وُضُوءٍ) أعمُّ من أن يكون السِّواك رطباً أو يابساً في رمضان أو غيره قبل الزَّوال أو بعده، وبهذا يطابق التَّرجمة.
          وهذا التَّعليق وصله النَّسائي من طريق بشر بن عمر، عن مالك، عن ابنِ شهاب، عن حميد، عن أبي هريرة ☺ بهذا اللَّفظ.
          وقد أخرجه النَّسائي أيضاً من طريق عبد الرَّحمن السرَّاج، عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة ☺ بلفظ: ((لولا أن أشقَّ على أمَّتي لفرضت عليهم السِّواك مع كلِّ وضوء)).
          وفي «الموطَّأ»: عن ابن شهاب، عن حميد بن عبد الرَّحمن، عن أبي هريرة ☺ أنَّه قال: ((لولا أن يشقَّ على أمَّته لأمرهم بالسِّواك مع كلِّ وضوء)).
          وقال أبو عمر: هذا يدخل في المسند عندهم؛ لاتِّصاله من غير ما وجه، وبهذا اللَّفظ رواه أكثر الرواة عن مالك. ورواه بشر بن عمر وروح بن عبادة، عن مالك، عن ابن شهاب، عن حميد، عن أبي هريرة ☺: أنَّ رسول الله صلعم قال: ((لولا أن أشقَّ على أمَّتي لأمرتهم بالسِّواك مع كلِّ وضوء)). وفي رواية المثنَّى: ((مع كل طهارة)). وفي رواية أبي معشر: ((لولا أن أشقَّ على النَّاس لأمرتهم عند كلِّ صلاة / بوضوء، ومع الوضوء بسواك)). والمراد من قوله: لأمرتهم، أمر إيجابٍ لا أمر ندبٍ؛ لأنَّه مندوبٌ.
          واستدلَّ به الأصولي على أنَّ الأمر للوجوب، وأنَّ المندوب ليس مأموراً به. وفيه جواز الاجتهاد له صلعم ، وبيان رفقه بالأمَّة. وسبق الحديث في الجمعة [خ¦887].
          (وَيُرْوَى نَحْوُهُ) أي: نحو حديث أبي هريرة ☺ (عَنْ جَابِرٍ) هو: ابن عبد الله الأنصاري ☻ (وَزَيْدِ بْنِ خَالِدٍ) الجهني (عَنِ النَّبِيِّ صلعم ) أمَّا حديث جابر ☺؛ فوصله أبو نُعيم في كتاب «السِّواك» من طريق إسحاق بن محمَّد الفروي، عن عبد الرَّحمن بن أبي الموالي، عن عبد الله بن محمَّد بن عقيل، عنه بلفظ: ((لولا أن أشقَّ على أمَّتي لأمرتهم بالسِّواك عند كلِّ صلاة)). وعبد الله مختلف فيه.
          ووصله ابن عديٍّ من وجه آخر عن جابر ☺ بلفظ: ((لجعلت السِّواك عليهم عزيمة))، وإسناده ضعيف.
          وأمَّا حديث زيد بن خالد فوصله أصحاب «السُّنن» وأحمد من طريق محمَّد بن إسحاق، عن محمَّد بن إبراهيم التَّيمي، عن أبي سلمة عنه بلفظ: ((لولا أن أشقَّ على أمَّتي لأمرتهم بالسِّواك عند كلِّ صلاة)). وإنَّما ذكره بصيغة التَّمريض؛ لأجل محمَّد بن إسحاق، فإنَّه لم يحتجَّ به، ولكنَّه ذكره في المتابعات.
          وأمّا الأوَّل: فقد مرَّ أنَّ عبد الله مختلف فيه.
          [وأما الثاني فقد] حكى التِّرمذي عن البخاري أنَّه سأله عن رواية محمَّد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة ☺، ورواية محمَّد بن إبراهيم، عن أبي سلمة، عن زيد بن خالد، فقال: رواية محمَّد بن إبراهيم أصح. قال التِّرمذي: وكلا الحديثين عندي صحيحٌ.
