نجاح القاري لصحيح البخاري

باب: إذا نوى بالنهار صومًا

          ░21▒ (بابٌ) بالتنوين: (إِذَا نَوَى) أي: الإنسان (بِالنَّهَارِ صَوْماً) فرضاً، أو نفلاً، وجواب إذا محذوف تقديره: هل يصح أو لا؟ وإنَّما لم يذكر الجواب؛ لاختلاف العلماء فيه على ما سيجيء إن شاء الله تعالى.
          (وَقَالَتْ أُمُّ الدَّرْدَاءِ) اسمها: خَيرة بفتح الخاء المعجمة وسكون التحتانية (كَانَ أَبُو الدَّرْدَاءِ) عويمر الأنصاري، وقد تقدَّما في باب فضل الفجر في جماعة [خ¦650] (يَقُولُ: عِنْدَكُمْ طَعَامٌ؟ فَإِنْ قُلْنَا: لاَ، قَالَ: فَإِنِّي صَائِمٌ يَوْمِي هَذَا) وهذا التَّعليق وصله ابن أبي شيبة من طريق أبي قلابة عن أمِّ الدَّرداء ♦ قالت: كان أبو الدَّرداء ☺ يغدو أحياناً ضحًى، فيسأل الغداء، فربَّما لم يوافقه عندنا فيقول: إذاً أنا صائم.
          وروى عبد الرَّزَّاق، عن معمر، عن الزُّهري، عن أبي إدريس، وعن أيُّوب، عن أبي قلابة، عن أمِّ الدَّرداء مثله. وعن معمر عن قتادة: أنَّ أبا الدَّرداء ☺ كان إذا أصبح سأل أهله الغداء، فإن لم يكن قال: أنا صائم.
          وعن ابن جُريج، عن عطاء، عن أمِّ الدَّرداء ♦، عن أبي الدَّرداء: أنَّه كان يأتي أهله حين ينتصف النَّهار، فذكر نحوه. ومن طريق شهر بن حوشب، عن أمِّ الدَّرداء، عن أبي الدَّرداء: أنَّه كان إذا دعا بالغداء فلا يجده، فيفرض عليه الصَّوم ذلك اليوم.
          (وَفَعَلَهُ) أي: فعل ما فعل أبو الدَّرداء ☺ (أَبُو طَلْحَةَ) زيد بن سهل الأنصاري. وصله عبد الرَّزَّاق من / طريق قتادة، وابن شيبة من طريق حميد كلاهما عن أنس ☺. ولفظ قتادة: أنَّ أبا طلحة كان يأتي أهله فيقول: هل من غداء؟ فإن قالوا: لا، صام يومه ذلك.
          قال قتادة: وكان معاذ بن جبل ☺ يفعله. ولفظ حميد نحوه، وزاد: وإن كان عندهم أفطر. ولم يذكر قصَّة معاذ.
          (وَ) فعله أيضاً (أَبُو هُرَيْرَةَ) ☺، وصل أثره البيهقيُّ من طريق ابن أبي ذئب، عن عثمان بن نجيح، عن سعيد بن المسيَّب قال: رأيت أبا هريرة ☺ يطوف بالسُّوق، ثمَّ يأتي أهله فيقول: عندكم شيء؟ فإن قالوا: لا، قال: فأنا صائم. ورواه عبد الرَّزَّاق بسندٍ آخر فيه انقطاع.
          (وَ) كذا فعله (ابْنُ عَبَّاسٍ) ☻ ، وصل أثره الطَّحاوي من طريق عمرو بن أبي عمرو، عن عكرمة، عن ابن عبَّاس ☻ : أنَّه كان يصبح حتَّى يظهر، ثمَّ يقول: والله لقد أصبحت وما أريد الصَّوم، وما أكلت من طعام ولا شراب منذ اليوم، ولأصومنَّ يومي هذا.
          (وَ) فعله كذلك (حُذَيْفَةُ) أي: ابن اليمان ☺، وصل أثره عبد الرَّزَّاق، وابن أبي شيبة من طريق سعد بن عبيدة، عن أبي عبد الرَّحمن السلمي قال: قال حذيفة ☺: من بدا له الصِّيام بعد ما تزول الشَّمس فليصم. وفي رواية ابن أبي شيبة: أنَّ حذيفة ☺ بدا له في الصَّوم بعد ما زالت الشَّمس فصام.