          قال الحافظ العسقلاني: رجَّح البخاري طريق محمَّد بن إبراهيم لأمرين:
          أحدهما: أنَّ فيه قصَّة، وهي قولُ أبي سلمة: وكان زيد بن خالد يضع السِّواك منه موضع القلم من أذن الكاتب كلمَّا قام إلى الصَّلاة استاك.
          ثانيهما: أنَّه توبع فأخرج الإمام أحمد من طريق يحيى بن أبي كثير: حدَّثنا أبو سلمة، عن زيد بن خالد، فذكر نحوه.
          فائدة: فإن قيل: هل فرَّق بين قوله: نحوه، وبين قوله: مثله؟
          فالجواب: أنَّه إذا كان الحديثان على لفظ واحد يقال: مثله، وإذا كان الثَّاني على مثل معنى الأوَّل يقال: نحوه. وقد اختلف أهل الحديث فيما إذا روى الرَّاوي حديثاً بسنده، ثمَّ ذكر سنداً آخر ولم يسق لفظ متنه، وإنَّما قال بعده مثله أو نحوه، فهل يسوَّغ للرَّاوي عنه أنْ يروي لفظ الحديث المذكور أوَّلاً بالإسناد الثَّاني أم لا؟ على ثلاثة مذاهب:
          أظهرها: أنَّه لا يجوز مطلقاً، وهو قولُ شعبة، ورجَّحه ابن الصَّلاح، وابن دقيق العيد.
          والثَّاني: أنَّه إن عرف الرَّاوي بالحفظ والتَّمييز للألفاظ جاز وإلَّا فلا، وهو قول الثَّوري، وابن معين.
          والثَّالث: وهو اختيار الحاكم التَّفرقة بين قوله: مثله، وبين قوله: نحوه، فإن قال: مثله جاز بالشَّرط المذكور، وإن قال: نحوه لم يجز، / وهو قول يحيى بن معين.
          وقال الخطيبُ: هذا الذي قاله ابن معين مبنيٌّ على منع الرِّواية بالمعنى، فأمَّا على جوازها فلا فرق.
          قال البخاري: (وَلَمْ يَخُصَّ) أي: النَّبي صلعم فيما رواه عنه أبو هريرة، وزيد بن خالد وجابر ♥ (الصَّائِمَ مِنْ غَيْرِهِ) أي: ولا السِّواك اليابس من غيره، فيدخل في عموم الإباحة كل جنس من السِّواك رطباً أو يابساً، ولو افترق الحكم فيه بين الرَّطب واليابس لبيَّنه؛ لأنَّ الله ╡ فرض عليه البيان لأمَّته.
          (وَقَالَتْ عَائِشَةُ، عَنِ النَّبِيِّ صلعم : السِّواكُ مَطْهَرَةٌ لِلْفَمِ) المَطهرة _بفتح الميم_ إمَّا مصدر ميمي بمعنى اسم الفاعل من التَّطهير، وإمَّا بمعنى الآلة.
          وفي «الصِّحاح»: المَطهرة والمِطهرة؛ يعني: بفتح الميم وكسرها الإداوة، والفتح أعلى، والجمع: المطاهر، ويقال: السِّواك مَطهرة الفم (مَرْضَاةٌ لِلرَّبِّ) بالفتح مصدر ميمي أيضاً بمعنى الرِّضا. وقال المظهري: ويجوز أن يكون بمعنى المفعول؛ أي: مرضيُّ الرَّب.
          وقال الطِّيبي: يمكن أن يقال: إنَّها مثل: الولد مَبْخَلة مَجْبَنة؛ أي: السِّواك مظنة للطَّهارة والرِّضا؛ أي: يحمل السِّواك الرَّجل على الطَّهارة، ورضا الرَّب، وعطف مرضاة يحتمل التَّرتيب بأن تكون الطَّهارة به علَّة للرِّضا، وأن يكونا مستقلَّتين في العليَّة.