          ( ♥ ) وقد جاء نحو ما ذكرنا عن أبي الدَّرداء مرفوعاً من حديث عائشة ♦، أخرجه مسلم وأصحاب «السُّنن» من طريق طلحة بن يحيى بن طلحة عن عمَّته عائشة بنت طلحة. وفي رواية له: حدَّثتني عائشة بنت طلحة، عن عائشة أمِّ المؤمنين ♦ قالت: دخل عليَّ رسول الله صلعم ذات يوم فقال: ((هل عندكم شيء؟)) قلنا: لا، قال: ((فإنِّي إذاً صائم))، الحديث. ورواه النَّسائي والطَّيالسي من طريق سماك، عن عكرمة، عن عائشة ♦ نحوه، ولم يسمِّ النَّسائي عكرمة.
          وقد اختلف العلماء فيمن ينوي الصَّوم بعد طلوع الفجر الصَّادق: فقال الأوزاعي ومالك والشَّافعي وأحمد بن حنبل وإسحاق: لا يجوز صوم رمضان إلَّا بنيَّة من اللَّيل، وهو مذهب الظَّاهرية.
          وقال النَّخعي والثَّوري وأبو حنيفة وأبو يوسف ومحمَّد وزفر: يجوز النيَّة في صوم / رمضان والنَّذر المعين، وصوم النَّفل إلى ما قبل الزَّوال.
          وقال ابن المنذر: اختلفوا فيمن أصبح يريد الإفطار، ثمَّ بدا له أن يصوم تطوُّعاً: فقالت طائفة: له أن يصوم متى ما بدا له، فذكر أبا الدَّرداء وأبا طلحة وأبا هريرة وحذيفة وابن عبَّاس وابن مسعود وأبا أيُّوب ♥ . وساق ذلك بأسانيده إليهم، ثمَّ قال: وبه قال الشَّافعي وأحمد.
          وقال الحافظ العسقلاني: والذي نقله ابن المنذر عن الشَّافعي من الجواز مطلقاً سواء كان قبل الزَّوال أو بعده هو أحد القولين من الشَّافعي، والذي نصَّ عليه في معظم كتبه التَّفرقة بينهما، يعني: كما هو رأي الحنفيَّة حيث قالوا: من أصبح مفطراً، ثمَّ بدا له أن يصوم قبل منتصف النَّهار أجزأه، وإن بدا له ذلك بعد الزَّوال لم يجزئه.
          قال الحافظ العسقلاني: وهذا هو الأصح عند الشَّافعية.
          وقال ابن عمر ☻ : لا يصوم تطوُّعاً حتَّى يجمع من اللَّيل، أو يتسحَّر.
          وقال مالك: في النَّافلة لا يصوم إلَّا أن يبيت إلا إن كان يسرد الصَّوم، فلا يحتاج إلى التَّبييت، ودليله قوله صلعم : ((لا صيام لمن لم يبيِّت الصِّيام من اللَّيل)). وحديث: ((الأعمال بالنيَّات)) [خ¦1]. فالإمساك أوَّل النَّهار عمل بلا نيَّة، والقياس على الصَّلاة؛ إذ نفلها وفرضها في النيَّة سواء، وسيأتي [خ¦1924] جوابه إن شاء الله تعالى.
          وقال النَّووي: في هذا الحديث _يريد حديث عائشة ♦ السَّابق_ دليل الجمهور في أنَّ صوم النَّافلة يجوز بنيَّة في النَّهار قبل زوال الشَّمس.
          قال: وتأوَّله الآخرون على أنَّ سؤاله: هل عندكم شيء؛ لكونه كان نوى الصَّوم من اللَّيل، ثمَّ ضعف عنه، وأراد الفطر لذلك، أو المراد من السُّؤال أن يقول: اجعلوه للإفطار حتَّى تطمئنَ نفسه للعبادة، ولا يتكلَّف تحصيل ما يفطر عليه، فلمَّا قيل له: لا، قال: إنِّي صائم كما كنت. قال: وهو تأويل فاسد، وتكلُّف بعيد. انتهى.
          وقال مجاهد: الصَّائم بالخيار ما بينه وبين نصف النَّهار، فإذا جاوز ذلك، فإنَّما بقي له بقدر ما بقي من النَّهار. وقال الشَّعبي: من أراد الصَّوم فهو مخيَّر ما بينه وبين نصف النَّهار.
          وعن الحسن: إذا تسحَّر الرَّجل فقد وجب عليه الصَّوم، فإن أفطر فعليه القضاء، وإن همَّ بالصَّوم فهو بالخيار إن شاء صام، وإن شاء أفطر.
          وروى ابن أبي شيبة عن المعتمر، عن حميد، عن أنس ☺ قال: من حدَّث نفسه بالصِّيام فهو بالخيار ما لم يتكلَّم حتَّى يمتد النَّهار.
          وقال سفيان بن سعيد، وأحمد بن حنبل: من أصبح وهو ينوي الفطر، إلَّا أنَّه لم يأكل ولم يشرب ولا وطِئ، فله أن ينوي الصَّوم ما لم تغب الشَّمس، ويصح الصَّوم.