          ويستفاد من هذا الجواب لسؤال كيف يكون السِّواك سبباً لرضا الله تعالى؟ ويمكن أن يجاب عنه أيضاً: بأن الإتيان بالمندوب يوجب الثَّواب على أنَّه مقدِّمة للصَّلاة، وهي مناجاة الرَّب، ولا شكَّ أن طيب الرَّائحة يقتضي رضا صاحب المناجاة.
          وهذا التَّعليق وصله أحمد والنَّسائي وابن خزيمة وابن حبان من طريق عبد الرَّحمن بن عبد الله بن أبي عتيق محمَّد بن عبد الرَّحمن بن أبي بكر الصِّديق، عن أبيه عنها ♥ ، رواه عن عبد الرَّحمن هذا يزيد بن زريع، والدَّراوردي، وسليمان بن بلال وغيرُ واحد.
          وخالفهم حمَّاد بن سلمة فرواه عن عبد الرَّحمن بن أبي عتيق، عن أبيه، عن أبي بكر الصِّدِّيق ☺ أخرجه أبو يعلى، والسرَّاج في «مسنديهما» عن عبد الأعلى بن حمَّاد، عن حمَّاد بن سلمة.
          قال أبو يعلى في رواية: قال عبد الأعلى: هذا خطأ إنَّما هو عن عائشة ♦. / وقد وقع في غير رواية أبي ذرٍّ: تقديم تعليق عائشة ♦ مع تعليق عطاء وقتادة على تعليق أبي هريرة ☺، ومشى عليه في «الفرع»، لكن رقم على قوله: <وقال أبو هريرة> ميم مع علامة أبي ذرٍّ، ثمَّ كذلك على قوله: <وقالت عائشة> وذلك علامة التَّقديم والتَّأخير، هذا وليس يبنى عليه عظيم أمر.
          (وَقَالَ عَطَاءٌ) هو: ابنُ أبي رباح (وَقَتَادَةُ) هو: ابن دعامة: (يَبْتَلِعُ) أي: الصَّائم (رِيقَهُ) وقوله: يبتلع، من باب الافتعال كذا هو في رواية الأكثرين، وفي رواية المستملي: <يبلع> من البلع، وفي رواية الحموي: <يتبلَّع> من باب التفعل الذي يدلُّ على التكلُّف؛ يعني: ليس عليه شيء إذا بلع ريقه. وقد مرَّ عن قريب [خ¦30/26-3023] عن أصحابنا: أنَّ الصَّائم إذا جمع ريقه في فمه، ثمَّ ابتلعه لم يفطره، ولكنَّه يكره.
          وتعليق عطاء وصله سعيد بن منصور عن ابن المبارك عن ابن جريج: قلت لعطاء: الصَّائم يمضمض ثمَّ يزدرد ريقه وهو صائم، قال: لا يضره، وماذا بقي في فيه.
          وقال ابن بطَّال: ظاهره إباحة الازدراد؛ لما بقي في الفم من ماء المضمضة، وليس كذلك؛ لأنَّ عبد الرَّزَّاق رواه بلفظ: ((وماذا بقي في فيه؟!)) فكأنَّ ((ذا)) سقطت من رواة البخاري.
          وتعليق قتادة: وصله عبد بن حميد في «التَّفسير»، عن عبد الرَّزَّاق، عن معمر، عنه نحو ما روي عن عطاء.
          ومناسبة هذا الأثر للتَّرجمة من حيث إنَّ أقصى ما يخشى من السِّواك الرَّطب أن يتحلَّل منه شيء، وذلك الشَّيء كماء المضمضة، فإذا قذفه من فيه لا يضره بعد ذلك أن يبتلع ريقه.